“اللعبة الكبرى” أو “المقامرة الكبرى”، مصطلح ظهر أول مرة للتعبير عن المنافسة العدائية التي كانت سائدة بين الإمبراطورية الروسية القيصرية وبريطانيا في القرن التاسع عشر.
ولاحقا، باتت أفغانستان مسرحا للعبة كبرى أخرى من خلال حروب الوكالة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
ونالت باكستان وإيران بناء على أوامر “أسيادهما”، دورا صغيرا في تلك الحروب، في حين شكل احتلال الجيش الأحمر الروسي لأفغانستان، بداية المرحلة الثانية من “اللعبة الكبرى”.
وبينما تستعد واشنطن للانسحاب من أفغانستان هذه الأيام، تسعى عدة دول لم تكن تتمتع بأدوار في المراحل السابقة لهذه “اللعبة الكبرى”، إلى أداء أدوار مُحددة (مهمة) في أفغانستان.
وتأتي الصين في مقدمة هذه الدول، إذ تعتبر أفغانستان أداة مهمة في سبيل إكمال مشروعها العالمي “حزام واحد طريق واحد”.
وفي الوقت الذي تُظهر في دول مثل الهند وروسيا والولايات المتحدة تواجدا كبيرا في أفغانستان، تتحرك الصين بطريقة “الأضواء الباهتة” كما يصفها أبناء حي في العاصمة الأفغانية كابل.
ويُفسح انسحاب واشنطن والحلفاء في حلف شمال الأطلسي “ناتو” من أفغانستان، الطريق أمام بكين لاكتساب دور اللاعب الأساسي في “اللعبة الكبرى” بهذه البلاد.
** خلافات إقليمية
تعتبر أفغانستان مهمة بالنسبة إلى بكين من عدة نواحٍ، إذ تعد الصين ثاني دولة بعد روسيا الاتحادية من حيث عدد الدول المجاورة لها، حيث تتشارك حدودها البرية مع 14 دولة، والبحرية مع 5 دول على الأقل.
ومن بين دول الجوار، تعد أفغانستان وباكستان فقط، الدولتين اللتين لا تشهدان نزاعا مع الصين على الحدود الجغرافية، ولم تدخلا في أي صراع عسكري معها بالماضي.
ففي هذا الإطار، تعيش الصين خلافا مع منغوليا (صاحبة أطول حدود برية مشتركة معها) بخصوص مستقبل “منغوليا الداخلية”، حيث تعتبرها منغوليا ولاية واقعة تحت “الاحتلال الصيني”، وتحلم بالاتحاد معها، على غرار ضم الصين لتايوان.
وفيما يخص علاقات الصين مع روسيا (صاحبة ثاني أطول حدود مشتركة معها)، فإنها تشهد توترات مستمرة منذ سلسلة من النزاعات العسكرية بين البلدين في ستينيات القرن الماضي.
ففي الوقت الذي تحتل فيه روسيا مناطق من الأراضي الصينية، يكتسب التوتر بين البلدين بعدا إضافيا يتجاوز الحدود الجغرافية من خلال تواجد 3.5 ملايين عامل صيني في المناطق الشرقية من روسيا.
وبخصوص علاقاتها مع الهند، صاحبة ثالث أطول حدود مشتركة معها، تحتل الصين أراضي واسعة من منطقة “لداخ” الهندية.
وتحتل بكين كذلك مناطق من فيتنام وميانمار، في حين تتمتع بخلافات تاريخية مع اليابان والفلبين وفيتنام، وكوريا الجنوبية، بخصوص منطقة بحر الصين الجنوبي، والجزر المهجورة في الخليج الكوري.
** محور “صديق”
ونتيجة لذلك، تسعى الصين إلى عقد محور من الدول الصديقة يضم باكستان، وأفغانستان، وطاجيكستان، بهدف الحد من توتراتها مع دول الجوار الأخرى، وتعزيز حدودها غربي آسيا.
وفي 2015، أنشأت الصين قاعدة عسكرية في طاجيكستان، قرب الحدود الأفغانية، كما تعمل على إنشاء ميناء بمنطقة جوادر الباكستانية، بهدف الانفتاح على المحيط الهندي مرورا من قلب آسيا الوسطى.
وإجمالا، تهدف الصين إلى إنشاء كتلة “صديقة” تمتد من المحيط الهندي إلى آسيا الوسطى، وتساعدها إيران لتشكيل هذه الكتلة، ولكن كما رأينا ما حدث في سوريا من تقديم طهران خدماتها لروسيا، فإنها في نهاية المطاف ستُطرد من “اللعبة الكبرى”.
وإيران مثل “مرض الجدري” الذي يتفشى في الأرجاء كافة، إلا أن الوضع هذه المرة يبدو مختلفا، فمن غير المتوقع أن تجلس الصين الشيوعية “مكافئا إسلاميا” لها على الطاولة.
** الصين في أفغانستان
لكن لن يكون بإمكان بكين إحلال الاستقرار في الطريق الدولي المؤدي إلى الميناء دون أن تتمتع بوجود فعال في أفغانستان.
كما بدأت بكين بمساعي اكتساب تواجد فعال في كابل، خلال حكم الملك محمد ظاهر شاه، الذي حكم البلاد بين عامي 1933 و1973، حيث أرسلت آلاف الطلبة الصينيين إلى أفغانستان في ستينيات القرن الماضي، بهدف تعلم اللغتين المحليتين البشتوية والدرية.
وحتى نهاية القرن نفسه، لم تكن الصين تمتلك قوة اقتصادية كبرى تتيح لها اكتساب تواجد تجاري وعسكري فعال في أفغانستان، إلا أنها دخلت في “اللعبة الكبرى” بعد تلك المرحلة بوساطة من باكستان.
ومنذ اجتماع السفير الصيني في إسلام أباد مع زعيم حركة طالبان ملا عمر عام 2000، وإعلانهما التوصل إلى اتفاق تجاري وعسكري، بدأت الاستثمارات الصينية في أفغانستان تزداد وتتضاعف بشكل كبير.
ولعل أحد أهم الأمثلة التي يمكن أن نضربها لاستثمارات بكين في أفغانستان، هو استثمار مناجم النحاس من قبل 3 شركات حكومية صينية بقيمة 3 مليارات دولار.
كما تستعد الصين للاستفادة من موارد الحديد الخام في أفغانستان، لكن الهدف النهائي لها يكمن في السيطرة على الثروات التي لا تخفى على أحد، وهي الموارد الصخرية الصناعية، مثل السيروم والليثيوم والنيوديميوم واللانثانم والتنغستن وربما اليورانيوم.
فإذا تمكنت من استخراج هذه الموارد الطبيعية الضخمة واستخدامها، فستجعل أفغانستان إحدى أغنى البلدان في العالم.
وتتعاون الصين مع “طالبان” في المجال العسكري، حيث لعبت الحركة دورا في حماية الاستثمارات الصينية والموظفين الفنيين بمناطق مختلفة تقع تحت سيطرتها، وخاصة في مقاطعة لوغار الأفغانية.
ومقابل هذه الحماية، تزود بكين “طالبان” بالأسلحة، واللافت للنظر أن الأسلحة الصينية تصل إلى الحركة عبر إيران، وليس باكستان.
وتهدف بكين من إبعاد باكستان عن هذا الفصل من “اللعبة الكبرى”، إلى الحيلولة دون إيجاد توتر في العلاقات بين واشنطن وإسلام آباد، حيث تتلقى الأخيرة مساعدات تراوح بين 2 إلى 3 مليارات دولار سنويا من الولايات المتحدة.
أما هدفها من التعاون مع إيران في أفغانستان (حتى لو كانت على حساب مساعدتها لـ”طالبان”، التي تظهر بمظهر العدو الأيديولوجي لهما) فهو إبعاد واشنطن وموسكو من “اللعبة الكبرى”.
ويبدو أن طهران وبكين لا تنظران بإيجابية إلى موسكو، فرغم تقرب المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي نوعا ما من روسيا، إلا أن الحكومة والشعب الإيرانيين ينظرون إليها على أنها “عدو” لبلادهم.
إن تعاون إيران مع الصين لمساعدة “طالبان” جزء من استراتيجيتها المتبعة ضد الولايات المتحدة، وهي تخشى أن تتوصل الحركة إلى توافق مع واشنطن، وتستمر في لعب “دور العدو للأيديولوجية الخمينية”.
أما الصين، كحالها في كل زمان ومكان، فلا تضع البيض كله في سلة واحدة، فتعاونها مع “طالبان” وتزويدها بالمال والسلاح لا يقف عائقا أمام تقديم اليسير للحكومة الأفغانية.
ويدرب الجيش الصيني حاليا وحدة قتالية جبلية أفغانية في المنطقة الحدودية بين البلدين.
وتدعي بكين أن سبب تدريب هذه القوات هو مساعدة الجيش الأحمر الصيني في منع “المقاتلين الانفصاليين الأويغور” من دخول منطقة شينغيانغ (تركستان الشرقية) ذاتية الحكم، وتستخدم نفس العذر لتبرير وجودها العسكري في طاجيكستان.
ويتضح حضور بكين في كابل تدريجيا يوما بعد يوم، ووفق أحدث التقديرات، تنشط أكثر من 100 شركة صينية، كلها تابعة للحزب الشيوعي الحاكم، بمختلف المجالات بأفغانستان، منها التنقيب عن النفط والغاز وقطاعات المعادن والاتصالات والنقل، والإمدادات العسكرية.
(الأناضول)