أثار اغتيال الباحث والخبير الأمني العراقي هشام الهاشمي (47 عاما) أمام منزله في بغداد، وبدم بارد وبكاتم صوت، موجة واسعة من الغضب والاستياء في موطنه، وذلك لما يحظى به من احترام، ولما يستشعره العراقيون من تغوّل مليشيات القتل في إراقة دماء العراقيين، وتقويض وجود الدولة، وضمان استتباعها للخارج. وقد أعادت الجريمة إلى الأذهان جرائم لا تُحصى، جرى معظمها بالطريقة نفسها بحق المحتجين العراقيين، وذلك في استباحة كاملة لحق الحياة، تحت سطوة السلاح الذي تحوزه 44 مليشيا من جملة مليشيات الحشد الشعبي، البالغ عددها 67 مليشيا وفق أحدث تقرير أعده الهاشمي بنفسه.
منذ أقل من عشر سنوات، برز نجم الهاشمي باحثا وخبيرا في الجماعات المسلحة، ابتداءً من تنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية (داعش). وقد أسهمت تقاريره المقدّمة إلى الدولة العراقية في الكشف عن خبايا هذين التنظيمين الإرهابيين، وفي الإيقاع بكثيرين من القادة والخلايا الخطرة. وهو ما أوغر صدور متزعمي التنظيمين على الباحث الشاب الذي كان وظل، حتى الرمق الأخير (مساء الاثنين 7 يوليو/ تموز الجاري) ينافح عن حق العراقيين في دولةٍ وطنيةٍ مستقلة، تحوز فيها المؤسسة العسكرية وحدها السلاح وحق استخدامه وفق القوانين. وإلى ذلك، ثمّة سبب آخر لحنق السلفيين عليه، كونه اعتنق، في بواكير شبابه، الفكر السلفي، ما أدّى إلى اعتقاله في عهد صدام حسين، قبل أن يختط لنفسه طريقا آخر، وهو الإيمان بالدولة الوطنية المدنية والعصرية.
لغزارة معلوماته ودقة تحليلاته، لجأت الحكومات العراقية المتعاقبة والجهات الأمنية فيها إلى الهاشمي مستشاراً وخبيراً أمنياً
ولما تضخم دور الحشد الشعبي بعد هزيمة شبكة داعش الإرهابية، وبات دور الحشد يتمثل في قضم السلطة الشرعية والتغلغل داخلها لإضعافها، وتسييرها وفق أجندة المليشيات، وصولاً إلى تشكيل دولة عميقة، والسيطرة على المعابر الحدودية، فقد عُني الراحل بدراسة مكوّنات الحشد، ومن بينها 17 مليشيا تتبع العتبات (المرجع آية الله السيستاني) وست مليشيات تتبع مراجع أخرى، مع أرجحيةٍ في العدد والعدّة والعتاد للمليشيات التي تتبع إيران وتأتمر بأوامرها، وتتلقى منها التمويل، إلى جانب التمويل الذي تحظى به من الدولة العراقية! ولغزارة معلوماته ودقة تحليلاته، لجأت إليه الحكومات العراقية المتعاقبة والجهات الأمنية فيها مستشاراً وخبيراً أمنيا، بما في ذلك حكومة نوري المالكي. وهكذا بدا الرجل، في سنواته الأخيرة، في أنظار قوى الأمر الواقع، يعرف أكثر مما يجب، علماً أن تلك القوى تضع نفسها في موضع مصدر المعرفة ومركزها للرأي العام، وتحدّد ما يتعين معرفته، وفي أي سياق ولأي هدف، وبصرف النظر إن كانت فحوى المعرفة صحيحة أم لا.
وإذ اتفق محللون كُثر على أن رئيس الحكومة، مصطفى الكاظمي، هو المعني، في المقام الأول، بجريمة الاغتيال التي طاولت الرجل الأعزل الهاشمي، والذي لم يكن يمتلك سوى سلاح الحقيقة، فإن الكاظمي قد تسلم الرسالة، وقطع وعودا جازمة بمتابعة الجناة وتقديمهم إلى العدالة، مع إعلانه رفض أن يتحوّل بلد الرافدين إلى دولةٍ للعصابات. وهذا التحدّي الكبير الذي ارتضى الكاظمي أن يضعه على عاتقه، في سعيه إلى إرساء دولة القانون، ووضع حد لعهد المليشيات. غير أن نجاح الكاظمي، في مهمته هذه، ليس منوطا به وحده، أو بفريقه الوزاري، أو بالتشكيلات الأمنية النظامية فقط، فالمجتمع برمّته مدعوٌّ إلى الدفاع عن نفسه أمام الخطر الوجودي الذي يتهدّده. وقد سبق لناطقين باسم المرجع السيستاني أن دعوا، بعباراتٍ حازمة، إلى بسط سلطة الدولة على جميع الأراضي والمناطق، وإلى وضع حد نهائي لمنازعة السلطة على اقتناء السلاح واستخدامه. وبهذا، فإن المرجع المعروف باتزانه واعتداله بات معنياً، بصورة من الصور، بهذا التطور الخطير الذي يضع شعباً بأسره تحت رحمة مليشيات تقرّ وتصدح بولائها لغير العراق والعراقيين. وقد لوحظ أنه لم تصدر بعد (وحتى ساعة كتابة هذا التعليق) ردة فعل من المرجع على هذه الجريمة المدوية. والأهم، على أية حال، من المواقف العلنية اتباع سياسة فعلية وملموسة، تنسجم مع طروحات المرجع، ومع التطلعات المعلنة للأغلبية الغالبة من العراقيين التي عبّر عنها المحتجون منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وقد سبق لناطقين باسم المرجعية أن دانوا بقوة استهداف المحتجين من الأطراف المعلومة المتخصصة بسفك دماء العراقيين.
تتّسع دائرة بث الرسائل السياسية القاتلة، لتشمل كل من لا يأتمر بأوامر المليشيات وينفذ أجندتها، حتى لو كان يتعارض معها بعض التعارض فقط
وتتّسع دائرة بث الرسائل السياسية القاتلة، لتشمل كل من لا يأتمر بأوامر المليشيات وينفذ أجندتها، حتى لو كان يتعارض معها بعض التعارض فقط، وفي بعض الحالات لا جميعها، كما حال مقتدى الصدر، أو بدرجة أكبر رئيس الحكومة الأسبق، حيدر العبادي.
وكان هاشم الهاشمي الذي مات دون قضية وطنه وشعبه والحق في الكرامة والسيادة والاستقلال قد رأى، في آحد آخر حواراته التلفزية، أن وضع حدّ للنفوذ غير الشرعي لقوى الأمر الواقع، يتطلب أحزابا سياسية نشطة تجتمع وتتحد على مطلب استعادة الدولة من خاطفيها، وتمكين الشعب من حكم نفسه بنفسه، بغير تدخل خارجي أو تأثير أجنبي. والواضح، في ضوء المعادلات السياسية والاجتماعية القائمة، أن دوراً كبيراً ينتظر المرجع السيستاني في حمل لواء قضية شعبه، إلى جانب كل الممثلين المنتخبين الذين لا يمثلون المليشيات الولائية، كما تسمى في العراق في مجلس النواب وخارجه. ونقطة الانطلاق في ذلك كله دعم حكومة الكاظمي وتأمين أوسع مظلة شعبية لها، ودعم قدرات المؤسسة العسكرية وسائر الأجهزة الأمنية الرسمية وتعزيزها، ودعوة الشعب إلى الالتفاف حول الدولة ومؤسساتها، ونبذ الخارجين عن القانون، وخصوصا محترفي الجرائم السياسية المنظمة بسيارات الدفع الرباعي والدرّاجات النارية وكواتم الصوت الناري، بحق سائر مكونات العراق.
استعادة الدولة من خاطفيها، ومن المتسللين إلى مفاصلها ومن المستحوذين على حدودها ومعابرها، ومن الساعين إلى تغيير هويتها وطمس عروبتها، وتقطيع نسيجها الاجتماعي ووحدتها الوطنية، هي المهمة السياسية الأولى في هذه المرحلة من حياة بلد الرشيد والمأمون، والتي دفع هشام الهاشمي دمه فداء لها، على الرغم من إدراكه هول المخاطر التي ظلت تُحْدق به شخصيا، منذ كشفه وإضاءاته الباهرة على خبايا تنظيم داعش، إلى إضاءاته الثمينة على دواعش إيران الذين أقاموا دولة هجينة في العراق، على حد تعبير الباحث الراحل.
محمود الريماوي
العربي الجديد