في يوليو 2018 أطلق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الرصاصة الأولى في الحرب التجارية على الصين، وهي الحرب التي طالت أيضا حلفاء للولايات المتحدة من كندا والبرازيل في الغرب إلى كوريا الجنوبية واليابان في الشرق. الآن من المفيد إعادة تقييم الموقف، خصوصا أن الطرفين سيبدآن بعد أيام (في 15 أغسطس) مباحثات، لمناقشة ما تحقق حتى الآن في تنفيذ مستهدفات المرحلة الأولى من صفقة تجارية تم إقرارها في يناير الماضي، بعد مفاوضات مضنية.
ومن الضروري كذلك التذكير بأن الحرب التجارية تعكس انحرافا شديدا عن قواعد النظام التجاري الليبرالي المتعدد الأطراف، الذي يمثل أحد قواعد النظام الاقتصادي العالمي؛ وهو انحراف يتجه إلى تعزيز النزعة الحمائية، وتقليص نطاق التكامل في سلاسل الإمدادات، وترسيخ النزعة المحلية في مجالات التجديد التكنولوجي، بما يحمله كل ذلك من آثار سلبية على مستوى وفورات الإنتاج والرفاهية في العالم.
وخلال العام الحالي اختلط التأثير السلبي للحرب التجارية، مع الآثار السلبية لانتشار وباء كورونا، وهو ما تسبب في إخفاقات كثيرة في محاولات الخروج من الضائقة الاقتصادية التي تعاني منها دول العالم شرقا وغربا. وعلى الرغم من إنفاق تريليونات الدولارات، فإن الضائقة الاقتصادية، بما تحمله معها من انخفاض النمو، وتراجع التجارة، وارتفاع البطالة، ونقص الاستثمار، تجتاح العالم كله، ولم تسلم منها لا الولايات المتحدة ولا الصين، ولا غيرهما من الدول المتقدمة أو النامية.
رغم أن الحرب التجارية بدأت في يوليو عام 2018، بفرض رسوم انتقامية على صادرات الصين إلى الولايات المتحدة من الصلب والألومنيوم، فإنها تصاعدت واتسع نطاقها بعد ذلك لتشمل كل الصادرات الصينية تقريبا، وامتدت من مجرد السلع العينية إلى مجالات التكنولوجيا والاستثمار والخدمات ذات الطابع المعرفي، مثل خدمات استخدام برامج تشغيل منصات التواصل الاجتماعي، وقد تصاعدت الحرب التكنولوجية التي تستهدف شركات بعينها مثل شركة هواوي، لتشمل حظر كل أنشطتها في إنشاء محطات الجيل الخامس لشبكات الاتصالات، في الولايات المتحدة، وممارسة ضغوط شرسة على الحلفاء لحظر نشاطها، بموجب مبررات تتعلق بحماية الأمن القومي. وتعرّض الحلفاء الذين يرتبطون بتعاقدات مع هواوي مثل بريطانيا لتهديدات بفرض عقوبات عليهم. ولم يتوقف الأمر على هواوي وإنما تم حظر العشرات من الشركات، وكذلك تطبيقات التواصل الاجتماعي الصينية، مع استهداف شركة (تنسنت) كبرى شركات الاتصالات الصينية وشركة (بايت دانس) المالكة لتطبيق تيك توك لفقرات الفيديو القصيرة، الواسع الانتشار بين شريحة الشباب في العالم.
وطبقا للخطاب السياسي الأمريكي المرافق للحرب التجارية؛ فإن أهم أهداف واشنطن تتمثل في الضغط بأقصى درجة لفتح السوق الصينية أمام المنتجات الأمريكية، وتخفيض العجز في الميزان التجاري، ووقف سرقة أسرار حقوق الملكية الفكرية التي تزعم الولايات المتحدة أن الصين تسطو عليها، ثم تستخدمها في صناعة منتجات متقدمة تصدرها مقابل مبالغ طائلة، وحماية الأمن القومي الأمريكي، بزعم أن الشركات الصينية، خصوصا العاملة في حقول تكنولوجيا المعلومات، تقوم بتمرير البيانات التي تحصل عليها إلى الحزب الشيوعي الصيني، الذي صنفه وزير الخارجية الأمريكي مايكل بومبيو، بأنه تنظيم استبدادي معادٍ للديمقراطية، مع اتهام الصين بعدم احترام حقوق الإنسان وخنق الحريات الفردية.
أن الحرب التجارية تعكس انحرافا شديدا عن قواعد النظام التجاري الليبرالي المتعدد الأطراف
هذا النهج الأمريكي يهدد فعلا بخلق انقسام، يضع السوق والتكنولوجيا في الدول الغربية في مواجهة السوق والتكنولوجيا في الصين. وقد نحت بعض المحللين الغربيين مصطلح «ستارة السيليكون» لوصف تقسيم العالم تكنولوجيا إلى كتلتين، على غرار مصطلح «الستارة الحديدية» الذي كان يعبر عن حال انقسام النظام العالمي خلال الحرب الباردة الأولى. ويعني مصطلح «ستارة السيليكون» أن العالم قد يجد نفسه نتيجة للسياسات الأمريكية أمام نظامين منفصلين للإنترنت لا يلتقيان، وأمام حزمتين غير متوافقتين من أنظمة التشغيل (السوفت وير)، وأمام تطبيقات محظورة قانونا لدى طرف، ومقبولة لدى الطرف الآخر. هذا النهج يتناقض تماما مع فكرة تحول الاقتصاد وأنشطة الحياة المختلفة من الأنماط التقليدية القديمة، إلى نمط الاقتصاد الرقمي، الذي يميز الثورة الصناعية الرابعة. ولهذا يمكن القول بأن الحرب التكنولوجية والتجارية تعكس روحا رجعية، تتناقض مع مقتضيات انطلاق الاقتصاد العالمي إلى فضاء الذكاء الاصطناعي، والتقدم المعرفي، والاقتصاد الرقمي.
لتناول حقيقة الرد الصيني على الحرب التجارية الأمريكية، نشير أولا إلى النتائج التي حققتها شركة هواوي الصينية، كبرى شركات صناعة معدات وشبكات الاتصالات في العالم، لأن هواوي تقدم مثالا على المستوى الجزئي، يبين كيف يمكن للشركات الصينية بشكل عام أن تتجنب التأثير السلبي للحرب التجارية والتكنولوجية الأمريكية. لقد تغلبت هواوي على كل الظروف المعاكسة، من الحرب التجارية إلى وباء كورونا والإغلاق الاقتصادي لأسواق التصدير في النصف الأول من العام الحالي، واستطاعت أن تتقدم على سامسونج، لتصبح أكبر منتج لأجهزة الموبايل الذكية في العالم. كما حققت هواوي زيادة في إيراداتها الإجمالية بنسبة 13%، ورفعت قيمة أرباحها الصافية بنسبة 9%. واستطاعت تعويض الانخفاض الحاد في الطلب الخارجي بزيادة مبيعاتها داخل الصين بنسبة 8%. في المحصلة النهائية تمكنت هواوي من مواصلة التوسع وزيادة الأرباح، ولكن بنسبة تقل عن نصف ما حققته في الفترة المقابلة من العام الماضي.
أما على مستوى الاقتصاد الصيني ككل، فإن أرقام التجارة الخارجية خلال الأشهر السبعة الأولى من العام الحالي تقدم صورة تثبت أيضا أن الصين استطاعت تجاوز آثار كل من الحرب التجارية والتكنولوجية، وتداعيات وباء كورونا، ولكن بتكلفة تتمثل في زيادة الاعتماد على السوقين المحلي والإقليمي، وتقليل التجارة مع الولايات المتحدة. في الشهر الماضي زادت الصادرات بنسبة تجاوزت 10%، في حين أن الواردات سجلت زيادة هامشية بنسبة 1.6% فقط. وخلال الأشهر السبعة الأولى من العام الحالي زادت صادرات الصين لدول آسيان، وهي الشريك التجاري الأول لها، بنسبة 6.6%، وبقيت على حالها بدون تغيير تقريبا مع الاتحاد الأوروبي، بينما انخفضت للولايات المتحدة بنسبة 3.3%. ورغم الانخفاض فإن الميزان التجاري للصين مع الولايات المتحدة سجل فائضا بقيمة 153.6 مليار دولار، وزاد في يوليو إلى حوالي 33 مليار دولار مقابل 29 مليارا في الشهر السابق.
هذه الأرقام تبين أيضا أن الولايات المتحدة نجحت في تخفيض الفائض التجاري الذي حققته الصين بنسبة 11% في النصف الأول من العام الحالي. كما نجحت في تقليل العجز التجاري للعام الماضي إلى 422 مليار دولار مقابل ذروة قياسية بلغت 594 مليار دولار في عام 2015. لكن تقليل العجز التجاري للولايات المتحدة مع الصين ترافق مع انكماش التجارة، وليس مع ازدهار الصادرات الأمريكية. فقد انكمش حجم التجارة عام 2019 بنسبة 11%، ما أدى إلى تراجع مكانة الصين كشريك تجاري للولايات المتحدة إلى المرتبة الثالثة، بعد كل من كندا والمكسيك. كذلك ترافق انكماش التجارة مع زيادة وزن المواد الوسيطة والسلع الزراعية، والنفط الخام والغاز المسال، في قائمة الصادرات الأمريكية إلى الصين. وبينما نجحت الولايات المتحدة في تخفيض وارداتها من الصين إلى 30 مليار دولار شهريا، فإنها فشلت في زيادة صادراتها حتى إلى 10 مليارات دولار؛ فظلت في حدود 8 مليارات دولار، أي أقل من ثلث وارداتها من الصين. ولهذا السبب فإن تخفيض العجز التجاري للولايات المتحدة مع الصين، يفقد أي دلالة اقتصادية إيجابية، خصوصا إذا عرفنا أن نسبة العجز مع الصين إلى إجمالي التجارة الأمريكية مع العالم تزيد ولا تنخفض، بسبب انكماش التجارة بنسبة أكبر من انخفاض العجز.
وتعبر أرقام التجارة الصينية بشكل عام عن حال الاقتصاد وعلاقته بالعالم، رغم الحرب التجارية الأمريكية. خلال الشهر الماضي ارتفعت الصادرات بما يعادل خمسة أمثال الارتفاع في الواردات، بينما تراجعت الصادرات الأمريكية، وهو ما يؤكد قدرة الصين على تنويع أسواق التصدير، والتوسع في أسواق جديدة. وعلى صعيد النمو حققت الصين نموا في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3.2% خلال الربع الثاني من العام، مقابل انكماش بنسبة 33% للولايات المتحدة. وبينما يتوقع صندوق النقد الدولي أن تحقق الصين معدل نمو موجب بنهاية العام الحالي، فإنه يتوقع انكماش الاقتصاد الأمريكي بنسبة 8% تقريبا. وبينما تكلفت برامج الإنعاش الاقتصادي في الولايات المتحدة خلال النصف الأول من العام حوالي 6 تريليونات دولار، وزادت أخيرا بقيمة تريليون دولار، فإن الصين انفقت ما يقرب من نصف تريليون دولار فقط. وفي الوقت نفسه فإن معدل البطالة في الصين يعادل أقل من نصف مثيله في الولايات المتحدة. وبينما تقدم شركة هواوي مثالا لكيفية التغلب على الظروف السلبية، فإن شركات مثل بوينغ وجنرال إليكتريك وموتورولا وإكسون موبيل، تقدم أمثلة على الإخفاق. المحصلة النهائية للحرب التجارية والتكنولوجية تقول إن الولايات المتحدة تعزل نفسها عن أكبر سوق استهلاكية في العالم، يضم 18% من سكان العالم تقوده طبقة متوسطة قوامها حوالي 400 مليون شخص، أي أكبر من كل عدد سكان الولايات المتحدة ، كما إنها تعزل نفسها عن فرص الاستثمار المتاحة في أكبر مصنع في العالم، وتعزل نفسها تكنولوجيا، لأن محرك التجديد التكنولوجي هو التطبيقات الصناعية التي تتحول إلى منتجات نافعة تنتشر في أسواق العالم بلا قيود.
إبراهيم نوار
القدس العربي