الباحثة شذى خليل*
يشهد الاقتصاد العالمي خلال الفترة الحالية، ضغوطا كثيرة على صعيد الاستمرار في تحقيق النمو والحفاظ على الاستقرار المالي، بسبب عدم الاستقرار لأسعار الطاقة، والوباء العالمي، تزامنت مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية في كل ارجاء العالم، مما ينذر بأزمة حادة حقيقية وشيكة تكاد تكون الوحيدة من نوعها واخطرها هي المجاعة، بالأخص الدول التي أصلا تعاني من أزمات متراكمة اجتماعية وسياسية واقتصادية منهارة.
وبالرغم من ان معظم الاقتصاديات أخذت طريقها للتغلب على الازمات، إلا ان آثارها يمكن أن تكون اكبر فتكا من السبب الرئيس للأزمة، فالأزمة الجديدة نتيجة تزايد الضغوط التضخمية حول العالم، فقد اخذ سعر النفط الى الارتفاع بشكل لا يتناسب مع طبيعة المرحلة الحالية التي تعصف بالاقتصاد العالمي، كذلك أسعار الغذاء العالمية ارتفعت الى مستويات ما قبل الازمة المالية العالمية.
ولم يقتصر هذا الارتفاع على الدول النامية فقط بل طال حتى الدول المتقدمة صناعيا صاحبة البنوك المركزية المتطورة، هذا التضخم يستهدف السياسة النقدية، علما ان التضخم ليس ظاهرة محلية او إقليمية بل ظاهرة عالمية. هذا يعني انتهاء عصر الغذاء الرخيص في ضوء الزيادات المضطردة في تكلفة انتاج السلع الغذائية .
في فترة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي كانت أسعار المواد الغذائية رخيصة او حتى مقبولة نوعا ما ، لكن 2006 ازدادت أسعار المواد الغذائية في ظل الازمات الاقتصادية التي كان لها دور مباشر في الضغوط التضخمية العالمية.
وخلال ازمة كورونا والتي تزامنت مع أسعار النفط جاءت الانعكاسات على أسعار الأغذية ، حيث أعلنت قبل يومين منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو) أن أسعار الأغذية العالمية استمرت في الارتفاع للشهر الثالث على التوالي خلال أغسطس/آب الماضي، وسط ارتفاع الأسعار الدولية للسكر والزيوت النباتية والحبوب الخشنة.
وهذا الارتفاع للأسعار العالمية للأغذية كان سببه زيادة الطلب وضعف الدولار الأميركي، وان متوسط مؤشر منظمة الأغذية والزراعة لأسعار الأغذية -الذي يتعقب الأسعار الدولية لمعظم السلع الغذائية الأساسية المتداولة في التجارة- 96.1 نقطة في أغسطس/آب، أي بارتفاع 2% على أساس شهري، ويعد هذا أعلى مستوى لمؤشر الأسعار منذ فبراير/شباط 2020.
ارتفع مؤشر أسعار الحبوب بنسبة 1.9% عما كان عليه خلال يوليو/تموز وبنسبة 7% على أساس سنوي، ويرجع هذا الارتفاع بشكل رئيس إلى ارتفاع الطلب على الواردات في الصين.
بدورها، ارتفعت أسعار الذرة بنسبة 2.2% في ظل مخاوف من أن تؤثر الأضرار التي لحقت مؤخرا بالمحاصيل في ولاية آيوا الأميركية على الإمدادات.
أما مؤشر أسعار السكر فسجل ارتفاعا بنسبة 6.7% على أساس شهري، مما يشير إلى تراجع توقعات الإنتاج بسبب الظروف المناخية غير المواتية في الاتحاد الأوروبي وتايلند (ثاني مصدّر للسكر في العالم).
وصعد مؤشر أسعار الزيوت النباتية بنسبة 5.9% تحت تأثير ارتفاع أسعار زيت النخيل بشكل خاص، إضافة إلى أسعار زيوت الصويا ودوار الشمس وبذور اللفت.
وتعكس التغيرات بشكل رئيس توقع حدوث تباطؤ في الإنتاج في البلدان الرئيسة المنتجة لزيت النخيل في ظل الطلب العالمي المرتفع على الواردات.
في المقابل، بقي مؤشر منظمة الأغذية والزراعة لأسعار منتجات الألبان على حاله نظريا، قياسا بمستواه خلال يوليو/تموز.
الوباء العالمي أثر وبشكل مباشر على أسعار الغذاء العالمية، لتسجل تراجعا خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام الحالي، بفعل هبوط الطلب وتوقف الإمدادات العالمية، إلا أنها شهد تعافيا مع استئناف الأنشطة في يونيو/حزيران الماضي.
ازمة القمح والتغيير المناخي
يعد القمح مصدرا رئيسا للغذاء بالنسبة لجميع سكان الأرض، ويمثل خمس السعرات الحرارية المستهلكة على الصعيد العالمي.
ونتيجة للتغير المناخي، يعتقد العلماء أن أغلب الدول التي يزرع فيها محصول القمح ستتأثر بشكل متزامن بنقص المياه بحلول نهاية القرن الحالي، وستكون الولايات المتحدة ضمن الدول الأكثر تضررا، وسينعكس على الأسعار.
وفي حال لم يتم التوصل إلى حلول لمجابهة تغير المناخ بحلول عام 2100، فإن 60% من المناطق التي يزرع فيها القمح ستتضرر جراء ندرة المياه، وذلك وفقا لما كشفه فريق من العلماء الدوليين.
العلماء والمختصون أكدوا أن اتفاق باريس للمناخ -الذي نص على ضرورة الحفاظ على معدل درجات الحرارة العالمية دون 1.5 درجة مئوية- يمكن أن “يقلل إلى حد كبير الآثار السلبية” للمشاكل المناخية مثل الجفاف.
سيؤثر الجفاف الشديد على البلدان المصدرة الرئيسة التي تعتبر أغلبها من البلدان المتقدمة، مما يشير إلى التحديات الكبيرة لإنتاج القمح واحتمال ارتفاع أسعار الغذاء في المستقبل، وهذه الصعوبات ستزيد معاناة الدول المستوردة والبلدان النامية، ومن المتوقع ان تتسبب بموت وتشريد الآلاف من الأشخاص، إلى جانب “دمار” العديد من البلدان جراء ارتفاع الأسعار خلال العقود الماضية.
يحتل القمح المرتبة الأولى ضمن الزراعات التي تعتمد على الأمطار بشكل أساسي بكميات تعادل ما تحتاجه زراعة الذرة والأرز معا.
تتوقع منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو) ارتفاع الطلب على الحبوب بنسبة 43%، بما في ذلك الذرة والأرز والسورغم والدخن والقمح بين عامي 2006 و2050، وأن ما يدعو إلى القلق هو أن البحوث الحالية توقعت انخفاض الإنتاج العالمي للقمح بنسبة تتراوح بين 4 و6.5% مقابل كل درجة مئوية من ارتفاع درجات الحرارة.
أكدت منظمة الأغذية والزراعة (فاو) أن الصراعات والأزمات الطويلة الأمد في بعض دول منطقة الشرق الأدنى وشمال أفريقيا، جعلتها المنطقة الوحيدة في العالم التي تسجل ارتفاعا في معدل انتشار نقص التغذية على مدى ربع قرن.
إن 15 من بين 19 دولة في المنطقة حققت الهدف الإنمائي للألفية الخاص بخفض الجوع إلى النصف مع حلول عام 2015، لكن “الأزمات الطويلة الأمد في بعض البلدان الأخرى أدت إلى ارتفاع معدلات نقص التغذية” في المنطقة.
مثل الصراعات والأزمات الطويلة الأمد في العراق والسودان وسوريا واليمن وفي الضفة الغربية وقطاع غزة، جعلت من منطقة الشرق الأدنى وشمال أفريقيا المنطقة الوحيدة في العالم التي سجلت ارتفاعا في معدل انتشار نقص التغذية منذ ربع قرن، وان عدد الأشخاص الذين يعانون من نقص التغذية المزمن في منطقة الشرق الأدنى وشمال أفريقيا تضاعف منذ عام 1990 ليبلغ حوالي 33 مليون نسمة في يومنا هذا”.
أصبح 13.6 مليون نسمة من سكان سوريا بحاجة ماسة إلى المعونة الغذائية، منهم 9.8 ملايين نسمة شردوا في الداخل و3.8 ملايين في عداد اللاجئين في الخارج.
في اليمن يعاني ربع السكان من نقص التغذية، بينما ارتفع معدل انتشار نقص التغذية في العراق من 8% أوائل تسعينيات القرن الماضي إلى 23% حاليا.
فهل من خطة عالميا لتفادي الكارثة الحقيقية والعمل بجد على اتفاق باريس للمناخ وعمل اللازم ؟ وعلى الحكومات تعميم التغذية في النُهج التي تتّبعها في مجال الزراعة؛ والسعي إلى تقليص العوامل التي تزيد تكاليف إنتاج الأغذية وتخزينها ونقلها وتوزيعها وتسويقها؛ ودعم صغار المنتجين المحليين لزراعة كميّات أكبر من الأغذية وبيعها، والأهم التكامل الاقتصادي على مستوى الدول العربية والعالمية وتعزيز نظم الحماية الاجتماعية واستراتيجيات الاستثمار على المستوى الوطني والعالمي.
وحدة الدراسات الاقتصادية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية