وباء كورونا يثبت مرة أخرى أن العالم قرية صغيرة

وباء كورونا يثبت مرة أخرى أن العالم قرية صغيرة

يشكل فيروس كورونا المستجد 19 الذي يدخل اكتشافه الشهر الرابع اليوم، تحديا جديدا عابرا للحدود والثقافات والأعراق والأجناس لا يقف أمامه فضاء ولا أرض ولا بحر. لقد جاء هذا الداء الخطير والذي ما زلنا في معرفة مراحله الأولى ونأمل أن تكون الختامية كذلك، ليثبت لهؤلاء الشعبويين المتعجرفين الذين يعتقدون أنهم يستطيعون أن يعيشوا في معازلهم بأنهم لا يتمتعون بالحصانة وأن جيوشهم وأسلحتهم لا تغني عنهم شيئا. إن عقلية “بلدي ومصالحي أولا وليذهب الباقي إلى الجحيم” تتساقط أمام هذا الفيروس الذي يدق الأبواب ولعله يعيد تذكير هؤلاء القادة بمفهوم العمل الجماعي والسياسة متعددة الأطراف والدبلوماسية المعولمة.

قبل نهاية الحرب الباردة في العقد الأخير من القرن الماضي، كان الهاجس النووي والحروب بين الدول وسباق التسلح والتنافس على عسكرة الفضاء الخارجي هي ما يشغل الدول الكبرى، لقد كانت تحديات المناخ والجوع والتمييز ضد المرأة والأقليات وحماية البيئة والهجرة القسرية والإرهاب غائبة عن المشهد الدولي. تغير المشهد كثيرا مع بداية العقد الأخير من القرن الماضي، فعقدت أول قمة للأرض في ريو دي جانيرو عام 1992 وعقد أول مؤتمر دولي حول حقوق الإنسان في فيينا عام 1993 وعقدت أول قمة للتحديات السكانية في القاهرة عام 1994 وعقد أول مؤتمر دولي صدر عنه برنامج عمل لتمكين المرأة عام 1995 في بيجين، وعقد أول مؤتمر دولي لموضوع التنمية الاجتماعية “قمة الفقر” في كوبنهاغن عام 1995 وأول مؤتمر دولي للموئل استضافته إسطنبول عام 1996 وتوصل العالم إلى بروتوكول كيوتو حول المناخ عام 2005 وعقد في مدريد مؤتمر دولي حول الإرهاب الدولي عام 2005 ودخلت منظمة التجارة العالمية ميدان العمل عام 1995 وانشئت المحكمة الجنائة الدواية وبدأت عملها عام 2002 كما أنشأت الأمم المتحدة البرنامج المشترك لوكالات الأمم المتحدة لمكافحة متلازمة نقص المناعة البشرية المكتسب “أيدز” عام 1994 والذي سجل نجاحات باهرة بحيث طور مجموعة من الأدوية والأمصال وأعلن رسميا أنه سيتم القضاء على الداء الذي حصد الملايين بحلول عام 2030.

كل هذه الإنجازات متعددة الأطراف حصلت بعد ترسيخ مبدأ التعددية والعمل الجماعي، وبعد أن ولج العالم مرحلة العولمة في التجارة والبيئة ومحاربة الفقر والإرهاب وحماية الحيوانات والنباتات المهددة بالإنقراض والتحول نحو الطاقة الخضراء وحماية الأطفال في مناطق الصراع ومحاربة التمييز بكل أشكاله. لقد مثل عهد الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما أفضل ما في العمل الجماعي والعولمة. خاطب الجمعية العامة يوم 24 أيلول/سبتمبر 2009 وكان في سنته الأولى في البيت الأبيض قائلا: “لقد آن الأوان للعالم أن ينطلق في اتجاه جديد، إذ علينا أن نتبنى عهدا جديدا من المشاركة القائمة على المصالح المتبادلة والاحترام المتبادل وينبغي لعملنا أن يبدأ الآن”.

إذن، عالم ما بعد الحرب الباردة أصبح قرية صغيرة، وأصبحت كلمة العولمة من أكثر المصطلحات استعمالا في العصر الحديث والتي تعني أشياء كثيرة لكنها في الأساس تشير إلى تقارب أرجاء الأرض وتشابك مصالحها وما يتعرض له بلد صغير في أي مكان قد يؤثر على العديد من الدول، ولم تعد أي منطقة أو بلاد في مأمن، وما نشاهده من هجرة قسرية وتدفق للاجئين وانتشار للمتطرفين والإتجار بالبشر وتجارة المخدرات وانتقال الأمراض المعدية والظواهر المناخية، أمثلة تؤكد أن هناك تحديات كونية لا يمكن الانتصار عليها بجهود دولة أو مجموعة من الدول بل بجهود جماعية مركزة تخضع لبرنامج مركزي يقوده العلماء والمختصون لتنسيق الجهود ووصف الأعراض والتوافق على حلول.

من هذه التحديات الكونية الجديدة ما نشهده الآن من حال الذعر التي تنتشر هذه الأيام جراء العدوى من فيروس كورونا المستجد 19. ورغم ما في الأمر من مبالغات مقصودة، وخاصة فيما يتعلق بالصين، إلا أننا، كما يبدو، على أبواب أن يتحول هذا الداء إلى وباء ينتشر في العالم أجمع، كما حدث مع أمراض الأيدز وسارس وإيبولا.  وقد تم تشخيص حالات من هذا الداء في 44 دولة من كل المناطق والقارات من البرازيل إلى اليابان مرورا بإيران ودول الشرق الأوسط. لقد بلغ عدد المتوفين خارج الصين أكثر من 50 شخصا.  وهناك ثلاث دول بدأت توزع الفيروس على جيرانها وهي إيران وكوريا الجنوبية وإيطاليا. فإيران نقلت الداء إلى لبنان والكويت والعراق والإمارات العربية وبالتالي وصل إلى البحرين وعمان، ولا نشك أن الفيروس سيتسرب إلى دول المنطقة كلها وقد يخرج عن السيطرة في ظل إجراءات وقائية ضعيفة واستعدادات لحالات الطوارئ أضعف.

ونستطيع أن نقرأ قليلا في المستقبل القريب، إذا ما استمر هذا الداء ينتشر كل يوم ويدخل مناطق جديدة، بأن العالم مقبل على ركود اقتصادي كبير قد يكون الأخطر منذ الانهيار الاقتصادي العظيم سنة 1929 أو على الأقل مثل الأزمة الاقتصادية الكبرى عام 2008. فانتشار الداء سيصاحبه توقف في حركة السفر وتعثر السياحة تماما بما تحمله من إلغاء حجوزات فنادق وغيرها من الصناعة السياحية وإلغاء المهرجانات والأعياد وقد يلغى موسم الحج المقبل بعد منع دخول المعتمرين إلى مكة والمدينة. كما سيتم تعثر حركة التجارة وإلغاء العقود وسحب الاستثمارات وتراجع المداخيل وتجميد المنشآت الكبرى وتعثر الدراسة في المدارس والجامعات والضغط على المنشآت الصحية وتراجع قيمة الأسهم وارتفاع الأسعار. وهذه كلها ستؤدي إلى شبة انهيار اقتصادي كبير يخلخل البنى الاقتصادية العالمية ويؤدي إلى إفلاس بعض الدول الهشة كما حدث بعد صدمة البترول عام 1973. كما ستتراجع الدول المانحة عن تمويل المساعدات الإنسانية ومساعدة الدول النامية وتسهيل القروض والمنح والاستثمارات. إذن نحن أمام كارثة عالمية حقيقية إن لم يقم المجتمع الدولي بمجموعة خطوات لاحتواء الداء وبسرعة فلا وقت للتردد. فما هو المطلوب الآن على المستوى العالمي كي تتفادى الدول صغيرها وكبيرها مثل هذه الكارثة؟

كما يقول المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم جبريسوس، العالم يقف على مفترق طرق فإما احتواء الداء أو أنه سيخرج عن السيطرة. لذلك فالمطلوب من المجتمع الدولي وتحت قيادة مشتركة على رأسها منظمة الصحة العالمية القيام بالخطوات السريعة التالية:

أولا: تشكيل مكتب مركزي مكون من الخبراء والاختصاصيين من كل أنحاء العالم بحيث يتم تنسيق الجهود الجماعية وتبادل الخبرات واقتراح الخطوات العملية بشكل جماعي، كما فعل مكتب   UNAIDS الذي نسق الجهود الجماعية لمكافحة الداء.

ثانيا: يتم تبادل المعلومالت بين الدول والوزارات المختصة ودور البحث والمختبرات الطبية حول مواصفات الفيروس وآخر المستجد ت في عالم الأبحاث المخبرية حول الفيروس.

ثالثا: تقوم منظمة الصحة العالمية بحملة توعية وطباعة كتيبات ومطويات حول المرض وطرق الوقاية منه. ويتم تعميم الكتيب والمطوية على أكبر عدد من الناس وفي كل الدول.

رابعا: البحث بسرعة عن إيجاد بدائل احترازية ووقائية للعمال والموظفين الأساسيين الذين لا تستغني الدولة عنهم. كما تقوم الدولة بتعويض هؤلاء وتقدير دورهم الكبير.

خامسا: يتم تقديم برامج تلفزيونية وإذاعية وصحافية عن المرض وأساليب تجنب الإصابة به، وإن وقعت الواقعة فلا بد من إتخاذ إجراءات عزل إنسانية بحيث لا يصاحب ذلك المرض الشعور بالعار أو الذنب للمصاب وهو ما يضره أكثر.

وأخيرا، لا بد من إنشاء صندوق طوارئ بعدة مليارات للتعامل مع الداء قبل استفحاله بحيث يتم توفير المصاريف المطلوبة لحالات الطوارئ وخاصة في الدول الضعيفة. ولا بد من توفير عدد مهم من الخبراء والمختصين جاهزين تحت الطلب لنشرهم بين المرضى والمصابين للعلاج.

إنه وقت اتخاذ القرارات وتعميم ثقافة الوقاية والقيام بإجراءات سريعة وفاعلة على الأرض بحيث لا تثير ذعرا بين المواطنين.

إنه وقت اتخاذ إجراءات لمنع العدوى وإنقاذ الأرواح، إنه وقت الاستعداد ليس فقط لاستقبال أول حالات المرض أو قطاعات العدوى، ولكن أيضا لوقف الانتشار الكامل للوباء في كل مكان.

عبدالحميد صيام

القدس العربي