تقام اليوم أول صلاة جمعة في آيا صوفيا في إسطنبول، ويعاد فتحها مسجداً، وذلك بعد حوالي 86 عاماً من تحويلها إلى متحف، عرفت خلالها تجاذبات وجدالات ومطالبات مديدة، لكن هذا الصرح التاريخي والديني البارز الذي يعدّ إحدى أهم الوجهات السياحية في إسطنبول سيبقى مفتوحاً “أمام الجميع، أتراكاً وأجانب، مسلمين وغير مسلمين”، حسب ما أعلن الرئيس التركي، رجب طيب أردوعان، بُعيد مصادقته على الحكم القضائي الذي أصدره مجلس الدولة التركي، وهو أعلى محكمة إدارية في تركيا، في 9 يوليو/ تموز الجاري، يُبطل فيه الوضع الذي كانت آيا صوفيا توصّف بموجبه متحفاً، بعد موافقة المجلس على طلباتٍ قدّمتها منظمة تركية بإبطال قرار مجلس الوزراء التركي الصادر في 24 نوفمبر/ تشرين الثاني في عام 1934، والذي كان يعطي آيا صوفيا وضع المتحف.
توظيفات ورمزيات
ويحمل قرار إعادة آيا صوفيا مسجداً أكثر من بعد رمزي، على المستويات، الديني والقومي والتاريخي، وله توظيفات سياسية وإيديولوجية وثقافية شتى، خصوصا أن آيا صوفيا كانت تمثل الكاتدرائية الأهم خلال عهد الإمبراطورية البيزنطية، وتحوّلت إلى مسجد بعد أن فتح السلطان العثماني محمد الفاتح مدينة القسطنطينية (صار اسمها إسطنبول) عام 1543، ثم قرّر الزعيم التركي الراحل، مصطفى كمال أتاتورك، تحويلها عام 1934 إلى متحف.
أصوات ترى عملية تحويل آيا صوفيا إلى مسجد،تهدف إلى إزالة الإجحاف والظلم بحق الأمة التركية
وليس مصادفة اختيار تاريخ اليوم لإقامة أول صلاة جمعة في آيا صوفيا، كونه يصادف ذكرى سياسية، تتصل بمعاهدة لوزان الثانية التي جرى توقيعها في 24 يوليو/ تموز 1923، بين تركيا وكل من بريطانيا وفرنسا، وتمّ فيها رسم الحدود الحاليّة لتركيا، وتقاسمت بموجبها أراضي الإمبراطورية العثمانية. لذلك، يستند توقيت اليوم، على الرغم من كل الأبعاد التاريخية والرمزية والدينية، إلى خلفيّة سياسيّة، تربط الأمس باليوم، في سياق بحث تركيا عن دور فاعل في المنطقة والعالم.
وتدخل آيا صوفيا، مع التحول الجديد، فصلاً جديداً في تاريخها، لا يخرج عن إطار المعركة الثقافية والسياسية التي تخوضها تركيا منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية، حيث شكّل تحدي الهوية وإعادة تعريفها نقطةً محوريةً للحركات السياسية في الجمهورية التركية، وشهدت نزاعاتٍ ثقافية وسياسية بشأن كيفية التعامل مع الرموز التاريخية وتقييمها، بغية تصفية حساباتها مع التاريخ المثقل بسرديات المظلومية والجروح والتبعات.
وإذا كان القرار قد لاقى رد فعل غاضباً من اليونان التي ندد رئيس وزرائها، كيرياكوس ميتسوتاكيس، “بأشد العبارات”، بالقرار التركي، إلا أن معظم الردود الدولية الأخرى أخذ طابعاً سياسياً ودينياً، ركّز على رفض إقرار الرئيس أردوغان الحكم القضائي، وهاجمه بعض أصحابها، معتبرين أن قرار المحكمة العليا جاء نتيجة حملةٍ مكثفةٍ قام بها، بغية تحويل هذا الصرح الأثري الديني، الذي يرجع تاريخه إلى نحو 1500 عام، إلى مسجد، وذلك بعد أن سمحت للرئيس التعديلات الدستورية المقرّة في عام 2010، بتعيين أغلب قضاة مجلس الدولة الحالي الذي أصدر القرار، من أجل توظيفه لوقف التدهور المستمر في الأوساط الشعبية المؤيدة له في الشارع التركي.
تدخل آيا صوفيا، مع التحول الجديد، فصلاً جديداً في تاريخها، لا يخرج عن إطار المعركة الثقافية والسياسية التي تخوضها تركيا منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية
ويجادل معارضون أتراك وسواهم بأن تحويل آيا صوفيا إلى مسجد لن يمنح الرئيس أردوغان سوى دفعة شعبية مؤقتة، على حساب تدهور صورة تركيا على المستوى الدولي، بوصفها مجتمعاً منفتحاً ذا غالبية مسلمة تتعايش فيه بسلام مع تراثه المسيحي. إلا أن الحكومة التركية اعتبرت تحويل آيا صوفيا إلى مسجد شأناً داخلياً سيادياً، يحق لها بموجبه إدارة جميع الصروح والمنشآت التابعة لها وتقع في نطاق سلطتها وإدارتها، ولا يحق لأحد التدخل فيه، لأنه يدخل في صلب صلاحياتها السيادية على مقدّرات دولتها. ولذلك رفض الرئيس أردوغان الانتقادات الدولية التي طاولته بفعل القرار، معتبراً أن الأمر يقع ضمن “حقوق تركيا السيادية”، لكنه أراد تطمين العالم بأن آيا صوفيا تشكل تراثاً مشتركاً للبشرية، وستواصل “بمكانتها الجديدة، احتضان الجميع بطريقة أكثر صدقًا وأصالة”. ورحب “بكل الآراء المعبر عنها بشأن هذا الأمر على الساحة الدولية”، وأكد أن “فتح آيا صوفيا للعبادة باتباع لائحة جديدة مجرّد ممارسة لحقوق سيادة بلادنا، حيث يتماشى الحق في تحويل آيا صوفيا إلى مسجد مع ميثاق تأسيسها، وسنقبل جميع المواقف والبيانات المتعلقة بهذه المسألة بخلاف التعبير عن الآراء على أنها انتهاك لاستقلالنا، مثلما لا نتدخل نحن في تركيا في القرارات المتعلقة بأماكن العبادة في دول أخرى، نتوقع الفهم نفسه حول حماية حقوقنا التاريخية والقانونية”، لكنه اعتبر القرار “بداية جديدة للمسلمين في كل أنحاء العالم من أجل الخروج من العصور المظلمة”.
وتسود في الخطاب السياسي والثقافي التركي أصوات قومية وإسلامية، تريد إظهار عملية تحويل آيا صوفيا باعتباره جزءاً من عمل، يهدف إلى إزالة الإجحاف والظلم بحق الأمة التركية لاستعادة تاريخها، وإعادة صروحها الدينية التاريخية، لكن مسار قضية آيا صوفيا لا يتوقف عند أبعاد هذا الخطاب ونزعته، بل كان نتيجة مسار قانوني أيضاً، اتبعته فعاليات تركية في أروقة القضاء، واستدعى توقيع الرئيس أردوغان قراراً بنقل تبعيتها من وزارة الثقافة والسياحة إلى رئاسة الشؤون الدينية التركية، وتحويلها إلى دار للعبادة.
البعد القانوني
بدأ المسار القانوني في قضية آيا صوفيا، في 24 يونيو/ حزيران 2005، عندما رفعت “جمعية خدمة الأوقاف والآثار التاريخية والبيئة” قضية إلى المحكمة الإدارية العليا، طالبت فيها بإلغاء قرار مجلس الوزراء التركي الصادر في العام 1934، ولكن الغرفة العاشرة في المحكمة رفضت طلب الجمعية في 2008، مستندة إلى أن استخدام آيا صوفيا متحفا لا ينتهك القانون التركي. ثم استأنفت الجمعية دعوتها أمام المحكمة، لكن القرار الذي صدر في 2012 نص على تثبيت الحكم السابق. وبعدها أعادت الجمعية رفع دعوتها في 2016 أمام الدائرة العاشرة لمجلس الدولة التي أصدرت قرارها النهائي القاضي بإلغاء قرار عام 1934، وإعادة فتح آيا صوفيا مسجداً.
يجادل معارضون أتراك وسواهم بأن تحويل آيا صوفيا إلى مسجد لن يمنح الرئيس أردوغان سوى دفعة شعبية مؤقتة
واستندت المحكمة الإدارية العليا في قرارها النهائي إلى أن آيا صوفيا مسجّلة مسجداً في سندات الملكية التي تحمل اسم مؤسسة “وقف محمد الفاتح”، السلطان العثماني الذي فتح القسطنطينية في القرن الخامس عشر، معتبرةً أن هذا التصنيف غير قابل للتعديل، ولا يمكن إلغاء صفته أو تحويله إلى متحف أو إلى أي شيء آخر، وأكّدت أنها درست القضية من حيث التشريعات ذات الصلة، والمحكمة الدستورية، والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. فضلاً عن أنها اعتبرت أن آيا صوفيا مملوكة لوقف السلطان محمد الفاتح، والمُعرّف بكونه مسجداً. وبالتالي، لا تشكل الحقوق والممتلكات غير المنقولة التابعة للوقف عائقاً أمام استخدام المجتمع لها الذي قُدمت له. وبناء على القرار، ستُنقل إدارة “آيا صوفيا” إلى رئاسة الشؤون الدينية التركية، بناء على المادة 35 من القانون رقم 633 المتعلق بمهام رئاسة الشؤون الدينية التركية.
ليس صحيحا الادعاء أن السلطان محمد الفاتح اشترى آيا صوفيا من ماله الخاص، لتكون ملكا شخصيا له
وليس صحيحا الادّعاء أن السلطان محمد الفاتح اشترى آيا صوفيا من ماله الخاص، وبالتالي هي ملك شخصي، إذ لا تستند إلى أي سند قانوني أو أي عرفٍ سائد إبان عهد السلطان العثماني، ولا في الفترات التي سبقته أو التي أتت بعده. وكان السائد في تلك الأزمنة أن أي جزء ملك للدولة، يحق للسلطان تخصيصه وقفا، وهو ما فعله محمد الفاتح بتحويل آيا صوفيا إلى وقف، سجّل باسمه، وهو ما يتحدث عنه المسؤولون الأتراك بهذا الخصوص.
أصوات الداخل
وعلى الرغم من اختلاف الأبعاد الدينية والسياسية والقانونية وتداخلها في قضية آيا صوفيا، إلا أن الأصوات الإسلامية التي كانت تنادي بإعادة آيا صوفيا إلى وضعية المسجد ليست جديدة، وتحظى بامتداد شعبي في تركيا. ولذلك حظي قرار تحويلها إلى مسجد بتأييد شعبي واسع، خصوصا في أوساط وحزب العدالة والتنمية (الحاكم) وأنصاره، ومختلف الأوساط الإسلامية والقومية، فيما انقسمت أحزاب المعارضة بين مؤيد ومتحفظ عليه، لكنها لم تعارضه أو ترفضه، بل أشارت إلى توظيفاته السياسية من حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان، حيث اعتبر رئيس أكبر أحزاب المعارضة التركية، الشعب الجمهوري، كمال كليتشدار أوغلو، أن حكومة “العدالة والتنمية” برئاسة أردوغان، أرادت تحويل آيا صوفيا إلى حلبة صراع سياسي. وقال إن حزبه “فطن إلى الفخ السياسي الذي أراد أردوغان استدراجه إليه. لذلك لم يرفض القرار، وشدّد على أن “من الخطأ تحويل آيا صوفيا إلى حلبة صراع سياسي، وتهويل الموضوع وربطه بسيادة تركيا على أراضيها، فالمبنى على أرض تركية، وبالطبع ستكون تركيا الدولة صاحبة السيادة، ولا مانع لدى الحزب أبداً، إذا ما كانت الحكومة تريد تحويل المتحف إلى مسجد”. واعتبر رئيس حزب الديمقراطية والتقدّم، علي باباجان، القرار “مناورة سياسية جديدة لكسب تيار كبير في الشارع”، و”محاولة لكسب الدعم السياسي وإدارة المرحلة عن طريق اللعب على وتر العاطفة القومية والدينية”. وهنأ الشعب التركي بإعادة فتح آيا صوفيا للعبادة. وباركت رئيسة الحزب الجيد، ميرال أكشنار، قرار تحويل آيا صوفيا مسجدا، وأقرّت بأنها كانت “مخطئة عندما قالت إن أردوغان لن يستطيع فتح آيا صوفيا، وأهنئكم بمسجد آيا صوفيا، وأبارك للرئيس أردوغان”. وكتب الرئيس التركي السابق، عبد الله غول، على “تويتر”: “أبارك إعادة فتح آيا صوفيا للعبادة. هذا القرار التاريخي أسعد شعبنا العزيز، وأهنئ كل من ساهم في تحقيق هذا القرار”. ورحب رئيس حزب المستقبل (المعارض)، أحمد داود أوغلو، بالقرار بالقول “إن إعادة فتح آيا صوفيا للعبادة يمثل تحّول الحلم المنتظر منذ عشرات السنوات إلى حقيقة”. وعبّر عن تقديره للموقف المسؤول الذي أبدته الحكومة والمعارضة. كما أعرب زعيم حزب السعادة، تمل كارامولا أوغلو، عن تقديره قرار مجلس الدولة، معتبراً أنه “اتُّخذ بما يتناسب مع رغبة أمتنا منذ زمن”.
التيارات المنادية بإعادة آيا صوفيا إلى وضعية المسجد ليست جديدة، وتحظى بامتداد شعبي في تركيا
ولم تتأخر رئاسة شؤون الدينية التركية عن إصدار بيانٍ، اعتبرت فيه أن “الرسومات في آيا صوفيا ليست عائقاً أمام صحة الصلوات التي ستؤدى فيه”، وأوصت بوجوب “تغطية هذه الرسومات أو تعتيمها في أثناء أوقات الصلاة باستخدام وسائل مناسبة، للتأكد من إمكانية أداء المسلمين صلواتهم بخشوع”. وباعتبار أن جامع آيا صوفيا سيكون مفتوحاً أمام الزوار الأتراك والأجانب، بغض النظر عن ديانتهم، فإن المجلس الأعلى للشؤون الدينية اعتبر أنه “لا يوجد أي مانع من الناحية الدينية لافتتاح آيا صوفيا الذي يعتبر قيمة كبيرة للتراث الثقافي الإنساني والتاريخي، أمام الزوار خارج أوقات الصلاة”.
التحولات التاريخية كانت دائماً تعبيراً عن الخلفيات والنوازع الإيديولوجية والسياسية للطرف الغالب والأقوى في كل مرحلة
والحاصل أنه إن كانت آيا صوفيا قد تعرّضت تاريخياً إلى تحولاتٍ في وضعها من كاتدرائية خلال حقبة الإمبراطورية البيزنطية، ثم إلى مسجد على يد السلطان العثماني محمد الفاتح، وبعدها إلى متحف على يد أتاتورك، واليوم يعاد فتحها مسجداً، إلا أن هذه التحولات التاريخية كانت تعبيراً عن الخلفيات والنوازع الإيديولوجية والسياسية للطرف الغالب والأقوى في كل مرحلة، فقد كان سقوط القسطنطينية على يد العثمانيين تعبيراً عن صعود الإمبراطورية العثمانية حاملة راية الإسلام، فحوّلت الرمز البيزنطي المسيحي إلى مسجد للمسلمين، ثم جاءت لحظة انهيار الإمبراطورية العثمانية مع صعود أتاتورك الذي رفع شعار العلمانية، فحوّل آيا صوفيا إلى متحف كي يفصل بين الدين والدولة، وأن يسير باتجاه الأوربة. واليوم، يريد الرئيس أردوغان الظهور بمظهر من أزال الإجحاف بحق مسلمي تركيا، بإعادة آيا صوفيا مسجداً. وفي الوقت نفسه، أراد إرسال رسالة إلى الخارج، تفيد بصعود الدور التركي على الصعيدين، الإقليمي والدولي. ومع ذلك، الأهمية الرمزية لآيا صوفيا ستبقى عابرة للأزمنة والأديان والحضارات.
عمر كوش
العربي الجديد