أكد السفير الأمريكي في بغداد ماثيو تودلر، في خطاب متلفز تم نشره نهاية الشهر الماضي، أن الحوار المرتقب بين الولايات المتحدة الأمريكية والعراق في منتصف حزيران/ يونيو الحالي، يهدف إلى التغلب على التحديات التي تواجهها علاقات البلدين، وتفعيل بنود اتفاقية الإطار الاستراتيجي بين البلدين الموقعة في العام 2008.
ومن الواضح أن «التحديات» التي أشار اليها هنا تتعلق تحديدا بوضع القوات الأمريكية في العراق في سياق الحرب على داعش، و في سياق الانقسام الحاصل في العراق تجاه الصراع الأمريكي الإيراني، وهو ما فرض على القوات الأمريكية إعادة الانتشار لتكون بعيدة عن أي استهداف من حلفاء ايران في العراق!
في العام 2008 وقع العراق والولايات المتحدة الأمريكية اتفاقيتين؛ الأولى هي اتفاقية وضع القوات، التي تعرف اختصارا باتفاقية SOFA. وهي الاتفاقية التي حددت الاحكام والمتطلبات الرئيسية التي تنظم الوجود المؤقت للقوات الأمريكية في العراق من تاريخ دخول هذه الاتفاقية حيز التنفيذ في 1 كانون الثاني/ يناير 2009 ولمدة ثلاث سنوات، أي أنها انتهت رسميا مع الانسحاب الكامل لهذه القوات من جميع الأراضي والمياه والأجواء العراقية، بتاريخ لا يتعدى 31 كانون الاول/ ديسمبر 2011. والثانية هي اتفاقية الإطار الاستراتيجي والتي تعرف اختصارا بـ SFA وتحدثت عن إقامة علاقات تعاون وصداقة طويلة الأمد بين البلدين شملت المجالات: السياسية والدبلوماسية، والدفاعية الأمنية، والثقافية، والاقتصاد والطاقة، والصحة والبيئة، وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وإنفاذ القانون والقضاء. وتشكيل لجنة تنسيق عليا تجتمع بصفة دورية لمراقبة التنفيذ العام للاتفاقية، فضلا عن لجان تنسيق مشتركة إضافية تتولى تنفيذ هذه الاتفاقية. وكان من الواضح طوال السنوات الاثنتي عشرة الماضية أن هذه الاتفاقية ظلت بعيدة عن التنفيذ؛ إذ لم يكن الفاعل السياسي الشيعي، الذي يحتكر القرار السياسي في العراق، «راغبا» في تطوير هكذا علاقة استراتيجية مع الجانب الأمريكي من جهة، ولم تكن الإدارة الأمريكية هي الأخرى «حريصة» على هكذا علاقة استراتيجية، ليس بسبب فشل مفاوضاتها مع الحكومة العراقية العام 2011 للإبقاء على جزء من قواتها في العراق بسبب معضلة الحصانة التي أفشلت ذلك فحسب، ولكن بالدرجة الأساس بسبب تحول استراتيجية الأمن القومي الأمريكي التي اعتمدتها إدارة الرئيس اوباما في العام 2010، والتي شكلت قطيعة شبه كاملة مع استراتيجية الامن القومي الأمريكي التي اعتمدتها إدارة الرئيس جورج بوش الابن في الأعوام 2002 و 2006 تحديدا فيما يتعلق بالحرب على الإرهاب التي مثلت الرد الأمريكي المباشر على أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، وكرست صعود فلسفة المحافظين الجدد – في السياسة الخارجية الامريكية، تحديدا فيما يتعلق بالتركيز على الشرق الأوسط.
المخرج المنطقي الوحيد لكلا الطرفين، الحكومة العراقية والإدارة الامريكية، هو توقيع مذكرة تفاهم تتعلق بوضع القوات، تكون ملزمة للحكومة العراقية، من دون الحاجة للذهاب إلى مجلس النواب
وتكشف مراجعة استراتيجية الأمن القومي الأمريكي 2017 ـ 2021 التي اعتمدتها إدارة الرئيس ترامب، أن الشرق الأوسط عموما، لا يحضر في هذه الاستراتيجية إلا من خلال الحرص على عدم تحوله إلى «ملاذ آمن أو أرض خصبة للإرهابيين الجهاديين»، وأن «لا تسيطر عليه قوة معادية للولايات المتحدة»، ويسهم «في استقرار سوق النفط العالمية». وباستثناء التركيز على الخطر الإيراني، والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، سنكون أمام كلام عام وإنشائي حول التعاون وتعزيز الاستقرار في المنطقة، والإشارة الوحيدة إلى العراق بالاسم كانت من خلال التأكيد على «تعزيز الاستراتيجية الطويلة الأمد مع العراق كدولة مستقلة»، ومن الواضح أنها إحالة إلى الاتفاق الاستراتيجي الذي لم يكن الطرفان حريصين على إنفاذه! ولكن في الوقت نفسه كانت هناك إشارة صريحة إلى أن الولايات المتحدة ستعمد إلى الاحتفاظ بوجودها العسكري في المنطقة «لحماية الولايات المتحدة وحلفائها من الهجمات الإرهابية والحفاظ على توازن إقليمي ملائم بين القوى المختلفة».
بعد الرفض الأمريكي الصريح للمطالبات المتعلقة بسحب القوات الأمريكية من العراق، وإصرارها على بقاء هذه القوات، من الواضح أن ثمة حاجة أمريكية لتقنين وضع القوات الأمريكية في العراق، أي إيجاد بديل قانوني لاتفاقية وضع القوات التي انتهى العمل بها في العام 2011، فالقوات الأمريكية الموجودة في العراق حاليا جاءت في إطار التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب الذي تشكل في أيلول/ سبتمبر العام 2014، وان ما حدد العلاقة بين الطرفين طوال السنوات اللاحقة بذلك التاريخ، لم يكن سوى تفاهمات ضمنية غير معلنة، وربما أمر واقع مفروض على الطرفين إذ لم يكن ثمة إطار قانون محدد وواضح يلزم كليهما. وأن الدعوى الامريكية لاجتماعات حزيران/ يونيو مهمتها الأساسية والجوهرية هي تقنين وضع القوات الأمريكية في العراق، ولذلك كان الحديث عن التعاون الاستراتيجي مجرد تغطية على ذلك كله!
عراقيا، من الواضح أيضا أن ثمة انقساما صريحا بشأن الوجود الأمريكي، وهو ما كشفت عنه الوقائع التي رافقت تصويت مجلس النواب على القرار غير الملزم بهذا الشأن (ليس من صلاحية مجلس النواب العراقي إصدار قرارات تشريعية ملزمة للسلطة التنفيذية من الأصل)، فقد غاب النواب السنة والكرد عن حضور هذه الجلسة، وتخلى رئيس مجلس النواب عن موقعه على المنصة كي لا يكون شريكا في هكذا قرار! لكن هذا لا يعني بالضرورة وجود إجماع بين الفاعلين السياسيين الشيعة على هذا الموضوع، فالواقع أن هناك قناعة لدى بعضهم بحاجة العراق لبقاء القوات الأمريكية لمواجهة تهديد داعش. ويعني هذا الانقسام، عمليا، أن لا إمكانية لتمرير اتفاقية جديدة بين الولايات المتحدة الأمريكية والعراق، حول وضع القوات، داخل مجلس النواب العراقي (المصادقة على الاتفاقيات تتطلب تصويت ثلثي أعضاء مجلس النواب عليها، أي 220 عضوا). والمخرج المنطقي الوحيد لكلا الطرفين، الحكومة العراقية والإدارة الامريكية، هو توقيع مذكرة تفاهم تتعلق بوضع القوات، تكون ملزمة للحكومة العراقية، من دون الحاجة للذهاب إلى مجلس النواب. وعلى الأغلب أن هذا ما سيحصل في الاجتماعات المرتقبة، خاصة مع عدم وجود أية مؤشرات حقيقية، لا عراقيا ولا أمريكيا من شأنها اقناعنا بإمكانية تفعيل التعاون طويل الأمد الذي تحدثت عنه الاتفاقية، وتحدث عنه السفير الأمريكي في العراق.
يحيى الكبيسي
القدس العربي