مع مرور ثلاثة أشهر على اغتيال القوات الأميركية قائد “فيلق القدس” الإيراني الجنرال قاسم سليماني، في الثالث من يناير/ كانون الثاني الماضي، بغارة جوية قرب مطار بغداد الدولي، إلى جانب ضباط آخرين من “الحرس الثوري” والقائد العسكري لفصائل “الحشد الشعبي” أبو مهدي المهندس، يرصد عدد من الخبراء والمسؤولين ونواب في البرلمان العراقي، بأحاديث مع “العربي الجديد”، المتغيّرات، السياسية والأمنية، على الساحة العراقية. سليماني، الذي ظل المتحكم الأول في المشهد السياسي والأمني في البلاد، منذ تراجع النفوذ الأميركي في العراق خلال ولاية الرئيس السابق باراك أوباما والتي انتهت بالانسحاب الكامل من العراق، كانت آخر زيارة له إلى بغداد قادماً من دمشق، بعد رحلة قصيرة في بيروت، من أجل إنهاء الخلافات بين الكتل السياسية الشيعية حول منصب رئيس الحكومة البديل عن عادل عبد المهدي، الذي استقال نهاية ديسمبر/ كانون الأول الماضي.
”
سليماني كان مسؤولاً عن إبقاء الأزمات والتنافس والصراع بين القوى السياسية والفصائل المسلحة تحت السيطرة
”
وتمتد علاقة سليماني مع القيادات السياسية العراقية الحالية إلى مطلع ثمانينيات القرن الماضي، خلال وجودها في إيران ضمن المعارضة، مثل حزب الدعوة الإسلامية، والمجلس الإسلامي الأعلى، إذ شارك قسم منها في القتال ضد الجيش العراقي، ضمن ما يعرف بأفواج “أنصار الثورة الإسلامية”، التي أنتجت فيما بعد “فيلق بدر 9″، و”متطوعي الجهاد المقدس”. كذلك شاركت في الهجوم البري الفاشل للحرس الثوري الإيراني على البصرة وموانئ العراق على الخليج في عام 1987، بهدف السيطرة عليها. واستمر ارتباط المعارضة العراقية، المقيمة في إيران، بقاسم سليماني طيلة الفترة التي أعقبت انتهاء الحرب بين العراق وإيران ولغاية عام 2003، وهو ما يعتبره مراقبون أحد أسباب قوة تأثير سليماني على القيادات الحالية.
وأقرّ وزير عراقي سابق وعضو حالي في ائتلاف “الفتح”، بزعامة هادي العامري، بأن سليماني كان “مسؤولاً عن إبقاء الأزمات والتنافس والصراع بين كل القوى السياسية الشيعية والفصائل المسلحة تحت السيطرة”. ويشير إلى أنه “في الوقت الحالي، لا سقف معين لأي أزمة بين القوى السياسية الشيعية، وبديل سليماني غير قادر على أن يشغل ولو ربع مكانه. وقد تشتد الأزمات ذات الطابع الشخصي مستقبلاً، خصوصاً قبل الانتخابات، إذا أجريت”.
وأكد أن القوى السياسية العراقية، منذ عام 2003 حتى الآن، “اعتادت على الراعي أو المُصّلح للأخطاء. ففي 2003 كان الأميركيون يعملون على إصلاح الأخطاء. وحتى مع إنهاك موازنة الدولة بالفساد، كانت واشنطن لا تسمح بحصول أزمة مالية أو اختناق، وترفد وتدعم، بل وتمنع القضاء من محاسبة شخصيات متهمة بالفساد، حتى لا تحدث أزمة سياسية، أو تظهر بمظهر الراعي للفساد. وأسست نظرية إلقاء كل شيء على النظام السابق (صدام حسين). وبعد تراجع الدور الأميركي كانت إيران، عبر سليماني، تتبنّى دور الراعي الرئيس بمختلف جوانبه. فبعد اجتياح داعش في 2014 هرع القادة وزعماء الكتل، وأولهم (رئيس الحكومة الأسبق) نوري المالكي، يطلبون منه المشورة والمساعدة، بصيغة ماذا نفعل وكيف نصنع؟ وحتى في أزمة قطع تركيا مياه (نهر) دجلة عن العراق قبل عامين طلبوا مساعدته. لكن حسابات إيرانية خاصة مع تركيا منعت سليماني من التدخل، رغم أن تدخله من عدمه لم يكن مجدياً في هذا الموضوع تحديداً”.
وأشار الوزير السابق إلى أن “المشهد السياسي تغيّر كثيراً. فهناك الآن كتل ونواب متمردون، ويتخذون قرارات من تلقاء أنفسهم، ويتمسكون بها. وأمنياً أيضاً، زادت الخلافات بين الفصائل المسلحة، وأصبحت واضحة للعيان، وكلها تتمحور حول المكاسب ومناطق النفوذ وأخرى شخصية. وهناك سباق للتجنيد وإظهار القوة أيضاً. كذلك يوجد تمرّد على قرارات الحكومة، تمثل باستمرار هجمات الكاتيوشا على القواعد الأميركية وقصف المنطقة الخضراء”، معتبراً أنه “باغتيال سليماني، عادت مرحلة التغييرات وكسر الأنماط، التي اعتاد عليها العراق بعد 2003 على الأقل سياسياً”.
القيادي في “جبهة الإنقاذ والتنمية” ومحافظ نينوى السابق أثيل النجيفي قال، من جهته، إن “إيران خسرت باغتيال سليماني كثيراً داخل العراق”. وأضاف، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن “طهران كانت تعتمد في ملف السيطرة على الفصائل المسلحة الموالية لها على قاسم سليماني بشكل رئيس، فكلامه مسموع ودوره في إدارتها وتحشيدها واضح، وقد أخفقت في تعويضه حتى الآن”. وأوضح أنه “بالتزامن مع اغتيال سليماني كان هناك تراجع بالدعم الذي تقدمه إيران للفصائل المسلحة، ما جعل هذه الفصائل تشعر بأن صلة طهران بها قد ضعفت، وهي بحاجة إلى الاعتماد على نفسها، ما أشعل صراعات وخلافات على النفوذ داخل الدولة العراقية، وكذلك على المناطق”. وتابع أن “الدور الذي فقدته طهران بغياب سليماني لن يستطيع أحد تعويضه. إيران خسرت الكثير في العراق من الناحية السياسية والأمنية”.
في المقابل، قال الخبير بالشأن العراقي هشام الهاشمي، لـ”العربي الجديد”، إن “إيران ما زالت غير قادرة على إيجاد شخصية بإمكانها ملء الفراغ الذي خلقه غياب قاسم سليماني”. وأضاف أن “اغتيال قائد فيلق القدس سبّب خسارة كبيرة لإيران على مستوى تصدير الثورة للعالم العربي، فهو يملك تاريخاً في صناعة الشبكات المسلحة العقائدية بالمنطقة، بحيث يصنع لها قيادات ولائية، ويحشد جماهيرياً لتمكين تلك الشبكات محلياً من الحكم عبر نفوذها الفصائلي والاقتصادي والعسكري، أو عبر استخدام الوسائل الديمقراطية”. وبرأي الهاشمي، “على مستوى العراق وسورية، فإن القيادات الفصائلية الولائية اعتبرت سليماني قائدها الأوحد، وحين غاب عن المشهد فقدت تماسكها وتوازنها، وأصبحت تتناقص حزبياً وسياسياً وعسكرياً”.
”
هناك الآن كتل ونواب متمردون يتخذون قرارات من تلقاء أنفسهم ويتمسكون بها
”
الدبلوماسي الإيراني السابق أمير الموسوي رأى في حديث مع “العربي الجديد” أن “الولايات المتحدة الأميركية تحاول أن تستغلّ الفراغ الذي تركه قاسم سليماني، وأن تفرض واقعاً سياسياً جديداً في البلاد يخدم أجندتها”، معتبراً أن “الكتل السياسية في العراق كانت تعتبر سليماني ناصحاً لها وتحترم رأيه، وكانوا يستدعونه إلى العراق في كل أزمة سياسية. وغيابه أدّى إلى حدوث فراغ كبير في المشهد السياسي”. وتابع أن “اغتيال سليماني كان له تأثير مباشر على الوضع في العراق، فقد تم كسر الهيبة الأميركية من خلال استهداف طهران لقاعدة عين الأسد بمحافظة الأنبار، وعدم الرد الأميركي يدلّ على أن اليد الأطول في المنطقة هي لإيران”. وأقرّ الموسوي بأن “تعويض إيران خسارة سليماني، وايجاد شبيه له، يحتاج إلى وقت، فالشخصية التي كانت لدى سليماني خاصة به، ولهذا لا يمكن ملء هذا الفراغ بسهولة”.
واعتبر الموسوي أن “التخبّط السياسي في العراق بقضية اختيار رئيس وزراء جديد سببه غياب سليماني، وأن إيران سحبت يدها، ولا تريد أن تتدخّل في هذا الأمر، حتى بصفة المشورة. لكن إصرار القوى السياسية، الشيعية والسنية والكردية، جعل طهران تتدخّل مرة جديدة، من باب إبداء المشورة. ولهذا جاءت زيارة الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني إلى بغداد أخيراً بطلب من قيادات تلك القوى، وخصوصاً أن الملف السياسي العراقي بيد المجلس القومي الإيراني، على الرغم من أن سليماني كان في الواجهة”. وقال الموسوي إن “غياب سليماني عن المشهد السياسي خسارة عراقية أكثر مما هي إيرانية، لأن العراقيين خسروا شخصية كانت تمثل لهم مرجعية سياسية ناصحة. كما أن اغتياله لم يؤد إلى تمرّد الفصائل المسلحة على إيران”.
لكن عضو الحزب الشيوعي العراقي علي الحلو، وصف، في حديث لـ”العربي الجديد”، “كلام الموسوي بأنه استمرار للكذب الإيراني المعروف على مستوى القيادات والمحسوبين على النظام”. وقال إن “قاسم سليماني أقصى كل عمل سياسي مستقل أو مدني أو وطني رافض للنفوذ والهيمنة الإيرانية، بل وكان سبباً رئيسياً في تزييف عملية الانتخابات وتدمير بنى مهمة في المجتمع العراقي. لذا رحيله فرصة مهمة للتغيير. نأسف أن بلداً عظيماً مثل العراق كان خاضعاً لإرادة هذا الشخص. لكن بالنهاية، أميركا تتحمّل المسؤولية، على اعتبار أنها أساس أو نواة الخراب الأولى في العراق”.
عادل النواب، محمد علي
العربي الجديد