«هدفنا الإنسان العراقي الذي يتطلع إلى الكهرباء كمتنفس ليمارس حياته الطبيعية ويعود إلى عمله. هنالك أناس خيِّرون عملهم فني بحت ولا علاقة لهم بأي سياسة أو اتجاه معين، يعملون بنكران ذات وبدون رواتب وبدون مقابل لا لشيء إلا لإسعاد المواطن وإيصال الكهرباء إليه (…) أتوقع أن نشهد الأسبوع المقبل تغييرا ملحوظا وتحسنا في تجهيز الكهرباء إلى بغداد».
هذا الكلام لم يُقل هذه الأيام وإنما بالضبط في 21 مايو/ أيار 2003 وقائله وقتها عادل حميد مهدي مدير مركز السيطرة الكهربائية في كامل العراق.
كنت وقتها في بغداد وأقدم برنامجا يوميا على شاشة «الجزيرة» بعنوان «العراق ما بعد الحرب» خصصنا حلقته في ذلك اليوم لانقطاعات الكهرباء المتكررة في عز فصل الصيف الذي تصل فيه درجات الحرارة إلى الخمسين، قدمناها بإضاءات تعمل بمولد كهربائي ضخم واستضفنا فيها كذلك نافع عبد السادة علي مدير السيطرة الكهربائية في العاصمة العراقية بغداد وجنان متِّي بهنام مدير محطة كهرباء الدُورة في بغداد.
تذكرت كل هذه التفاصيل وأنا أتابع ما يحدث هذه الأيام من مواجهات في بغداد بسبب الكهرباء وما أدت إليه من مقتل متظاهرين اثنين وجرح آخرين، بعد أقل من ثلاثة أشهر من عمر حكومة جديدة وعدت بتحسين الخدمات العامة لكن العراقيين لم يظفروا إلى الآن سوى ببضع ساعات من الكهرباء مع هذا القيظ الذي لا يطاق.
ومع أن رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي ترأس قبل يومين اجتماعاً وزارياً عاجلاً لمناقشة مشكلة الكهرباء، إلا أن لا خطة واضحة ولا وعود بقرب الفرج لقطاع لم يُكمل أي من الوزراء الذين أشرفوا عليه مدة تعيينهم إذ كانوا يُقالون في كل مرة تحت ضغط الشارع واستيائه الشديد.
17 عاما كاملة والعراقيون يرددون نفس الشكوى وما من مجيب، بل إن التقرير الذي بث في حلقتنا عام 2003 أورد وقتها أن العمال يعملون بكل تفان لإصلاح ما أصاب محطة الدُورة لتوليد الكهرباء، المحطة الأولى المسؤولة عن تغذية العاصمة بغداد بالتيار الكهربائي، من أعطال سواء بسبب القصف الأمريكي أو غيره بهدف إعادة التيار الكهربائي الذي قُطع عن بغداد منذ الرابع من أبريل-نيسان مما أعاد التيار بنسبة تتراوح بين 25 إلى 30 في المئة، إلا أنه أشار إلى أن من بين الأربع وحدات حرارية في قاعة التوربينات لا تعمل سوى وحدة حرارية واحدة في حين أحيلت اثنتان إلى شركة (سيمنس) الألمانية لإعادة تأهيلهما وإرجاعهما إلى طاقتهما القصوى لكن أعمال الصيانة توقفت قبيل نشوب الحرب.
من حق الناس أن تعرف أين ذهبت الأموال الطائلة التي صرفت على الكهرباء وما زالوا يعانون الظلام والقيظ والمرض ذلك أن استمرار هذه الهلامية لن يقود في النهاية إلا إلى نفض اليد بالكامل من أي انفراج
قفز إلى ذهني هذا التفصيل لأن اسم هذه الشركة الألمانية الرائدة في هذا المجال ما زال يتردد إلى الآن، فقد وجّه رئيس الوزراء العراقي مؤخرا بـ«تفعيل مشاريع الكهرباء كافة، لا سيما الاتفاقية المبرمة مع شركة سيمانس» مما يدعو إلى التساؤل عما إذا كان تعهد هذه الشركة ببعض جوانب قطاع الكهرباء في البلاد ما زال هو نفسه الساري منذ ذلك التاريخ أم أن ما يجري حاليا هو اتفاق جديد؟ ثم كيف يتم الابقاء على نفس الشركة إذا كانت فشلت في مهمتها طوال السنوات الماضية، وإذا لم تكن هي المسؤولة فمن الذي عرقل عملها؟ ثم ما معنى «تفعيل مشاريع الكهرباء كافة» لأن هذا الكلام يقود إلى التساؤل حتما عن المسؤول الذي منع مثل هذا التفعيل من قبل؟ وبأي شكل؟ ولأي غرض؟ ولماذا لم يحاسب في حينه؟ ولماذا إلى حد الآن لا تقع الإشارة إليه بإصبع الاتهام بكل وضوح؟
صحيح أن الكاظمي قال إن «عدم معالجة أزمة الكهرباء في البلاد يعود إلى الفساد والهدر المالي في الفترات السابقة» التي شهدت «إنفاق مليارات الدولارات على هذا القطاع، كانت تكفي لبناء شبكات كهربائية حديثة».. لكن ذلك لا يكفي لأن الناس ملت من تكرار مثل هذا الحديث بلا نتيجة، خاصة مع بدء لجنة برلمانية عراقية التحقيق بالعقود التي أبرمتها وزارة الكهرباء طيلة الـ 14 عاما في وقت لم تحقق فيه لجان سبقتها أي شيء.
«من حق الناس أن تعرف أين ذهبت الأموال الطائلة التي صرفت على الكهرباء وما زالوا يعانون الظلام والقيظ والمرض»، كما قال النائب ظافر العاني، ذلك أن استمرار هذه الهلامية لن يقود في النهاية إلا إلى نفض اليد بالكامل من أي انفراج يمكن أن تأتي به أي جهة من بين الموجودين حاليا على الساحة، مهما كانت، وهذا استنتاج خطير يفتح الباب على كل المخاطر الممكنة.
المشكل أن الفاسدين في العراق، والحال مماثل تماما في لبنان، لم يفلحوا في تأمين مقومات الحياة الأساسية والمرافق العامة للناس لينصرفوا بعد ذلك إلى الفساد كا يحلو لهم، بل إن فسادهم تركز منذ البداية في قطاعات حيوية واضحة وضوح الشمس لأنها تمس المواطن في حياته اليومية بشكل موجع، وبذلك جمعوا مع الفساد الغباء الشديد!!
محمد كريشان
القدس العربي