للعام الخامس على التوالي، يواصل سُكّان عشرات القرى العربية في العراق، حياة النزوح، التي تختلف ملابساتها عن نزوحٍ آخر شهدته البلاد منذ سنوات، واقترن بالفرار من مدن وبلدات في شمالها وغربها عقب اجتياح تنظيم “داعش” لها منتصف العام 2014. ويعد ملف تجريف قوات البشمركة الكردية لقرى واقعة في مناطق محاذية لحدود إقليم كردستان، شائكاً، لجهة حساباته السياسية بين بغداد وأربيل، ومالية لجهة عدم رصد الحكومات المتعاقبة منذ سنوات، أي ميزانية تمكن من إعادة إعمار القرى المهدمة، وتساعد على عودة أهلها إليها. وأقدمت قوات البشمركة بشقيّها، التابعين لحزب الاتحاد الوطني الديمقراطي والحزب الديمقراطي الكردستاني، عقب العام 2014، على تنفيذ عمليات تجريف واسعة لقرى عربية في محافظة نينوى شمال البلاد، ضمن محاور خازر وزمار ومخمور، وفي كركوك ضمن المناطق الشمالية منها على وجه التحديد، وفي ديالى ضمن محوري كلار وخانقين، وهي بطبيعة الحال القرى التي تقع ضمن المناطق المتنازع عليها بين بغداد وأربيل في إطار ما يعرف بالمادة 140 من الدستور. وكانت البشمركة قد جعلت بعد شهر أغسطس/ آب من العام 2014، من تلك القرى، بمثابة خطوطٍ أمامية لها، وركّزت انتشارها فيها لصدّ ومواجهة “داعش”.
وشملت عمليات التجريف المنازل والبساتين والأرضي الزراعية في تلك المناطق، وحتى المدارس والدوائر الحكومية، وبلغت ذروتها في نينوى وديالى وكركوك، خصوصاً بين عامي 2015 و2016. ولا يوجد رقم دقيق لعدد القرى التي تعرضت للتجريف، لكن بعض المعنيين بالملف يقدرونها بنحو 300 قرية ذات غالبية عربية وتركمانية.
وكانت صدرت تقارير عدة لمنظمات دولية، أبرزها “هيومن رايتس ووتش”، أكدت أن عمليات التجريف والهدم وقعت أيضاً في قرى جرى طرد “داعش” منها بمساعدة “التحالف الدولي”، وذلك من قبل قوات البشمركة. كما خرجت تقارير للجان برلمانية ومنظمات محلية تطالب بفتح تحقيق بهذا التجريف، باعتباره جريمة حرب وعملية تغيير ديمغرافي، كما تطالب بتعويض سكان تلك القرى وإعادتهم إليها. إلا أن هذا الملف لم يتحرك، ولا يزال هؤلاء السكان مهجرين في معسكرات.
كانت ذروة عمليات التجريف في نينوى وديالى وكركوك، خصوصاً بين عامي 2015 و2016
وتوقفت عمليات التجريف بعد تنظيم أربيل استفتاء الانفصال عن العراق في سبتمبر/أيلول 2017، وما أعقبه من تداعيات سياسية وأمنية، أبرزها إطلاق بغداد حملةً عسكرية ضخمة أزاحت خلالها سيطرة البشمركة عن كركوك و13 منطقة أخرى كانت تسيطر عليها في هذه المحافظة، وفي نينوى. هكذا عادت أغلبية القرى المدمرة لسيطرة القوات العراقية الاتحادية، إلا أنها لا تزال على حالها، حتى أن مافيات ما يعرف بـ”الحديد والسكراب”، دخلت وسرقت حتى الأنقاض وحديد التسليح في قسمٍ كبير منها.
وكان تقرير سابق لـ”هيومن رايتس ووتش”، أكد أن “قوات الأمن في حكومة إقليم كردستان العراق دمرت بطريقة غير مشروعة أعداداً كبيرة من منازل العرب، وفي بعض الأحيان قرى بأكملها، في مناطق تمّت استعادتها من تنظيم داعش”. كما أشارت المنظمة إلى توثيقها “عمليات هدم إضافية غير قانونية حصلت في أكتوبر/تشرين الأول 2016، لأهداف سياسية لمسؤولي حكومة إقليم كردستان”، فيما نقلت عن السكان الأكراد في القرى والبلدات التي تعرضت للتجريف، تأكيدهم أن “البشمركة” دمروا منازل العرب، دون منازل الأكراد.
ويقر مسؤول عراقي في مكتب رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، بوجود ما سماه “حسابات سياسية بين الكتل في بغداد ونظيرتها في أربيل، تسببت في سلب حقوق آلاف الأسر وأبقتهم حتى اليوم نازحين في المعسكرات”. ويلفت إلى أن القرى المعنية هي عربية وتركمانية، لكن درجت العادة على الحديث عن القرى العربية فقط، وقسمٌ منها تعرض للتجريف الكامل بعد تحريره من “داعش”، فيما جرفت أخرى دون أن يكون للتنظيم وجودٌ قريب منها.
ويشرح المسؤول، في اتصال مع “العربي الجديد”، المسألة، بالقول إن “إدراج النازحين ضمن ملف ضحايا الإرهاب، يعني أنه تم منح البشمركة صكّ براءة من الموضوع، كما أن إدراجهم ضمن قانون تعويض ضحايا العمليات والأخطاء العسكرية أيضاً، فيه طمس للحقيقة، ما يجعل سكان هذه القرى مُعلّقين”. ويوافق المسؤول في هذا الصدد، على ضرورة أن تجري ملامسة هذا الملف من زاوية إنسانية أكبر.
لم ترصد حكومة الكاظمي أي اموال لإعادة إعمار تلك المناطق وإنهاء نزوح أبنائها
ويلفت المسؤول في مكتب الكاظمي، إلى أن “ملف التجريف ليس من ضمن أجندة عمل رئيس الحكومة (الحالي)، كما أن الأحزاب السياسة، وحتى تلك الكردية والتركمانية، لم تفاتحه به، ولم تضعه شرطاً أمام الكاظمي لدعمه، كما لم يجر الطلب من الأخير التعهد بالتحقيق في المسألة، أو تخصيص الأموال لإعادة بناء ما هُدّم”. ويضع المصدر المسؤولية على عاتق رئيس الحكومة الأسبق حيدر العبادي، “بسبب تغاضيه عن عمليات التجريف والتدمير والتهجير التي وقعت”، مطالباً بمساءلته وخلفه عادل عبد المهدي، “الذي كان بإمكانه التحاور مع الأكراد للوصول إلى صيغة معينة، من أجل إعادة بناء تلك القرى وإرجاع أهلها إليها”.
ويقول المسؤول في مكتب الكاظمي إن “الأكراد يتبرأون من التجريف، ويلقون بالمسؤولية حوله على تنظيم داعش، وعلى الأخطاء العسكرية التي ارتكبها الجيش العراقي”. وبرأيه، فإن ذلك يحصل “على الرغم من بروز أسماء متورطة في الملف، مثل لاهور شيخ جنكي، ونجد الدين كريم، والعقيد سردار باللواء 80 بالبشمركة، وغيرهم”، منوهاً إلى أن حكومة الكاظمي “لا تملك أي أموال لإعادة إعمار تلك المناطق وإنهاء نزوح أبنائها”.
وتواصلت “العربي الجديد” مع عضو البرلمان العراقي عبد الرحيم الشمري، وهو أحد المهتمين والممسكين بهذا الملف، الذي أكد أن “القوات الكردية دمّرت وجرفت آلاف المنازل التي يقطنها العرب، في محاولةٍ لطمس التاريخ العربي في المحافظات المحاذية والقريبة من حدود إقليم كردستان”. كما ذكّر بأن عمليات “فرض القانون نهاية العام 2017 لإفشال مشروع الانفصال، أنهت مسلسل التجريف، لكن آثاره لا تزال باقية، ولا يزال أهالي القرى المدمرة يسكنون الخيم، في ظلّ صمت حكومي ومنظماتي غير مبرر”.
وبحسب البرلماني نفسه، فإن “التجريف الذي قادته البشمركة، لم يشمل المنازل في القرى والبلدات في محافظات صلاح الدين ونينوى وديالى وكركوك فقط، إنما كذلك مقرات حكومية ومؤسسات تابعة للدولة، وهو ما حصل كثيراً في كركوك”. أما في ما خصّ الصمت الحكومي، فيشدد على أن بغداد “لم تعلق أو تحقق في هذا الملف منذ سنوات، على الرغم من كل المناشدات التي أطلقها برلمانيون خلال دورات سابقة”. وحول سبب هذا الصمت، فهو برأيه “التوافقات السياسية بين بغداد وأربيل، وكذلك المجاملات التي تقدمها حكومة بغداد للحزب الديمقراطي الكردستاني”.
أما النائب عن المكون التركماني في كركوك، مختار الموسوي، فيشير إلى أن “قوات الأمن الكردية أتمت مهمتها في المناطق التي أرادت تجريفها، وقد تشعر الآن بالانتصار بعد طرد العرب والتركمان منها، وذلك بسبب صمت بغداد”. ويؤكد الموسوي لـ”العربي الجديد”، أنه على الرغم من أن “التجريف توقف منذ أكثر من عامين، إلا أن الدمار لا يزال يمثل العقبة أمام عودة مئات الأسر إلى منازلهم”. ويرى البرلماني العراقي أن من واجب “الحكومة العراقية مخاطبة أربيل، وإبلاغها أن غالبية الدمار الذي تعرضت له القرى المختلطة المحاذية لإقليم كردستان، كان سببها ليس الجيش العراقي أو ضربات سلاح الجو الوطني، إنما قوات الأمن الكردية التي سعت إلى تغيير ديمغرافي شامل في تلك المناطق”.
سوقت البشمركة لحجج كثيرة لتبرير التجريف، منها انتماء الأهالي لداعش، واتهامهم بموالاة حزب البعث، واعتبار المنازل ملغومة
بدوره، أكد قاسم الشمري، وهو ناشط مدني من مدينة الموصل وعلى تواصلٍ دائم مع مخيمات النازحين، أن الدمار الذي لحق بمنازل الكثير من النازحين في المخيمات على يد البشمركة بعد تحريرها قراهم من سيطرة داعش”، كبير جداً، موضحاً أن الحجج التي كانت البشمركة تسوقها لتبرير عمليات التجريف، هي انتماء الأهالي للتنظيم، إضافة إلى اتهامهم بموالاة حزب البعث، وكذلك تبرير تفجير المنازل على اعتبارها ملغومة، علماً أن سكانها ينفون ذلك. وبحسب ما يروي السكان، وفق الشمري الذي تحدث لـ”العربي الجديد”، فإن البشمركة لم تقم بتجريف المنازل فحسب، بل أحرقت المزارع أيضاً، وهرّبت الماشية إلى إقليم كردستان، مجبرة سكاناً عربا على مغادرة منازلهم بما يرتدون من ملابس فقط، فيما جرى نهب ممتلكاتهم”.
ورفض مسؤولون في حكومة إقليم كردستان التعليق على الملف، لأسباب لم يفصحوا عنها. لكن القيادي البارز في الحزب الديمقراطي الكردستاني الحاكم في أربيل، عماد باجلان، اعتبر في تصريح لـ”العربي الجديد”، أن “أعداء كردستان يصرحون بمعلومات عارية عن الصحة، وما يشاع عن قيام قوات البشمركة بتجريف القرى العربية القريبة من الحدود الكردستانية غير صحيح، لكن يمكن القول إن بعض القرى تعرضت للأضرار، وهي لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، وتحديداً تلك التي كانت على خطّ الصد بين البشمركة وداعش خلال السنوات الماضية، مثل قرى محاذية لنهر خازر في الموصل وقرية حسن شامي، وبعض القرى في مناطق زمار وغيرها”.
وشدّد باجان على أن “الجهات التي تتهم حكومة إقليم كردستان بالتجريف، لا تمتلك أي أدلة أو صور أو وثائق على ذلك، بل على العكس، فإن البشمركة هي القوة الوحيدة التي قاتلت داعش بأسلحة تقليدية بعد انهيار الجيش العراقي في العام 2014”. ورأى أن “أعداء كردستان، كلما لمسوا تقارباً بين بغداد وأربيل في محاولة لتصفير المشاكل، أثاروا هذه الورقة المحترقة، وهذا الملف المفبرك”.
زيد سالم
العربي الجديد