كانت الكتب، في مقتبل العمر، بمثابة منشور سري أو سحر أسود، هَرّبتُها خوفاً من السلطة ومن أبي، ومنها ما كانت بالنسبة إلي أيضاً مخيفة، حتى أنني ذات مرة، حصلت من صديق في الشارع، على كتاب عن ماركس، ورغم أنني لم أكن أعرف فحوى الكتاب مع أو ضد، لكن في عهد نظام القذافي، كان أي كتاب تقريباً مدعاة للخوف، لذا حين لمحت أحد رجال الأمن، هرولت إلى مسجد قريب، وبحثت عن مكان، أدس فيه الكتاب – التُهمة المفترضة -، فلم أجد أفضل من تابوت موضوع عند مدخل الجامع.
وحين طبع كتاب “لعبة الأمم” عام 1969، لرجل المخابرات الأميركي مايلز كوبلاند، كنت في سن المراهقة، لكن أخبار الكتاب في المنطقة العربية، فاحت في كل مكان مطلع سبعينيات القرن العشرين، منذ 1970 تقريباً، وبدا ككتاب سري فاضح، والاطلاع عليه كان من دواعي سروري، وتحول الكتاب لاحقاً إلى صنف من الممنوعات المهربة.
لم أتصور في آخر العُمر، أن يكون كتاب “الغرفة التي شهدت الأحداث”، لمستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون، بمثابة فضيحة، وعراك بين مُؤلفه، والرئيس دونالد ترمب، من يصفه الكتاب بمحابي الديكتاتوريين، من يرى مُؤامرات خلف الصخور، وكما جاء في الكتاب “لقد شكك في دوافع أشخاص، ورأى مؤامرات خلف الصخور، واستمر بشكل مذهل من غير اطلاع، على كيفية إدارة البيت الأبيض، ناهيك عن الحكومة الفيديرالية الضخمة”.
ما جمع وأثير حول الكتابين في نظري، نظرية مؤامرة، فالكتاب الأول “لعبة الأمم”، ينظر في مفاعيل أميركا في العالم، فيما الثاني في جانب مهم منه، يسجل ما يدور في الغرفة الداخلية، وما يخص دوراً للصين مفترض، في الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة، جاء بناء على طلب، ممن “يرى مؤمرات خلف الصخور”، دونالد ترمب، من اتهم وشكك في انتخابه في الدورة الأولى، وبأن التدخل الروسي كان الحاسم في نجاحه.
الكتابان في هذا، يجمعهما جدل الخارج والداخل، أو على الأقل رغم تباينهما وتباين زمانيهما، يوضحان هذا الجدل، ما قد يُدعى عند طرفٍ نظرية المؤامرة، فيما عند طرف آخر دور من نافل القول، فالدولة بالضرورة، مهما عظمت مفعول بها، فما بالك إذا ما كانت صغرى. وكأنما هذا يعني مما يعنيه أن الدولة، كما تستمد شرعيتها من الداخل، تستمد وجودها من الخارج، ما كبر منه وما صغر منه، وبإرادتها أو بحكم الضرورة.
لكن هذا الدور، ما يفضحه أو بتعبير ملطف يكشفه الكتابان، يبين في هذه الحال جانباً من التدخل التعسفي في الشؤون الداخلية للبلاد، كأن يطلب الرئيس المشكك في أهليته، دعماً خارجياً في مواجهة خصمه الداخلي، فيما هذا الرئيس يمثل دولة تُشرعن بحكم القوة، التدخل في الشأن الداخلي لدولة الآخر.
إذاً لعبة الأمم في وجه ما ضرورة، وفي وجه آخر تعسف كما كل فعل إنساني، ففي الكتابين يبين المؤلفان الوجه القبيح لهذه الضرورة، حيث يكيل كلاهما بمكيالين، فتدخل الولايات المتحدة في الدول الأخرى، تدخل في شؤون داخلية للولايات غير المتحدة! أو كما لم يفصحا، فيما تدخل الدول الأخرى، في الشأن الداخلي للولايات المتحدة، مرفوض وغير شرعي.
الطريف أن للمؤلفين علاقة بالأمن القومي الأميركي، ما لا حدود له إلا ما تحدده مصالح ونفوذ الولايات المتحدة.
فمنذ نشأت الولايات المتحدة، بإعلان استقلالها في 4 يوليو (تموز) 1776، اعتبر أمنها حيث يتمكن أسطولها من الوصول، بالرغم من البروباغندا المستدامة، حول أن أميركا غرفة مفتوحة نوافذها على داخلها.
وما يؤكد ذلك بالنسبة إلي، ما يخص بلادي ليبيا، التي لحظة استقلال الولايات المتحدة، واجهت عدوانا أميركياً، عُرف بحرب السنوات الأربع (1801-1805). فنشيد بحريتها العسكرية، ما زال يردد “من قاعات مونتيزوما، إلى شواطئ طرابلس، نحن نحارب معارك بلادنا، في الجو والأرض والبحر”.
وليبيا هذه حتى اللحظة، نقطة بارزة في روليت لعبة الأمم، يجول في رقعتها الرخ الأميركي، رغم البروباغندا على أن أميركا غير معنية بليبيا، وأنها ليست جُزءاً، يقع تحت نظرها وقدمها الإستراتيجية.
لقد أعطى دونالد ترمب، من يرى مؤمرات خلف الصخور، مساحة من اهتمامه لكتاب “الغرفة التي شهدت الأحداث”، أكثر مما يمنح في الظاهر لكورونا، ورأى في جون بولتون، وباء في الغرفة الداخلية لصدره، وشعر بتمزق في قلبه اليميني.
هذا ما ذكرني بشبابي، حين كان الكتاب، كما منشور سري فتعاطٍ للمنوعات، أو السحر الأسود الذي يرتد على أصحابه، لكن في هذه اللحظة الاستثنائية من تاريخ العالم، في زمن كورونا، يكون كتاب كهذا في هذه المنزلة، تلكم طامة كبرى.
على أي حال، الكتاب في الأول والأخير، يشير إلى طلب دونالد ترمب، دعماً ممن صدّروا إليه كورونا! من الصين التي تتبرم من الحرب الباردة، ما يخوضُ الطالب ضدها.
وذات الرئيس المتبرم من كتاب، يخوض بالنسبة إلي، رغم كل ادعاءات إدارته، حرباً غير معلنة في ليبيا، لتكون بلاد الحلّ اللا حلّ.
أحمد الفيتوري
اندبندت عربي