أوروبا بين فكي العجز والانكماش

أوروبا بين فكي العجز والانكماش

تكالبت الظروف على دول الاتحاد الأوروبي، فبينما كانت الآمال معلقة على عدم مواجهة موجة ثانية من وباء كوفيد – 19، أو أن تكون موجة خفيفة على الأقل، مثل تلك التي واجهتها الصين، إلا أن الوضع أصبح معقدا منذ عودة الانتشار وبقوة. وبحسب توقعات المفوضية الأوروبية، فإن الخروج السريع من الأزمة بات بعيد المنال، خاصة مع الإغلاقات التي ستشهدها المنطقة الفترة المقبلة.

فالإغلاق سيد الموقف، ومعه احتمالات يأس لكثير من الناس والمؤسسات التي تواجه تراجعا حادا في التدفقات النقدية تمنعها من مقابلة تكلفة رأس المال العامل، ما يهدد كثيرا من الأنشطة المترابطة وسلاسل الإمداد بين الاتحاد الأوروبي، وهو المرتكز الأساس الذي عمل عليه الاتحاد عقودا، ودعمه بكثير من الاتفاقيات والقوانين، لكنه اليوم يواجه تحديا صعبا للغاية، وقد يبدو الاتحاد واليورو معوقا كبيرا أمام المرونة التي كان يجب أن تتحلى بها الدول في مثل هذه الظروف.

فالانكماش ينتقل بين الدول كما ينتقل الوباء، وتؤكد المفوضية الأوروبية، أن الانكماش سيحل على اقتصادات جميع دول منطقة اليورو الـ19، وإن كانت آثاره ستكون أشد على إسبانيا “- 12.4 في المائة”، وإيطاليا “- 9.9 في المائة”، وفرنسا “- 9.4 في المائة”. فالعلاقات الاقتصادية بين دول الاتحاد وسلاسل الإمداد بين الدول هي التي مكنتها من تجاوز مشكلات الانفصال عن الاتحاد السوفياتي في بدايات التسعينيات من القرن الماضي، وعمل الاتحاد بقوة على تعزيز الصناعة والاستفادة من الكثافة العمالية ذات المهارة، ونجح في توطين الصناعات في الدول الناشئة حينها، وبقيت ألمانيا القوة الاقتصادية الأولى في المنطقة، لكنها اليوم، وعلى خلاف تلك الأيام، تعاني هي الأخرى الانكماش الذي من المتوقع أن يصل إلى 5.6 في المائة، مع نهاية عام 2020.

فوفقا لتقرير نشرته “الاقتصادية” أخيرا، فإن مبيعات التجزئة تراجعت في منطقة اليورو بسبب انخفاض المشتريات في كل الفئات في الدول الـ19 التي تستخدم اليورو، وبأكثر من 2 في المائة، على أساس شهري في أيلول (سبتمبر)، وهذا التراجع يتركز في انخفاض مبيعات الملابس والمنسوجات 7.6 في المائة، في حين شهدت مبيعات السلع الإلكترونية والأثاث والبضائع، التي تطلب بالبريد أو عبر الإنترنت، زيادة استطاعت من خلالها تخفيف حدة التراجع على الأرقام الإجمالية. فالاعتمادية الكبيرة بين دول الاتحاد، التي منحتها التفوق العالمي في فترات ماضية، هي التي تكبلها اليوم، والخروج عن هذه القاعدة يتطلب خروجا عن الاتحاد، ولا تزال تجربة بريطانيا تعصف بالتجارة والوظائف والعمالة، ويبدو أنه لا أحد على استعداد لتكرار التجربة، التي لم ينته صداعها المؤلم بعد.

لكن المشكلة في أوروبا تتجاوز سلاسل الإمداد وحركة العمالة، فما حملته الموجة الثانية من الوباء من قرارات العودة إلى الإغلاق الصادمة للمجتمعات هناك، فإن الحكومات أصبحت مضطرة لتمديد كثير من التسهيلات والدعم، فيما يقابل هذا الدعم والإنفاق انخفاضا واضحا في الإيرادات الحكومية المرتكزة على الضرائب، وهذا ما انعكس على العجز في ميزانياتها العامة مع توقع اتساعه ليتخطى حتى 10 في المائة، في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وبلجيكا خلال العام الجاري.

وعلى الرغم من أن الأسئلة لم تزل قائمة حول الآليات التي يتعامل بها الاتحاد مع العجز المتراكم في الدول الأعضاء، الذي يتجاوز الحدود المسموح بها في منطقة اليورو، لكن هذه الأسئلة تبدو غير مهمة الآن بقدر أهمية حل المشكلات العالقة ودعم المشاريع والشركات والمحافظة على الوظائف كي تبقى آمال الانتعاش قائمة لعام 2021 ولو كان متأخرا. ووفقا لما قاله نائب رئيس المفوضية، فإن الموجة الثانية من الوباء ستقضي على آمالنا في انتعاش سريع، وإن الاقتصاد “سيعود إلى مستوى ما قبل الوباء بالكاد عام 2022″، وذلك بقدر ما تحمله كلمة (بالكاد) من غموض.

فالانكماش والعجز يؤكدان تماما أن الناتج المحلي لدول الاتحاد سيكون في أسوأ حالاته من التراجع، وجاءت التقارير لتشير إلى أن إجمالي الناتج الداخلي لمنطقة اليورو، سيتراجع 7.8 في المائة عام 2020. لا توجد خطط بديلة أمام الحكومات لمواجهة هذا العجز في المالية العامة سوى مزيد من الاقتراض، وهذا سيرفع من حجم الدين العام، لكن المصائب لا تأتي فرادى، فالزيادة في الدين العام يصاحبها تراجع في الناتج المحلي، ونسبة الدين العام إلى الناتج المحلي نسبة مخيفة.

فكما أعلنت المفوضية الأوروبية، أن الدين العام في منطقة اليورو سيتخطى 100 في المائة، من إجمالي الناتج الداخلي عام 2020، ومن المتوقع أن تصل ديون دول منطقة اليورو إلى 101.7 في المائة، من إجمالي ناتجها الداخلي هذا العام. وسيكون الوضع أكثر سوءا في اليونان، لتصل النسبة إلى 207.1 في المائة، وفي إيطاليا 159.6 في المائة، وفي فرنسا سيصل الدين إلى 115.9 في المائة. كل هذه المعطيات الصعبة والمعقدة للغاية، تبقي الأنظار معلقة بالبنك المركزي الأوروبي، الذي أبقى على سياسته بالغة التيسير دون تغيير، وإلى تقديم مزيد من الدعم في الأسابيع القليلة المقبلة.

الاقتصادية