نشرت مجلة “بوليتيكو” مقالا أكدت فيه أنه عندما بدأ فيروس كورونا يتفشى في العالم كان تركيز العالم على الصين، البلد الذي بدأ فيه.
وقال كاتب المقال مايكل نايتس، من معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى: “لكني بصفتي مراقبا للشرق الأوسط على مدى العشرين سنة الماضية، أصبحت مهتما بالموضوع عندما ظهر الفيروس في إيران، التي تعد شريكا تجاريا مع الصين، وفيها نظام ديكتاتوري مخادع، يشبه النظام في الصين”.
وأوضح الكاتب أن “الأسواق المالية والقيادات السياسية تراقب وصول الفيروس إلى أوروبا وأمريكا، إلا أن ما يحصل في إيران، التي تعد نقطة جغرافية مهمة تربط آسيا ويوروآسيا وشبه الجزيرة العربية والشام، يجب أن يحمل المستوى ذاته من القلق”.
وأشار إلى أن “صعوبة مكافحة انتشار الفيروس في بلد لم تعرف عنه الشفافية اتضحت يوم الإثنين، عندما ظهرت بوادر الإصابة على نائب وزير الصحة الإيراني خلال مؤتمر صحافي، وقبل ذلك بساعات وصف الرئيس الإيراني حسن روحاني تفشي الفيروس بأنه (مؤامرة من أعداء) إيران، وحتى بعد أن اعترف بأن فحصه أظهر أنه فعلا مصاب، إلا أن نائب وزير الصحة قلل من شأن المخاطر، وأصر على أن التقارير التي تحدثت عن وفاة 50 في مدينة قم مبالغ فيها، وأنه لا حاجة للحجر”.
وقال إن “التقليل من شأن أثر انتشار الأوبئة لا يقتصر على المسؤولين في الحكومة الإيرانية، بل هي ظاهرة منتشرة بين الخبراء في الشرق الأوسط، الذين يميلون إلى التركيز على مخاطر الحرب والإرهاب عندما يقومون بإعداد تنبؤاتهم”.
وأضاف أن “انتشار فيروس كورونا إلى مهد أقدم وأعظم الحضارات يعد تطورا دراميا تنبني عليه تداعيات طويلة الأمد في المنطقة والعالم، فسوف تصبح الأوبئة قريبا أمرا مألوفا ومحركا للمجتمع المستقبلي”.
ولفت الباحث إلى أن “أحد الأفكار الناتجة من الناظرين للمستقبل -وأوجه الانتباه إلى كتاب الروايات وخبراء الاقتصاد وعلماء الاجتماع والتكنولوجيا- هي فكرة أن الأوبئة ستكون سببا في تقليص العولمة أو حتى وقفها تماما، ففي رواية The Windup Girl لمؤلف الخيال العلمي الأمريكي باولو باسيغالبس، يكون مسرح الرواية تايلاند مستقبلا، حيث يتم الحديث فيها عن العولمة في زمن سابق، وينظر إليها على أنها تذكر بـ(التمدد)، ففي وجه الأوبئة والحرب على الموارد، انهارت التجارة العالمية إلى واقع جديد يعرف بـ(التقلص)”.
ونوه نايتس إلى أن “هذه المفاهيم بدأت في الظهور في الشرق الأوسط، ولهذا السبب وضعت الأوبئة في مركز تنبؤاتي للمنطقة، فبالإضافة لكون الشرق الأوسط هو المركز الفعلي لحركة الطيران العالمي وللطاقة ومركز النقل البحري، فقد أضعف الشرق الأوسط بالحروب والفساد والخدمات الصحية الفاشلة والأنظمة المخادعة، التي قد تحاول التغطية على حجم الأوبئة مستقبلا، كما تحاول الحكومة الإيرانية فعل ذلك الآن”.
وأفاد الكاتب بأن “مخيمات اللاجئين (مثل مخيم الزعتري في الأردن، الذي يضم 80 ألف لاجئ) تشكل نقاط ضعف، بالإضافة إلى أن تسلل اللاجئين إلى أوروبا يشكل خطرا إضافيا لنشر الأوبئة عن طريق الشرق الأوسط”.
وقال نايتس إن “الحروب الأهلية وأزمة اللاجئين تمنحنا اليوم فكرة عن كيفية تشكيل الأوبئة لمستقبل العالم، وفي عملي رأيت كيف يجتمع الإرهاب واللاجئون ومحدودية الموارد لتختبر تماسك المجتمعات”.
وأشار الباحث إلى أن “آفة تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة أبرزت ردودا متباينة من شعوب الدول الضعيفة، مثل العراق وسوريا واليمن، وأحيانا حاولت المناطق المستقرة أن تعزل نفسها، وتحد من حركة سكان الريف من الطوائف الأخرى، أو حتى الاستئثار بالمصادر، مثل الكهرباء، ومنعها عن المناطق المتأثرة بالحرب الأهلية”.
واستدرك نايتس بأن “ما جعلني أشعر بالصدمة هو الاستقبال المنفتح والمرحب من (الذين يملكون) للذين (لا يملكون) من المجتمعات الأقل حظا و(المصابة) بالحرب، وستكون العلاقات الاجتماعية القوية والمتراحمة والمجتمعات التي تعيش دون ضوابط كبيرة منفتحة تماما للأوبئة المستقبلية، مثل فيروس كورونا”.
ولفت الكاتب إلى أن “ترنيمة العولمة التي يتم ترديدها دائما هي أننا نعيش في عالم يصغر طوال الوقت، ما يجعل السفر وطلب البضائع أكثر سهولة وسرعة وأرخص، لكن ماذا لو كان المستقبل كما تنبأ باسيغالبس في روايته (تقلص)؟”.
وقال نايتس: “بالتفكير في منطقة الشرق الأوسط، يمكنني أن أتخيل بعض الأشياء التي يمكن أن تتأثر، ستبقى السلع تتدفق ما دامت هناك حاجة للنفط؛ لأن بالإمكان إدارة قطاع نفط وغاز بأقل عدد من الناس المحميين بشكل جيد، وصادرات الطاقة عادة لا تشكل خطر نقل العدوى”.
ونوه الكاتب إلى أنه “في المقابل، فإن حركة الناس ستتغير تماما بسبب الآثار القوية الاجتماعية والاقتصادية على أجزاء من المنطقة، تخيل مثلا الحد من تدفق الحجاج إلى مكة، وخروج التكنوقراط الأجانب من دبي، أو نهاية استيراد العمالة من آسيا للخليج”.
ويفيد نايتس بأن “مجتمعات كثيرة تعتمد على السفر، بما في ذلك العديد من الدول الغربية، فعندما علقت في المملكة المتحدة عام 2010 بسبب غيوم الرماد الصاعدة من بركان Eyjafjallaj kull في آيسلندا، كان لدي الوقت لأتخيل كيف ستتطور الحياة في المملكة المتحدة في ظل امتناع الطيران بشكل دائم”.
وبيين الباحث أنه “بحسب سيناريو التقلص، فإنه عندما يريد الناس العمل في بلد ما فقد يحتاجون للالتزام بالعيش بشكل دائم في ذلك البلد، وفي المستقبل القريب سيكون فيلم (Code 46) هو شكل الحركة عبر الحدود، وهو جهد بيروقراطي معقد يحمل في طياته خطورة الاستثناء الدائم، وعلى الدول -بما فيها دول الخليج- أن تعيد النظر في قوانين المواطنة لتشجيع الهجرة المستهدفة”.
وأشار نايتس إلى أن “الأمر الإيجابي بالنسبة لسكان الشرق الأوسط أنه بعد فترة صعبة من التأقلم قد يأتي تطور الاقتصاد المحلي، وهذا التطور قد يكون في طريقه على أي حال مع وصول الطباعة ثلاثية الأبعاد إلى مرحلة متطورة، وكذلك تكنولوجيا النانو، ما يجعل من غير الضروري نقل البضائع من أماكن بعيدة، فبالنسبة لبلدان فاتها قطار الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، بما فيها معظم دول الشرق الأوسط، قد يكون هناك ما يبعدها عن الاعتماد على الاستيراد تجاه خلق فرص عمل جديدة”.
ولفت الكاتب إلى أن “انتشار الأفكار والثقافة عالميا قد لا يتأثر مباشرة بالتقلص الناتج عن الأوبئة، لكن قد يكون هناك ارتفاع في القومية والتعصب للسكان الأصليين، والتوجه نحو الحماية، وهو ما بدأ يطل برأسه كرد فعل على التنويع الاجتماعي والاقتصادي للعولمة”.
ويقول نايتس: “قد يكون الكثير من سكان الشرق الأوسط سعيدين برؤية تخفيف أثر ما وصفه مساعد هنري كيسنجر، ديفيد يونغ، (خطر الثقافة السائدة)، وهو خطر أن تتسبب العولمة في جعل الأماكن كلها متشابهة، وتمحو الفروق التي تعطي بهجة ودهشة”.
ويجد الباحث أن “الدول القومية قد تصبح أقوى في مستقبل تسوده الأوبئة؛ لأنها تستطيع التحكم فيمن يدخل ومن يخرج؛ ولأنه ستكون لديها حدود محمية بشكل جيد، لكن الدول ستكسب شرعية فقط عندما تثبت فعاليتها تجاه الأوبئة والتهديدات الأخرى”.
وقال نايتس إن “الدول غير الفعالة، التي لها حدود طويلة وأنظمة صحة عامة رديئة -مثل روسيا وإيران وربما الصين- قد تثبت أنها الأكثر عرضة في النظام البيئي الجديد الذي يتكرر فيه انتشار الأوبئة، وفي تلك الدول الأكثر عرضة قد تكون النتيجة انقسامات إلى وحدات أصغر أكثر ترابطا، وربما أكثر ديكتاتورية، هي التأثير الطبيعي للتقلص الناتج عن الأوبئة”.
ويبين الكاتب أنه “حيث العالم اليوم يصغر حجمه، إلا أن هناك ما يدعونا (مجتمعين وأفرادا) أن نفكر كيف يمكننا التعايش مع عالم أكبر مرة ثانية، حيث كل مكان أبعد عن الآخر، وحيث يصبح الفاعلون المحليون هم من يملكون مستقبلهم مرة ثانية”.
وختم نايتس مقاله بالقول إنه “في الوقت الذي تصبح فيه الأوبئة خاصية سائدة للنظام العالمي، فإن (التمدد) قصير الأمد مهدد بالانتهاء، وبعض دعاة الانعزال في أمريكا قد يرون في انتشار الأوبئة سببا إضافيا للنظر إلى العالم على أنه مكان خطير يجب تجنبه بأي ثمن، ومن ناحية أخرى فإن كانت أمريكا لا تزال تؤيد النظام العالمي والأسواق العالمية، فهي بحاجة إلى أن تقود دفاعا مشتركا ضد تهديد الأوبئة، التي هي بمثابة الزلزال العالمي القادم الذي يشكل فيه فيروس كورونا مجرد هزة لطيفة”.
القدس العربي