في أواخر عهد الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي، دار نقاش واسع ومعقّد ومتشعّب داخل أروقة القرار الاقتصادي في دوائر النظام العليا حول ضرورة الذهاب إلى إجراءات قاسية تتعلّق بفرض تغيير على أسعار المشتقّات النفطية وتقنين الاستهلاك من خلال إلزام حصص لكلّ آلية عبر استخدام البطاقة الذكية، خصوصاً أن الدعم الذي كانت تقدّمه الدولة لهذه المشتقات تجاوز الـ16 مليار دولار في السنة، إضافةً إلى أن قيمة العملة الوطنية مقابل العملات الصعبة، تحديداً الدولار بدأت بالانخفاض وبدأت تقارب مستوى الألف تومان للدولار الواحد. في حينها، قاومت حكومة خاتمي هذا الخيار وماطلت في تطبيقه بناء على تقدير النتائج التي قد يؤدي إليها، إضافةً إلى أن العائدات الإيرانية من العملة الصعبة مقابل بيع النفط بلغت مستويات متقدّمة وعالية ذهبت كلها إلى الصندوق السيادي للثروات الوطنية من دون أن يكون لخاتمي حرية التصرف في هذه العائدات لتطبيق برامجه الاقتصادية والإصلاحية.
بعد خروج خاتمي ووصول محمود أحمدي نجاد إلى موقع رئاسة الجمهورية والسلطة التنفيذية، بات النظام قادراً على تنفيذ المخطّطات التي يريدها من دون معارضة، خصوصاً أن تلك المرحلة شهدت عودة التيار المحافظ إلى السيطرة على السلطة التشريعية ووضع على رأسها غلام علي حداد عادل الذي يُعتبر من الأقرب إلى المرشد الأعلى وتربطه به علاقة عائلية (زواج نجل المرشد مجتبى، كريمة حداد عادل)، ما مهّد الطريق أمام تطبيق قرار التقنين في قطاع المشتقّات النفطية. إلّا أنّ الصدمة التي حدثت مع هذا القرار والحركة الاعتراضية التي رافقته في الشارع، كانت خارج توقّعات الأجهزة الأمنية والعسكرية ومع مؤسسة النظام، وقد أدت خلال ساعات قليلة إلى خروج جمهور المعترضين إلى شوارع المدن وإحراق عددٍ كبيرٍ من مراكز توزيع هذه المشتقّات المملوكة للدولة، من دون أن تكون تلك الأجهزة قادرة على فرض سيطرتها بالسرعة المطلوبة.
قتال الشوارع
هذه الأحداث، إلى جانب الأحداث التي سبق أن شهدتها إيران بين عامَيْ 1998 – 1999 نتيجة التحرّكات الطلابية في العاصمة طهران وجامعتها، دفعت المؤسستَيْن العسكرية والأمنية (حرس الثورة الإسلامية والشرطة) إلى إعادة النظر في تركيبتها القتالية وآليات عملها الميدانية، والانتقال من عقيدة القتال التقليدية إلى عقيدة قتال الشوارع لدى جميع الوحدات التابعة لها، فضلاً عن وضع استراتيجية عملانية وعملاتية لمواجهة أي تحدّيات داخلية قد تضع النظام في مواجهة تحدٍّ وجودي يهدّد استقراره أو يشكّل مدخلاً إلى نفوذ أعداء الخارج لإشعال الوضع في إطار سياسة إسقاط النظام من الداخل.
في السنوات الممتدة من عام 2000 إلى عام 2005، لجأت مؤسسة حرس الثورة الإسلامية إلى إعادة هيكلة جزء من قواتها وألويتها في مراكز المحافظات الإيرانية، وشرعت بإجراء مناورات داخل هذه المحافظات والمدن الرئيسة لتدريب عناصرها على عقيدة قتالية جديدة، تقوم على حرب الشوارع ومواجهة الاضطرابات الداخلية والتعامل مع أعمال الشغب والتظاهرات بالتنسيق والتعاون مع قوات التعبئة الشعبية (بسيج مردمى)، إضافةً إلى إنشاء مستويات من القيادة لإدارة أمور هذه المدن والمحافظات تبدأ من القيادة المعلنة والمعروفة إلى القيادة الرديفة، وصولاً إلى قيادة الطوارئ التي بقيت في دائرة الغموض وبعيدة من الأضواء، مهمتها البقاء في العتمة إلى اللحظة التي تخرج القيادة المعروفة والرديفة من دائرة العمل بسبب الفشل أو الاستهداف من قبل عناصر الشغب. بالتوازي مع هذه الهيكلية، وضعت هذه القوات استراتيجية تقوم على تحويل كل محافظة أو مدينة إلى وحدة إدارية مستقلة تعمل ضمن خطط واستراتيجيات سبق تحديدها، لإدارة المنطقة التي تقع ضمن صلاحياتها من دون العودة إلى التنسيق مع المركز في حال وصلت الأمور إلى مرحلة تقطيع الأوصال بين المركز والأطراف.
هذه الاستراتيجية والعقيدة العسكرية برزتا بشكل واضح وطُبّقتا في الأحداث التي شهدتها إيران صيف عام 2009 بعد حركة الاعتراض التي خرجت نتيجة الانتخابات الرئاسية التي جاءت بأحمدي نجاد رئيساً للجمهورية لدورة ثانية على حساب مرشح القوى الإصلاحية مير حسين موسوي، والتي عُرفت في الأدبيات السياسية داخل وخارج إيران بـ”الحركة الخضراء” نسبة إلى اللون الأخضر الذي كان شعار الحملة الانتخابية لموسوي، إذ عُزلت المحافظات والمدن الرئيسة عن بعضها بعضاً وقطع الإنترنت أو خُفّضت الخدمة إلى الحدود الدنيا في كل إيران لمنع تسريب الأخبار والمشاهد المصورة عَمّا يجري في الداخل، فضلاً عن حملة واسعة من الاعتقالات طالت تقريباً كل المفاتيح السياسية والقيادية في الطبقة السياسية الإصلاحية أو من الناشطين الشباب وترهيبهم، وحتى قتل عددٍ كبيرٍ منهم، بدأ بقتل ندى سلطاني ولم ينتهِ مع آخرين في السجون (في سجن كهريزك تحديداً) على يد القاضي سعيد مرتضوي.
وفي الأحداث التي شهدتها إيران أواخر عام 2017 وبداية عام 2018 التي انطلقت من مدينة مشهد شرق البلاد، على خلفية انهيار شركات إنمائية وائتمانية ومالية عدّة، وتبخّر مدّخرات واستثمارات شرائح واسعة، خصوصاً من الطبقتين الفقيرة والوسطى، عاد النظام إلى استخدام هذه الاستراتيجية بشكل سريع وفعال لمنع امتدادها زمنياً كما حدث عام 2009، بالتالي استطاع قمع هذه التحرّكات على الرغم من اتّساع دائرتها التي شملت نحو مئة مدينة وناحية.
في نوفمبر 2019 وبعد قرار تعديل أسعار المشتقّات النفطية (البنزين)، كان للشارع الإيراني موقف مختلف عن الجدل الذي ساد بين مراكز القرار في النظام وإدارة روحاني للأزمة، إذ اشتعل الشارع بسرعة وذهب إلى مستويات خرجت عن سيطرة القوى الأمنية وقوات مكافحة الشغب، ما استدعى تدخلاً مباشراً من أجهزة مؤسسة الحرس في محاولة لمنع اتّساع رقعة الاحتجاجات وتحوّلها إلى تحدٍّ حقيقي واسع غير قابل للضبط. من هنا، كان حجم الخسائر البشرية خلال أيام عّدة مرتفعاً سواء بالنسبة إلى عدد القتلى أو أعداد المعتقلين تحت حجة العمالة للخارج وتنفيذ أجندات أجنبية تستهدف ضرب النظام من الداخل، ما سمح باستخدام أقسى وأقصى أنواع القمع والقتل والاعتقال التي أتاحت للنظام وأجهزته إعادة فرض الهدوء خلال أيام من دون تقديم أي تنازلات أو الأخذ بالأبعاد الاقتصادية التي حرّكت الشارع في ظلّ الفاتورة الكبيرة التي تدفعها الطبقات الفقيرة والمتوسطة جراء العقوبات الاقتصادية الأميركية وتراجع قدرات هذه الطبقات أمام ارتفاع الأسعار وانزلاق القدرَتَيْن الشرائية والحياتية.
ومع الانهيارات الكبيرة التي أصابت الاقتصاد الإيراني وإصرار النظام على المضي في سياسة التمسّك بمواقفه، بالتزامن مع الإخفاقات التي تعاني منها سياسات حكومة روحاني في معالجة الوضع الاقتصادي وتبعات أزمة كورونا، سواء بسبب العجز الذاتي أو نتيجة للصراعات الداخلية المعطّلة، يضاف إليها الانهيار الكبير في قيمة العملة الوطنية مقابل الدولار التي تجاوزت كل الحدود والتوقّعات ولامست حدود 25 ألف تومان مقابل الدولار الواحد من دون وجود حدود لهذا التدهور والانهيار، كان من الطبيعي أن ترتفع الصرخات الشعبية المتألّمة من فقدانها القدرة على تأمين الحدّ الأدنى من متطلّبات العيش والحياة، وتندفع إلى التحرّك في الشارع للمناشدة بمعالجات حقيقية للأوضاع الاقتصادية المنهارة. وهو تحرّك متوقّع في ظل وجود نوايا لدى النظام في تقديم حلول حقيقية لهذه الأزمة، محكوماً باعتبارات داخلية في إطار صراع التيارات السياسية ومحاولة إسقاط تجربة روحاني والقوى السياسية الداعمة له (الإصلاحية والمعتدلة والمستقلة) في الشارع، استعداداً وتحضيراً لمعركة استعادة السيطرة على السلطة التنفيذية ورئاسة الجمهورية كمقدمة للانتقال إلى دور فاعل للتيار المحافظ الممثّل للنظام في تقديم الحلول الاقتصادية والسياسية للأزمات التي يعاني منها هذا الأخير داخلياً ودولياً.
رسالة إلى الشارع
في هذا السياق، يبدو أن النظام لم تَغِبْ عنه إمكانية حصول تحرّكات في الشارع في الأسابيع الأخيرة، خصوصاً بعد الانهيار في أسعار العملة الوطنية، لذلك شهدت شوارع المدن الرئيسة من طهران ومشهد وأصفهان وغيرها، انتشاراً علنياً لعناصر قوات مكافحة الشغب التابعة لقوات حرس الثورة والشرطة التي تقع مباشرة تحت إشراف المرشد الأعلى، باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة، في محاولة لاستعراض القوة ولإيصال رسالة إلى الشارع بالاستعداد لممارسة القمع بكل أنواعه في مواجهة أي تحرّك. وفي خطوة مكمّلة، جاء موقف السلطة القضائية بقبول وتأييد حكم الإعدام بحقّ الناشطين الثلاثة الذين سبق اعتقالهم أثناء أحداث نوفمبر (تشرين الثاني) 2019، من باب إيصال رسالة أيضاً إلى الشارع الشعبي والقوى الشبابية التي تشكّل العصب الأساس لهذه التحرّكات من أن مصيرهم سيكون مشابهاً لمصير هؤلاء الشبان، أي تحويل قرار الإعدام إلى ورقة ضغط وقمع استباقي لأي تحرّك محتمل، بدأ يشعر النظام بأنه قريب وواسع وخارج عن السيطرة، نتيجة ما وصلت إليه الأوضاع.
من المحتمل أن يلجأ النظام والسلطة القضائية وبتدخل مباشر من رئيسها أو غير مباشر من المرشد الأعلى الذي يملك الحقّ في تعطيل الأحكام القضائية والقانونية والدستورية اعتماداً على الصلاحيات التي يتمتّع بها دستورياً ودينياً كوليّ للفقيه، إلى إعلان تعليق حكم الإعدام لهؤلاء الشبان، وقد يكون اللجوء إلى هذا الخيار مبنياً أو استجابةً إلى المناشدات الداخلية الصادرة عن أكثر من جهة التي لا شكّ حذّرت من التداعيات السلبية للمضي بتنفيذ قرار الإعدام، على اعتبار أنه سيكون كالنار في هشيم الاعتراضات التي بدأت تلوّح رأسها من مدينَتَيْ بهبهان وشيراز في الجنوب، وطهران العاصمة، وإن انطلاق واتّساع هذه الشرارة لن تكون بحجم التحرّكات السابقة، وإمكانية أن تضع النظام أمام تحدٍّ وجودي حقيقي في حال اندلاعها هذه المرّة. لكن ما قد يعرقل هذا التوجّه للتهدئة هو مخاوف النظام من أن يُفَسَّر تعليق قرار الإعدام بأنه جاء استجابةً للحملة الدولية، بما يشيع إحساساً بضعف النظام وتراجعه أمام الضغوط الدولية والداخلية، خصوصاً بعد مشاركة الرئيس الأميركي دونالد ترمب في هذه الحملة. ومع ذلك فإنّ ما يدفع جهات داخلية إلى الاعتقاد بإمكانية وقف تنفيذ هذا القرار أو المراهنة على هذا الأمل هو مستوى من العقلانية التي قد يفكر فيها النظام، وأن هذا القرار قد يتحوّل إلى مدخل يستغلّه الخارج والمتربّصون به من قوى مُعادية ومعارِضة، وقد يُستخدم كشرارة لحركة اعتراضية لن تكون مطلبيّة بل سياسية ولا يمكن السيطرة عليها وتضع النظام أمام تحدّيات حقيقية، ربّما يعجز عن السيطرة عليها، وقد تتوسّع مع اتّساع دائرة القمع وحدّتها.
اندبندت عربي