لبنان ما بعد انفجار بيروت: تحديات النهوض وضرورات التوافق

لبنان ما بعد انفجار بيروت: تحديات النهوض وضرورات التوافق

“أنا هنا اليوم لأقترح عليهم (السياسيين) ميثاقًا سياسيًّا جديدًا، وسأعود في الأول من سبتمبر/أيلول”(1)، هذا ما قاله الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في زيارته لبيروت، في 6 أغسطس/آب الجاري (2020)، بعد يومين من انفجار بيروت (4 أغسطس/آب 2020)، الذي يُعتقد أنه حدث بفعل 2750 طنًّا من نترات الأمونيوم، كانت مخزَّنة بشكل غير آمن في أحد مستودعات المرفأ، وتسبب في مقتل أكثر من 170 شخصًا وأكثر من 5000 آلاف جريح وعشرات المفقودين، وخلَّف أضرارًا كبيرة في أجزاء واسعة من العاصمة، بيروت، بفعل العصف الناتج عن الانفجار. زيارة ماكرون والتصريحات التي جاءت في سياقها أعطت مؤشرات قوية على وجود قناعة محلية بأن أزمة النظام اللبناني قد بلغت حدًّا لم يعد بوسع الأطراف المحلية التعامل معه، وأن الدول الإقليمية والمجتمع الدولي معنية بمنع الكيان اللبناني من الانهيار، وكلُّ له أسبابه، وسارعت عدة دول لتقدم مساعدات مالية وعينية للشعب اللبناني.

تراجع هذه الورقة السياق السياسي الذي جاء وفقه انفجار مرفأ بيروت، وتشرح الأزمة التي يواجهها لبنان، وأهم ملامح المستقبل الذي ينتظره.

السياق السياسي
كانت تنقسم بيروت في الحرب الأهلية (1975-1990) إلى قسمين: شرقية يغلب عليها سيطرة المسيحيين وتتجه بعلاقاتها غربًا، وغربية يسيطر عليها المسلمون وقوى قومية تنحاز للمقاومة الفلسطينية وتتجه نحو العرب، حتى أعاد اتفاق الطائف (1989) إلى المدينة لُحمتها. لكن بيروت عشية انفجار 4 أغسطس/آب 2020، تبدو أكثر تشظيًا. فهي مقسمة إلى أحياء متخاصمة بين قوى مؤيدة لقوى 14 آذار وأخرى مؤيدة لقوى 8 آذار، أي منذ اغتيال رفيق الحريري وخروج القوات السورية من لبنان، عام 2005، وكل منها يضم مسيحيين ومسلمين، مع انقسام مذهبي حاد بين المسلمين تبعًا للانقسام الإقليمي بين السعودية وإيران؛ حيث أكثر السُّنَّة في كفة 14 آذار وأكثر الشيعة في الأخرى. لم تعد قوى 8 آذار توصف بأنها مؤيدة للنظام السوري فقط، بل هي أيضًا مؤيدة لسلاح حزب الله في لبنان ومتفهمة لدوره في سوريا إذا لم يكن في الإقليم أحيانًا، وداعمة للعهد أي حكم الرئيس، ميشال عون، وهي كذلك مؤيدة إقليميًّا، ولو بتفاوت، لمحور إيران الممتد من بيروت إلى طهران مرورًا بسوريا والعراق، ولها هوى نحو الشرق، مثل روسيا والصين. في حين لم تعد توصف قوى 14 آذار أنها مناهضة لسوريا ولسلاح حزب الله فقط، بل هي مناهضة لتحالفاته أيضًا ولدوره في الإقليم، وتريده بالخصوص أن يسحب قواته من سوريا وهي أقرب للمواجهة مع إيران، وتريد للبنان عمليًّا علاقات مميزة مع العرب والتصالح مع الغرب.

وكانت واشنطن في العامين الأخيرين قد زادت من وتيرة عقوباتها على حزب الله، وفق قانون مكافحة تمويل حزب الله الصادر عام 2015(2)، وذلك بالتزامن مع سياسة “الضغوط القصوى” التي اعتمدتها ضد إيران، فضلًا عن “قانون قيصر” الأميركي -دخل حيز التنفيذ في يونيو/حزيران 2020- الذي يستهدف بالعقوبات النظام السوري وكل من يتعاون معه أو يدعمه. هذا، فضلًا عن أن الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية وأخرى عربية، لاسيما السعودية والإمارات، كانت ترى أن حزب الله يهيمن على السلطة في لبنان وعلى حكومة الرئيس، حسان دياب، التي تشكَّلت في أعقاب استقالة حكومة سعد الحريري، وتقاطعها إذا لم تكن تحاصرها حتى استقالتها في 10 أغسطس/آب 2020 إثر انفجار بيروت.

أزال الانفجار مرفأ بيروت -لم يتبقَّ منه إلا جزء صغير- وهو أهم مرفق اقتصادي يربط لبنان مع العالم لاستيراد معظم حاجاته لاسيما أنه بلد استهلاكي، وذلك في الوقت الذي تعاني الدولة من أزمة اقتصادية خانقة، مع تراجع كبير في القدرة الشرائية للبنانيين بسبب تدهور قيمة العملة اللبنانية وشُحِّ الدولار. وهذا فضلًا عن تسجيل زيادة ملحوظة في نسب تفشي وباء كورونا في لبنان أكثر من ذي قبل، في ظل هشاشة المنظومة الصحية واحتمال انهيارها. كانت هذه الصعوبات تثير شكوكًا كبيرة حول قدرة لبنان على الاستمرار قبل الانفجار، فكيف الآن ولبنان يحتاج بعده إلى إعادة إصلاح أضرار تقدر بمليارات الدولارات، في حين يعجز عن تلبية حاجاته الأساسية لاستمرار الحياة؟!

هذا السياق يوضح أهمية التداعي الدولي لإيقاف التدهور اللبناني، خاصة أن الانفجار جاء ملتبسًا بشكوك لبنانية حول هوية الفاعل، وأعقب زمنيا على الأقل، تدهورًا أمنيًا، ولو محدودًا، على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية وتحديدًا في منطقة مزارع شبعا اللبنانية (في 27 يوليو/تموز 2020)، بعد مقتل أحد عناصر حزب الله في سوريا في غارة إسرائيلية (21 يوليو/تموز 2020). وقد توعد الحزب حينها بالرد، لتزداد التوقعات باحتمال انزلاق الطرفين نحو الحرب.

كما جاء الانفجار قُبيْل موعد جلسة المحكمة الخاصة بلبنان النطق بحكمها في قضية اغتيال رئيس الوزراء الأسبق، رفيق الحريري، والذي كان مقرَّرًا الجمعة 7 أغسطس/آب 2020، وأرجأته بسبب الحادث إلى 18 أغسطس/آب 2020.

بدا الانفجار كأنه تتويج لمسار سياسي وصحي واقتصادي كارثي ينزلق إليه لبنان في تهديد واضح لهذا الكيان الذي أنشأته فرنسا وتربطها به روابط تاريخية، فكان من المنطقي أن يسارع الرئيس الفرنسي، ماكرون، إلى زيارة بيروت، دون أن يغفل أن معظم الأضرار قد أصابت أحياء مسيحية، تحتل القلب من العلاقة الفرنسية-اللبنانية تاريخيًّا. يضاف إلى ذلك خشية ماكرون من هجرة مسيحيي لبنان، بعد أن هاجر كثير من الأقليات ومنها المسيحية من عموم المشرق، بسبب التوترات التي شهدتها المنطقة خلال العقد الأخير. فضلًا عن أن فرنسا هي طرف في النزاع المستفحل في شرق المتوسط على الغاز والموانئ البحرية، بين تركيا واليونان ومصر، ومن ورائها الإمارات، ومعنية بإعادة ملء الفراغ اللبناني في هذا السياق الإقليمي.

المعضلات
تتعدد السيناريوهات حول مسار الأزمة اللبنانية أو سبل حلها، وتختلف بحسب الفرص المتاحة والمدى الزمني المتوافر. فبعض التحديات تتطلب معالجة عاجلة وأخرى تحتاج لمدى زمني أبعد ومساحة توافق أوسع حتى تشمل عموم الإقليم وتنخرط فيها قوى دولية كبرى. لكنها جميعًا تلتقي عند مسارات ثلاث مترابطة: الإصلاح الاقتصادي، وتحييد لبنان عن أزمات الإقليم، ومن ثم إعادة تجديد التفاهم السياسي والوطني، وهي تتوقف بالمقابل على معالجة ثلاث معضلات أساسية:

الأولى: المعضلة الاقتصادية؛ إذ تبدو وكأن مفاعيلها أسرع من تدهور الوضع السياسي وحتى الأمني وتنعكس عليهما بقوة، وتتطلب حلولًا عاجلة، وهو ما يفسِّر إسراع فرنسا لعقد مؤتمر للمانحين (9 أغسطس/آب 2020) ومسارعة دول لمساعدة لبنان ومنها أميركا، ولكن ما أسفر عنه المؤتمر من مساعدات تُقدَّر بحوالي 252 مليون يورو(3)، قد لا تكفي حتى لإصلاح أدنى الأضرار التي تعرضت لها المدينة، وبهذا تعطي فرنسا إشارة على استعدادها قيادة المجتمع الدولي لمنع لبنان من الانهيار، لكن مساعدته على النهوض تتطلب من لبنان إجراء الإصلاحات المطلوبة منه، والتي مدخلها الاتفاق مع صندوق النقد الدولي على مجموعة من الإجراءات المالية، وإرساء نظام اقتصادي أكثر شفافية ومختلف جذريًّا عن السابق، فضلًا عن مطالب سياسية أخرى.

الثانية: معضلة حزب الله، ليس بوصفه مكونًا سياسيًّا لبنانيًّا، بل بوصفه الفاعل العسكري الثاني في لبنان -بغضِّ النظر عن جدال الشرعية حول سلاحه- بعد الجيش اللبناني، وبوصفه فاعلًا إقليميًّا ينتمي لمحور إقليمي رغم أنه حزب وليس دولة. فبالاستقراء، فإن جوهر مبادرة ماكرون نحو لبنان يقوم على “تحييد لبنان عن المحاور الإقليمية”، ويتطلب تأكيد هيمنة الدولة على المرافئ والحدود، لاسيما أن هناك اتهامًا أميركيًّا، ومن دول أخرى، بأن لحزب الله نفوذًا قويًّا فيها أو هيمنة على بعضها. والانكفاء إلى الداخل اللبناني بحسب هذا التفسير، يعني أيضًا الانسحاب من سوريا، وكذلك ترسيم الحدود اللبنانية مع إسرائيل وخاصة البحرية منها. تبدو هذه المطالب كشروط سياسية ملحَّة تتعلق بالإقليم وتحتاجها عدة دول، عربية وغربية فضلًا عن واشنطن؛ ما يعني في المحصلة أنها شروط لتخفيف الضغوط عن لبنان. وهناك مطالب أخرى وكأنها مرجئة لمسار أطول لأن السبيل إليها ليس متاحًا إلا عبر حوار بين مختلف الأطراف اللبنانية، وسيحددها النظام الجديد الذي سيتفاهم اللبنانيون عليه، من أهمها: نزع سلاح حزب الله من خلال استراتيجية وطنية، ودور لبنان في المنطقة وطبيعة علاقته مع الخارج والمحاور الإقليمية والدولية.

الثالثة: معضلة النظام والانقسام: إن تصريح الرئيس الفرنسي، ماكرون، حول “الميثاق الجديد”، بغضِّ النظر عن التأويلات والتحليلات لمراده منه: هل هو إرساء تفاهم جديد بين الأطراف اللبنانية بما يعزز الطائف بتفعيل بنود فيه أو تعديل أخرى، أم عقد مؤتمر تأسيسي جديد؟، فإنه يعكس قناعة إقليمية ودولية بأن لبنان يعاني من أزمة نظام وليس فقط من أزمة سياسية بين أطراف مختلفة. وهي قناعة وصل إليها اللبنانيون قبل ذلك وعبَّر عنها الحراك اللبناني فيما سُمي “انتفاضة تشرين” (17 أكتوبر/تشرين الأول 2019)، وتركزت مطالبه على التخلص من عموم “طبقة الأحزاب الحاكمة” لأنها -كما يرى- هي التي استفادت من نظام الطائف الطائفي لحماية فسادها. ولكن مع استفحال الأزمة الاقتصادية وشدة حدة تداعيات الاضطرابات في الإقليم على لبنان، وتشظي الانقسامات اللبنانية البينية، بين “طبقة الأحزاب الحاكمة”، بين بعضها البعض من جهة، وبينها وبين الحراك من جهة أخرى، وتصاعد حدة الاستقطاب الطائفي بين المسيحيين والمسلمين، والمذهبي بين السُّنَّة والشيعة، فإن الجهد الدولي والمحلي منصبٌّ في المدى القريب على التركيز على إيجاد تسويات تخفف من حدة الانقسام، وإيجاد تفاهمات سياسية جديدة بين كل الأطراف اللبنانية، قد تبلغ ذروتها بتطبيق اتفاق الطائف بصيغة جديدة. أما إعادة البحث فيه لاستبداله، فالوقت لا يسمح وبالتالي هذا سيضيف أزمة أخرى بدلًا من حل الأزمة الراهنة.

مؤشرات على المستقبل
تؤثر عوامل كثيرة على مسار أية تسوية في لبنان، ورغم إلحاح العامل الاقتصادي وتقديمه على سواه في المعالجة، إلا أن ما يقرر نجاح المبادرة الفرنسية المطروحة راهنًا إذا جاز وصفها بالمبادرة، أو أية مبادرة جديدة في المستقبل تحذو حذوها، هو العامل السياسي، وليس على المستوى المحلي فقط بل الإقليمي أيضًا.

فاحتمالات التصعيد العسكري التي جاء الانفجار وفقها، وربطها بالعامل الإسرائيلي أو بدور حزب الله الإقليمي -حتى ولو كان الحادث نتيجة فساد وإهمال- لا تنفصل عن سلسلة من الحوادث الغامضة التي أصابت طهران، وكان من بينها وأبرزها انفجار مفاعل “نطنز” النووي (2 يوليو/تموز 2020)، وهي، على الأقل بحسب بعض الآراء المتداولة نقلًا عن مصادر دولية، جزء من حرب منسقة(4).

وعلى صعيد الحدث اللبناني نفسه، فإن فريقًا لبنانيًّا يتهم حزب الله قطعًا أو كاحتمال، أنه المسؤول عن تخزين الأمونيوم في مرفأ بيروت والذي وصل إلى لبنان عام 2013 في ظروف فيها بعض الغموض وربما لغايات ترتبط بدوره الخارجي، ويدعو لتحقيق دولي مشابه بطريقة أو أخرى لذاك الذي اعتُمد في مسألة اغتيال رفيق الحريري أو ما يقرب منه، لأنه لا يثق بالتحقيق اللبناني. وبالمقابل، ينفي الحزب تخزين أي مواد في المرفأ، ويعتقد أن هناك مؤامرة دولية تُنسج ضده شبيهة بتلك التي جرت عام 2005 وتسببت في إخراج القوات السورية في لبنان، ويرى أنه مستهدف في لبنان في سياق استهداف إيران وعموم محورها.

لقد جمع هذا الحدث كل مستويات الأزمة اللبنانية السياسية والاقتصادية وأبعادها المحلية والإقليمية والدولية، لذا، فإن فضَّ الاشتباك السياسي وإعادة تنظيمه يشكِّلان المدخل الرئيس لأي حل مقبل، ويبدو أن سيناريوهات تشكيل الحكومة ستكون أحد المؤشرات على مستقبل الأحداث في لبنان. والمطروح بخصوص الحكومة ثلاثة سيناريوهات:

الأول: تشكيل حكومة وحدة وطنية أو وفاق وطني، وهي بمصطلحها اللبناني تعني حكومة تمثل قوى 14 و8 آذار، وهي ممكنة في حال وجود توافق عليها من الدول الإقليمية والدول الكبرى، وهذا لن يكون إلا بتوافر أسباب وشروط عدة، من أبرزها أن يكون هناك توافق بين إيران والدول المعنية على تحييد لبنان، والذي يعني من الناحية العملية أن ينكفئ حزب الله إلى الداخل اللبناني ويتخلى عن دوره الإقليمي، وأن يقوم لبنان بترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل، البرية والبحرية، وتعزيز تفويض صلاحيات اليونيفيل في جنوب لبنان بما يعني تقييد حركة حزب الله بشكل أكبر. وهذا يقود في المحصلة إلى إعادة ترسيم دور سلاح حزب الله الذي قد يفقد مبرر دوره ووجوده.

الثاني: تشكيل حكومة محايدة، والمقصود أن يسميها الفرقاء الأساسيون، لأنه من الناحية الواقعية يتعذر تأليف حكومة مستقلة عن “أحزاب الطبقة الحاكمة”، فهؤلاء يتقاسمون عموم المقاعد البرلمانية التي يجب أن تعطي الثقة للحكومة. والجدير بالذكر أن أبرز قوى الحراك اللبناني كانت تطالب بحكومة مستقلة وبصلاحيات استثنائية، تشرف على انتخابات برلمانية بعد أن تسن قانونًا انتخابيًّا جديدًا، ولا يبدو أن هذا المسار وارد راهنًا بعد انفجار بيروت؛ حيث تغيرت الأولويات جذريًّا.

الثالث: استمرار الفراغ لمدة طويلة، بما يعني استمرار الاشتباك الإقليمي والمحلي، بانتظار موعد الانتخابات الأميركية على الأقل أو حتى تتضح سياسة الإدارة الجديدة في العام المقبل (2021)، سواء استمر عهد الرئيس الجمهوري، دونالد ترامب، أو جاءت إدارة ديمقراطية جديدة.

وبالنظر إلى استمرار الاشتباك الإقليمي الأميركي-الإيراني، وما حققه محور حزب الله من تقدم محليًّا، يصبح سيناريو حكومة وفاق وطني مستبعدًا. فليس من المتوقع أن يوافق حزب الله على إنهاء دوره الإقليمي في الوقت الذي تحتاج إيران حلفاءها، ولأن هذا يعني تراجع دور إيران في الإقليم وإعادة ترسيمه. وهذا السيناريو على مستوى آخر يفترض أن سعد الحريري سيكون رئيس الحكومة أو أن تقدم السعودية شخصية أخرى بوزنه، وهو أمر صعب راهنًا، لأن الرياض لم تنخرط بقوة في المبادرة الفرنسية، ولم ينجل موقفها بعد من سعد الحريري وإعادة تجديد الثقة به منذ أن أُجبر على إعلان استقالة حكومته من الرياض في 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، ولا تزال –أي الرياض- جزءًا من سياسة الضغط الأميركية على حزب الله في لبنان وليس عقد تسوية معه. كما أنه من المستبعد أن يُقْدِم الحريري على ترؤس حكومة لا تملك عوامل النجاح الاقتصادي على الأقل، إلا إذا كان المطلوب أن يلعب دورًا ثانويًّا ويهيئ المسرح لزعامة سُنِّية جديدة وهو ما لن يفعله طوعًا. فهذا السيناريو تبدو أهم ملامحه مؤجلة لمرحلة متقدمة، لأنه يتعرض لقضايا لها علاقة بالتوازنات الطائفية في لبنان، ويتطلب توافقًا إقليميًّا واسعًا بين القوى المعنية باتفاق الطائف، ولا يبدو أنه أوانه.

أما السيناريو الأخير، أي الفراغ الطويل، لا يحتمله لبنان البتَّة، وهو جزء من السبب الذي دفع بالمجتمع الدولي لتدارك لبنان، وهناك إجماع على تفاديه حتى من إيران وحزب الله، لأنه قد ينقل الأزمة اللبنانية وحتى الإقليم إلى مستوى آخر من الفوضى.

ويبقى الخيار الأرجح تشكيل حكومة تحت اسم “الحياد”، وقد تتراوح بين تمثيل قوي ووصاية من القوى المحلية الأساسية عليها أو بحضور لها أقل تمثيلًا، على أن تحظى بقبول غربي، وهذا السيناريو فعليًّا هو المركز الأساسي للنشاط الإقليمي. فإذا نجح الدور الفرنسي في التأسيس لمسار من التفاهم السياسي ولو مع اضطرابات وتحديات، ستكون هذه الحكومة جزءًا منه ومساهِمة فيه وممهِّدة لتوافق سياسي واسع في إطار الطائف أو اتفاق جديد. وإذا كان الأمر يتجه نحو التصعيد، خاصة في الإقليم، فتكون وظيفة هذه الحكومة ضبط الصراع المحلي، وتكون غايتها استدراك وضع لبنان من التدهور الاقتصادي والحؤول دون انزلاقه لمواجهات أمنية وحروب صغيرة، وبدعم فرنسي.

خاتمة
لا يبدو أن سبيل الوصول إلى أية تسوية في لبنان ستكون سهلة، لكن انفجار بيروت حرق كل الخطط التي تراهن على قدرة البلد على التحمل ولم يعد أمام دول الإقليم والمجتمع الدولي وكذلك اللبنانيين، إلا سبيل تحقيق أية تسوية لأنه لن يكون بديلها إلا الانهيار. فإذا لم تنجح الجهود الفرنسية في تحييد لبنان عن الصراع الإيراني-الأميركي في المنطقة، فيمكن أن يجد لبنان نفسه أيضًا قد أصبح جزءًا من صراع جديد حيث تتنافس دول إقليمية على شرق المتوسط، تمتد حينها من ليبيا واليونان إلى لبنان.

وهناك إجماع على أن لبنان على المدى المتوسط وليس البعيد، بحاجة إلى عقد سياسي جديد؛ الأمر الذي يسرِّع من الاختلافات بين القوى اللبنانية حول قضايا جوهرية ويعمِّقها، وقد تنتهي بتطبيق اتفاق الطائف بصيغة جديدة أو إدخال تعديلات عليه، وربما باستبداله بشكل كامل. وهذا يعني بالضرورة أن لبنان مقبل ما بعد انفجار بيروت على تغييرات في طبيعة التحالفات المستقرة منذ عام 2005 نسبيًّا. ومن أمثلة ذلك الواضحة التباعد النسبي بين القوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع وتيار المستقبل، وبالمقابل، تراجع الانسجام بين التيار الوطني الحر وحزب الله خاصة وأن جمهوريْهما أصبحا على طرفي نقيض. قد تستدرك القوى المحلية بعض تحالفاتها، لكن تبقى خلاصة الأمر: كما أسهم الانفجار الذي أودى بالرئيس رفيق الحريري، عام 2005، في ولادة محوري قوى 8 آذار وبمقابلها قوى 14 آذار، فإن لبنان مقبل على انقسام جديد بعد انفجار بيروت، ستشكله الضغوط الخارجية والمصالح المحلية للطوائف والقوى اللبنانية.

مركز الجزيرة