فتح القسطنطينية… تغير في مجرى التاريخ

فتح القسطنطينية… تغير في مجرى التاريخ

د.معمر فيصل خولي

خلف مأساة النكبة التي حلت في فلسطين في 15 أيار/مايو عام 1948م، تتوارى دائمًا ذكرى أخرى عزيزة لا يؤبه لها لتقادم عهدها، رغم أنها تعني الكثير لأمة باتت تبحث عن مفاخر ماض تليد علَّه يمنحها شيئًا من الإلهام في خضم واقع مرير. في 29 من هذا الشهر تنقضي خمسمئة  وسبعة وستون عامًا على الفتح العثماني للقسطنطينية، المدينة الإمبراطورية كما أُطلق عليها، مفتاح أوروبا من جهة الشرق، ودُرَّة مدن العصر الوسيط.

تلك المدينة العظيمة التي كانت تعرف باسم بيزنطة قبل أن يجعلها الإمبراطور قسطنطين عاصمة له، وتحمل اسمه، لم تكن القسطنطينية مدينة عادية لذا لم يكن فتحها حدثًا عابرًا، بل كان منعطفًا تاريخيًّا فارقًا، تمامًا كما كان بناؤها في القرن الرابع الميلادي، الذي أسس لحقبة العصور الوسطى؛ فبعد أن كانت روما هي المسيطر في أوروبا، أصبحت هناك كتلتان متمايزتان، الشرقية بزعامة بيزنطة بكنيستها الأرثوذكسية وثقافتها اليونانية في القسطنطينية، وأخرى غربية تحت الزعامة الروحية لروما بكنيستها الكاثوليكية وثقافتها اللاتينية.

ومع سقوط روما على أيدي الشعوب الجرمانية، انتقل ثقل الحضارة الرومانية العتيدة إلى القسطنطينية عاصمة “بيزنطة” المعروفة كذلك ب”الإمبراطورية الرومانية الشرقية”، وورثت معه المستعمرات في شرق المتوسط: مصر وبلاد الشام وآسيا الصُغرى.

الدولة الإسلامية وفتح القسطنطينية

ونحو العام 610م بُعِثَ بين العرب الرسول “محمد صلى الله عليه وسلم”، الذي تكاثر أتباعه حتى صاروا نواة لدولة ناشئة، وبينما كانوا يخوضون معه التحديات كان ينبئهم بما سيُفتَح على أيدي المسلمين من البلاد.. فيما يخص إمبراطورية البيزنطيين لم تقف البشارات عند فتح مصر والشام، بل تعدتها إلى عاصمة الروم أنفسهم.. بشارات النبوية التي بشر به -النبي صلى الله عليه وسلم- في حديثه الشهير: لتفتحن القسطنطينية ولنعم الجيش ذلك الجيش.

فما أن استقر الحكم العربي الإسلامي للشام، وصارت حدود الإمبراطورية العربية الجديدة متماسة مباشرة مع عُمق الدولة البيزنطية، ونمو مدينة القسطنطينية مع نمو الإمبراطورية البيزنطية حتى صارت أهم مدن أوروبا وأحد أهم المراكز الحضارية في العالم. هو ما جعل المسلمون يضعون أعينهم عليها مع بدء فتوحاتهم في القرن السابع الميلادي، فسقوطها في أيديهم كان يعني انتهاء القطب المنافس الآخر بعد قضائهم على دولة الفُرس، هذا فضلاً عن كسر الحاجز الذي يمنع دخول الإسلام إلى شرق أوروبا.

ونجد المستشرق النمساوي فون هامر يعدد تسعة وعشرين حصارًا للمدينة على مدار تاريخها، من بينها اثنتا عشرة مرة قام بها المسلمون، منها خمس مرات من قبل الأمويين واثنان من قبل العباسيين، وخمس مرات من قبل العثمانيين، لكن كل تلك الحملات كانت تبوء بالإخفاق بسبب حصانة المدينة وحيازة الروم سر “النار الإغريقية” التي استخدموها لصد الغزاة.. وإن كان توالي الضربات الإسلامية يزعزع ثبات البيزنطيين في معقلهم الأخير.

الدولة العثمانية وأسباب الفتح

وقف السلطان العثماني الشاب محمد الثاني ينظر إلى أسوار مدينة القسطنطينية، وبداخله طموحات شبابه ورغبته في إثبات ذاته وجدارته بتولي خلافة المسلمين، من خلال تحقيق الحلم الذي فشلت فيه الجيوش الإسلامية المتتالية منذ العهد الأموي. وقد قوبل قراره بفتحها عام 1452 بالتشكيك، بل والاستهزاء على اعتباره مهمة مستحيلة سيذهب ضحيتها الآلاف، وقد يقوض سلطانه هو ذاته. لكن الرجل كان عاقدًا العزم على حسم هذا الأمر كي لا يبقى داخل أراضيه ثغرة بيزنطية.

شجع علماء المسلمون مثل أحمد بن إسماعيل الكوراني “معلم الفاتح”، وآق شمس الدين “الملهم الروحي للفتح” في تشجيع السلطان على مضاعفة حركة الجهاد، والإيحاء له بأنه الأمير المقصود بحديث النبي الكريم. ومن بداية تسلمه للسلطنة، قام السلطان محمد الفاتح بإعداد جيش كبير بلغ حوالي مئتين وخمسين ألف مقاتل، وشرع بتجهيز الحصون والقلاع على أطراف القسطنطينية، ولم تفلح محاولات الامبراطور البيزنطي في ثنيه بالأموال ومعاهدات الصلح، وقام الفاتح ببناء قلعة روملي حصار على البوسفور من الطرف الأوروبي مقابل قلعة عثمانية شيدت على البر الآسيوي زمن السلطان بايزيد الثاني.

كذلك اعتنى محمد الفاتح بجمع الأسلحة اللازمة لدك حصون المدينة، واعتمد على مهندسين لتطوير صناعة المدافع المتطورة. ومن هؤلاء اعتماده على مهندس مجري اسمه أوربان. كما طور الأسطول العثماني وزاد في تسليحه حتى وصل لقرابة أربعمائة سفينة حربية ليكون مؤهلاً للقيام بدوره في الهجوم على القسطنطينية. من ناحية أخرى وقع السلطان الفاتح قبيل هجومه على القسطنطينية معاهدات وهدن مع أعدائه المختلفين ليتفرغ لعدو واحد، فعقد معاهدة مع إمارة (غلطة) المجاورة للقسطنطينية من الشرق ويفصل بينهما مضيق القرن الذهبي، كما عقد معاهدات مع (المجد) و(البندقية) وهما من الإمارات الأوروبية المجاورة، ولكن هذه المعاهدات لم تصمد حينما بدأ الهجوم الفعلي على القسطنطينية.

 كانت القسطنطينية في أسوأ أحوالها خلال هذه الفترة. فالإمبراطورية البيزنطية صارت متمثلة في هيكل هذه المدينة دون رونقها السابق، وذلك بعدما تقطعت أواصر الإمبراطورية تدريجيًا عبر القرون حتى لم يتبق منها إلا المدينة ذاتها، إضافة إلى ممتلكاتها في اليونان. وفي المقابل، حاصرت القوات العثمانية المدينة برًا من كل الاتجاهات باستثناء البحر. ومن ناحية أخرى، لعبت الانشقاقات الأوروبية دورها الكبير في إضعاف الدولة البيزنطية. وكانت المدينة في كثير من المناسبات عرضة للصراعات، وبخاصة إبان الحملات الصليبية. إذ احتلها الصليبيون في طريقهم إلى الأراضي المقدسة ومارسوا فيها همجيتهم بسبب الاختلافات المذهبية والسياسية (ولا سيما بين الكنيستين الشرقية الأرثوذكسية والغربية الكاثوليكية)، وحقًا سيطرت قوى غربية على جزء كبير من الأراضي البيزنطية، وأسست المملكة اللاتينية على أراضيها لفترات زمنية غير قليلة.

أيضًا جاء قرار السلطان محمد الثاني في الوقت المناسب، في ظل ظروف دولية مواتية أخرى، أبرزها أن فرنسا وإنجلترا كانتا خارجتين من «حرب المائة سنة» بينهما، التي استنزفتهما اقتصاديًا وعسكريًا، فلم يكن بمقدورهما توجيه أي إمداد حقيقي للإمبراطورية البيزنطية، وأن ظروف شرق أوروبا كانت مضطربة، ولم يكن أمامها فرصة حقيقية لتقديم المدد المطلوب كمًا وكيفًا.

كذلك، كان البابا في الفاتيكان قد وجد الفرصة مناسبة لبسط سيطرته على الكنيسة الأرثوذكسية في الشرق، وعلى الرغم من الخلاف المذهبي بين الكنيستين، فإن الإمبراطور البيزنطي وافق على شروطه لدرء الغزو العثماني في ظل حرج وضعه العسكري. ولكن على الرغم من ذلك فإن المدد الذي أرسله البابا كان محدودًا للغاية، ولم يكن محوريًا في حسم المعركة، بينما جاء المدد الحقيقي للمدينة من سبعمائة مقاتل من المرتزقة الإيطاليين، ومن ناحية أخرى فإن جمهوريتي جنوى والبندقية أقدمتا على المساعدة الفورية من خلال توفير المدد لهم، ولكن دورهما لم يكن مؤثرًا، وبخاصة بعدما فرضت البحرية العثمانية حصارًا شبه كامل على المدينة. وهكذا بدأت طبول الحرب بين الدولة العثمانية وآخر هياكل الدولة البيزنطية في 6 نيسان / إبريل 1453. وطال الحصار 53 يومًا.

وبعد استبسال البيزنطيين وشجاعة العثمانيون، فتحت مدينة القسطنطينية يوم الثلاثاء 20 جمادى الأولى سنة 857هـ الموافق 29  أيار/مايو 1453م على أيدي السلطان العثماني محمد (الثاني) الفاتح، مزيلاً بهذه الخطوة الإمبراطورية البيزنطية التي عاشت لمدة تزيد على 11 قرنًا من الزمان  بعد حصار طال قرابة شهرين استخدمت فيه المدافع الحديثة وتكتيكات الحصار الشهيرة. وسقطت المدينة في أيدي القوة العثمانية البازغة، محققًا بذلك حلمًا كان يداعب الدول الإسلامية الممتدة عبر التاريخ.

أهمية الفتح

واقع الأمر أن فتح القسطنطينية يمثل رمزًا هامًا في التطور التاريخي للعلاقات الدولية وتاريخ الدولة العثمانية أكثر منه حدثًا تاريخيًا. فالدولة العثمانية قبيل حصار القسطنطينية كانت بالفعل قد تمكنت من محاصرة المدينة من كل الاتجاهات، وغدا سقوطها مسألة وقت لا غير. ذلك أن الدولة البيزنطية تراجعت كثيرًا عما كانت عليه لقرون وكانت أقوى إمبراطورية فاقت في حجمها وقوتها الإمبراطورية الرومانية الشهيرة. ولكن منذ الحملات الصليبية بدأ تراجعها السياسي حتى صارت في حالة يرثى لها.

وعندما دخلت القرن الخامس عشر كانت قد باتت شبحًا لما كانت عليه من قبل، أو كما وصفها أحد المؤرخين بكلماته الثاقبة: «… فإن البيزنطيين عظموا اسم الرومان والتزموا بنظام إمبريالي دون القوة العسكرية، واعتنقوا القانون الروماني دون أي تطبيق إداري لمفهوم العدالة، وتفاخروا بأرثوذكسية كنيستهم في الوقت الذي كان الإكليريوس خدامًا للبلاط الملكي.. إن مثل هذا المجتمع كان لا بد له أن يتفتت حتى لو جاء هذا التفتت ببطء شديد». هذه العبارة كانت تجسيدًا للدولة البيزنطية. لقد كانت في انتظار رصاصة الرحمة السياسية والعسكرية التي أتت من العثمانيين، بينما لم تستطع أوروبا المسيحية الوقوف بجانبها.

نتائج الفتح

لقد أسس العثمانيون بفتحهم للقسطنطينية ـ أو إستانبول كما أطلقوا عليها منذ ذلك الحين ـ نظامًا دوليًا جديدًا، بعد أن أسقطوا أحد أهم إمبراطوريات العصور الوسطى ليرثوا مكانتها ودورها، لكن مع الوضع في الاعتبار اختلاف أصلهم وثقافتهم ودينهم، وهو ما سيصبح له عظيم الأثر على إعادة تشكيل الوجه السياسي والحضاري والاجتماعي للشطر الشرقي من أوروبا. يقول أرنولد توينبي: «كان تاريخ 1453م يعني للعثمانيين رمزية الانتهاء الظاهري لسياسة توحيد الهيكل الرئيسي للمسيحية الشرقية الأرثوذكسية، أي المنطقة التي كانت تضم في ذلك الوقت سكانًا من اليونانيين والجورجيين والبلغار والصرب والرومان، أي في الحقيقة كل المسيحيين الشرقيين الأرثوذكس باستثناء الروس… أما بالنسبة للروس فكان يدل على أن السيادة الرومانية على العالم قد انتقلت من روما الثانية (القسطنطينية) إلى روما الثالثة، أي موسكو… أما بالنسبة للفرنجة فإن هذا التاريخ كان دلالة على أن المسيحية الغربية قد صارت منذ ذلك الحين هي القَيِّمَة على الثقافة اليونانية القديمة».

نظام دولي كانت معطياته قائمة بالفعل قبل السقوط، ولكنها تثبتت على نحو واضح المعالم بعد هذا الحدث، فهو نظام مبني على صراع بين القوة العثمانية الجديدة البازغة في الشرق والعالم الأوروبي الأقل تماسكًا في الغرب. ويسعى بعض الكتاب والمؤرخين إلى محاولة تفسير هذه الخطوة على اعتبارها الجولة الثالثة في الصراع الإسلامي – المسيحي لتسيد العالم، مع أن البعض لا يميل لهذا التفسير، ذلك أن الصراعات بين الشرق والغرب كانت دينية الشكل، سياسية واقتصادية الطابع. ولو افترضنا أن الدولة العثمانية كانت قوة مسيحية الهوية، فإن هذا ما كان ليمنع من نشوب الصراع بينها وبين الغرب للتوسع السياسي والاقتصادي، وهو أمر طبيعي بل نمط ممتد في كتب التاريخ ودهاليز السياسة عبر الزمن.

وبين وجهات النظر المختلفة استطاع الفاتح أن يجعل من المدينة في وقت قصير حاضرة لدولته ومركزًا للتجارة والعلوم والفنون على غرار عواصم الدول الإسلامية التي أسهمت في بناء الحضارة الإنسانية مثل بغداد والقاهرة وقرطبة، لتصير قبلة لكل الطوائف والجنسيات من شتى بقاع الأرض، والتي مَثَّلَت مجتمعًا منقطع النظير في التعايش في زمان كان يُنَكَّل الناس فيه ويُقتلون لاختلاف مذهبهم ولا أقول دينهم، وهو ما سيسهم بشكل أكبر في ازدياد مكانتها بوصفها عاصمة لدولة عالمية جديدة ودولة إسلامية سترقى في قابل الأيام لتصير دولة من أكبر دول الإسلام العامة تمتد أراضيها عبر قارات العالم القديم، بعاصمتها الأوروبية لأول مرة، وهو ما سيجعل للدولة العثمانية عمقًا ومجالاً أوروبيًّا حيويًّا سيصير في الكثير من الأحيان أكثر تأثيرًا على الدولة نفسها وعلى محيطها من امتدادها الآسيوي أو الإفريقي. يقول برنارد لويس: «سقطت القطعة الأخيرة من الإمبراطورية البيزنطية في موقعها اللائق، ووضع السلطان ختمه على اتحاد القارتين، مما أسهم في صهرهما في بوتقة واحدة».

وبمجرد أن فتح القسطنطينية، فإن شعار الدولة العثمانية المتمثل في العقاب (Eagle) ذي الرأسين أصبح واقعًا. والرأسان هنا هما تعبير عن المشرق والمغرب، والبحرين؛ الأسود والمتوسط، وهو ما لم يتأخر السلطان محمد الفاتح في تطبيقه عمليًا من خلال توسيع مملكته الفتية بالاستيلاء على ما تبقى من البلقان تقريبًا، بعد شد وجذب عسكري مع القيادات السياسية الحاكمة لهذه المنطقة.

ولعل من أهم النتائج فتح القسطنطينية على المستوى الدولي سيطرة العثمانيين على أحد أهم شرايين التجارة الدولية سيطرة كاملة بين الشرق والغرب، بعد إخضاع القسطنطينية لسلطانهم، وهو ما دفع الدول الغربية لسرعة البحث عن بدائل لهذا الخط الجديد. وهذا أدى بدوره إلى التعجيل بظهور عصر الاستكشافات الجغرافية في محاولة للالتفاف حول الطريق البري ثم البحري عبر الأراضي العثمانية. وأسفر هذا العصر عن اكتشاف القارة الأميركية على أيدي الإيطالي كريستوفر كولومبوس (كريستوفورو كولومبو بالإيطالية)، ثم طريق رأس الرجاء الصالح لتحويل التجارة حول القارة الأفريقية إلى آسيا.

الخاتمة

من الناحية العسكرية يمكن اعتبار فتح القسطنطينية أول انتصار كبير للمدافع ضد المدن، فقد أظهر الفتح مدى تأثير المدافع على الأسوار، التي عفا عليها الزمن، سياسيًا، يمكن القول أن فتح القسطنطينية غيّر مجرى التاريخ بأشكال كثيرة، فقد مهّد هذا الفتح لسيطرة الدولة العثمانية على “ثلث أوروبا”، ومعظم “شمال أفريقيا، وكل الشرق الأوسط، حتى إنها في مرحلة معينة زحفت نحو “جنوب شرق آسيا”، فالفتح كان مرحلة تحول في الدولة العثمانية،من مجرد إمارة واحدة عشوائية على الحدود بين العالمين الإسلامي والمسيحي إلى دولة ذات قوة مهيمنة على المستوى الدولي زهاء 300 عام.