في مقالة كتبتها في تشرين الثاني ـ نوفمبر 2018، وكانت بعنوان «كلاكيت: داعش مرة ثانية»، أكدت ما أردده دائما من أن الدولة العراقية، وعلى جميع مستوياتها ومؤسساتها المختلفة، بعيدة تماما عن أن تكون قد تعلمت من درس داعش! فالمعادلة التي حكمت إدارة السلطة/ الدولة في العراق هي نفسها لم تتغير مع كل ما مر به العراق، ولا وجود لإرادة حقيقية من أجل الاتفاق على آليات محددة لمعالجة المقدمات التي أوصلتنا إلى لحظة داعش وكل ما استتبع ذلك. بل بالعكس تماما حيث إن ثمة إصرارا غريبا على إعادة «ترتيب» المعادلة المختلة القديمة نفسها، نحو مزيد من الاختلال، خاصة أن وهم القوة الذي يعيشه البعض يمنعه من تعلم الدرس الحقيقي لما حدث، الأمر الذي قد يعيد إنتاج الكوارث نفسها بشكل أو بآخر.
وعلى المستوى العسكري قلنا إن الاستراتيجية التي اعتمدت في الحرب على داعش والتي ارتكزت على ما أسميناه بـ»نقلة الفرس»؛ أي التركيز على طرد تنظيم داعش من المدن التي سيطر عليها، دون ملاحقة عناصره التي تنسحب عادة باتجاه محيط تلك المدن. هكذا وجدنا المعارك تنتقل من مدينة إلى أخرى، ومن محافظة إلى اخرى، دون تحقيق نصر حاسم يضمن هزيمة نهائية لداعش! في المقابل تكيف داعش مع هذه الاستراتيجية، عبر استراتيجيات بديلة؛ فباستثناء بيجي لأهميتها كعقدة مواصلات بالنسبة للتنظيم، وباستثناء الموصل لقيمتها الرمزية، انسحبت داعش من جميع المدن بعد معارك تكتيكية من أجل تعطيل تقدم القوات العسكرية العراقية، وعمدت إلى اللجوء إلى معارك استنزاف معها في المقتربات الطويلة الفاصلة بين المدن. وبسبب التكتيك العسكري الذي اعتمدته القوات العراقية، والمبني على عناصر ثلاثة هي: قوات قتالية كبيرة، وكثافة نارية عالية، وغطاء جوي، لم تتمكن هذه القوات، بعد استعادتها الموصل، من ملاحقة عناصر داعش المنسحبين إلى مناطق تواجدهم الرئيسية، والتي سيطروا عليها قبل كانون الاول 2013 حين هاجم التنظيم مدينتي الرمادي والفلوجة، وقبل حزيران 2014 عندما هاجم الموصل حيث لايزال هؤلاء ينتشرون في مساحات صحراوية شاسعة مليئة بالوديان، أو في مناطق جبلية وعرة كما هو الحال في جبال حمرين ومكحول. وأن القوات العراقية ما زالت غير مؤهلة حتى اللحظة للقيام بعمليات خاصة تعتمد على عناصر مرنة في الحركة وذات تدريب عال يمكنها ملاحقة تنظيم الدولة/ داعش في المناطق التي يتواجد فيها. وبالتالي ظل التنظيم يمتلك القدرة على خوض حرب استنزاف ضد القوات العسكرية والأمنية العراقية لفترة طويلة، فضلا عن إمكانية القيام بعمليات إرهابية نوعية كالتي كان يقوم بها من قبل.
في الأسابيع الأخيرة، بدا واضحا أن داعش يشكل خطرا حقيقيا، سواء على مستوى عدد الهجمات التي يقوم بها في جغرافيا واسعة، أو في طبيعة عملياته، ليس في العراق فقط، وإنما في سوريا أيضا! وقد تزامن هذا مع إعادة انتشار القوات الامريكية في العراق، التي فرضت انسحابا من جميع القواعد العسكرية التي كانت تتمركز فيها، لتتجمع في قاعدتين فقط هما قاعدة الأسد في الانبار وقاعدة حرير في أربيل. وهو ما يعني عمليا تراجع الجهد العسكري، الاستخباري واللوجستي، الذي كانت توفره القوات الأمريكية للقوات العراقية التي تتمركز بمعيتها في تلك القواعد. فضلا عن تداعيات أزمة كوفيد ـ 19 التي فرضت على القوات العسكرية والأمنية العراقية إعادة نشر قواتها المنفتحة في مناطق واسعة، لتقوم بمهام مرتبطة بتطبيق إجراءات الحظر والعزل من جهة، كما فرضت عليها بعض التقييدات فيما يتعلق بتنقل المنتسبين بين المحافظات والمدن.
مرحلة الاستقرار المنشود لا يمكن أن تتحقق في ظل ازدواجية المؤسسات العسكرية، وفي ظل ازدواجية القرار العسكري والأمني، مع الانشقاقات التي حدثت مؤخرا! وبالتالي لا بد من توافق وطني على حل هذه المشكلة الجوهرية
إن هذه التطورات تفرض على الجميع إعادة النظر فيما يتعلق بالاستراتيجيات المتعلقة بمنع عودة داعش مرة أخرى لأنه هنا لا يشكل خطرا أمنيا وحسب، بل يحاول استعادة حلمه بالعودة إلى «أرض التمكين» التي حققها في العام 2014 (يستمد مفهوم أرض التمكين الذي اعتمدته داعش على الآية الكريمة في سورة الحج: «الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور» وهم يستخدمونها ككناية عن الدولة الإسلامية). هذه الاستراتيجية يجب ان تقوم على ما يمكن تسمته بـ «الأمن المحلي»، الذي يقوم على مجموعة من العناصر المتكاملة فيما بينها.
المسألة الأولى: عودة النازحين؛ فعلى الرغم من مرور 29 شهرا تقريبا على إعلان خطاب النصر على داعش، لا يزال هناك 1.39 مليون نازح (تبعا لأرقام منظمة الهجرة الدولية حتى 31 آذار/ مارس 2020)، وكثير من هؤلاء يعيشون في مناطق تشكل خواصر هشة، يمكن لداعش النفاذ منها. وبالتالي فان خطة استراتيجية حقيقية لإعادة هؤلاء إلى قراهم ومدنهم، تسبقها إرادة سياسية حقيقية لتنفيذ تلك العودة دون قيد او شرط، ومن دون أي استثناءات، لم تعد مجرد «حقوق أصيلة» غير قابلة للتأويل، أو «مطالب سياسية» قابلة للتفاوض، بل أصبحت ضرورة اجتماعية وأمنية وعسكرية!
المسألة الثانية؛ استعادة الحياة الطبيعية للملايين الذي عادوا من النزوح (بلغ عدد العائدين من النزوح 4.6 مليون شخص حتى 31 آذار/ مارس 2020). وهذا يتطلب استراتيجية وطنية لإعادة الإعمار ما زالت غائبة تماما! خاصة وأن مفهوم إعادة الأعمار لا ينظر اليه سوى على انه إعادة بناء البنية التحتية التي تدمرت بفعل الحرب، وليس إعادة بناء الإطار الاجتماعي الذي كان قائما قبل بداية الأزمة، وإعادة بناء الاقتصاد المحلي وإنعاشه، لتسهيل الانتقال إلى السلام المستدام بعد توقف الأعمال القتالية!
المسألة الثالثة؛ بناء منظومة محلية فيما يتعلق بالأمن، تستند إلى أبناء المناطق نفسها، وعدم الإصرار على تكرار الخطأ الكارثي نفسه الذي كان سببا في خلق فجوة كبيرة بين المجتمع السني والقوات العسكرية والأمنية غير المحلية في مرحلة ما قبل داعش، والتي كانت واحدة من المقدمات التي أنتجت ظاهرة داعش في المقام الأول لاسيما أن المجموعات المحلية المنضوية تحت هيئة الحشد الشعبي، غير مؤهلة تنظيميا وتدريبا وتسليحا (يعتمد تسليح هذه المجموعات على الأسلحة الخفيفة والمتوسطة البسيطة)، لمواجهة الهجمات العسكرية لداعش.
المسألة الرابعة؛ النظر بجدية إلى الحساسية المجتمعية الناتجة عن سيطرة فصائل الحشد الشعبي عسكريا على هذه الجغرافيا، ومحاولات تكريس هذه السيطرة سياسيا واقتصاديا، وهو ما يشكل عاملا حاسما يمكن لداعش تكريس دعايتها من خلاله، واستغلاله أيضا من أجل التجنيد من جهة ثانية. فإذا كانت ظروف الحرب على داعش قد فرضت الحشد الشعبي كأمر واقع، فإن مرحلة الاستقرار المنشود لا يمكن أن تتحقق في ظل ازدواجية المؤسسات العسكرية، وفي ظل ازدواجية القرار العسكري والأمني، مع الانشقاقات التي حدثت مؤخرا! وبالتالي لا بد من توافق وطني على حل هذه المشكلة الجوهرية، وذلك عبر إدماج الأفراد المؤهلين بدنيا في المؤسستين العسكرية والأمنية، وإحالة غير المؤهلين إلى وظائف مدنية.
لا تزال ثمة فرصة لتعلم درس داعش، ولاتزال هناك أيضا إمكانية لمنع تكرار سيناريو داعش، ولكن ما نفقده حقيقة هو الشخصيات التي تتعامل مع هذه الفرصة، وهذه الإمكانية بعيدا عن قواعد اللعبة القديمة؟
د.يحيى الكبيسي
القدس العربي