الباحثة شذى خليل *
للبصرة مكانتها الاقتصادية الكبيرة على مستوى العراق والمنطقة، خاصة بعد اكتشاف النفط، لكنها لم تنتفع بوضوح من خيراتها الوفيرة، فلم يحصد سكانها البالغ عددهم حوالي أربعة ملايين نسمة من الحكومات المتعاقبة غير الكثير من الوعود، وبعض المشاريع الاقتصادية المتعثرة والتشريعات القانونية المعطلة، والحرمان والبطالة والفقر .
تتميز البصرة بموانئها البحرية والتجارية والصناعية الكثيرة التي تطل على الخليج العربي مثل أم قصر وخور الزبير وأبو الفلوس والمعقل، والتي يتم عبرها تصدير نفط العراق بنسبة 80%، وتعرف هذه المنطقة أنها رئة العراق الوحيدة على البحر، وتعرف بالمناطق الحرجة ملاحيًا لتداخلها بين ثلاث دول هي الكويت والعراق وإيران، حيث لم تربط بين هذه الدول اتفاقية مشتركة تنظم عمليات الاستفادة من موارد الجرف القاري حتى الآن على الأقل، وتعد البصرة القلب النابض للاقتصاد العراقي، لكن هناك عقبات كثيرة من قبل الكويت أو الموالين لجهات خارجية لا تريد للعراق ان ينعم بخيراته وبمكانته الاقتصادية وحتى السياسية.
ميناء الفاو الكبير، يقع في منطقة اسمها الفاو أو شبه جزيرة الفاو جنوبي محافظة البصرة عند مصب شط العرب في الخليج العربي، ويعد ميناء الفاو الكبير والذي من المنتظر أن يصبح من أكبر الموانئ في العالم وأكبر ميناء في الشرق الأوسط، وسيحول الفاو إلى مدينة عالمية تجارية اقتصادية ضخمة، ويسهم في خلق فرص عمل كثيرة، حيث من المتوقع أن يبلغ عدد العاملين في بناء الميناء نحو 300 ألف عامل.
الأهمية الاقتصادية للبصرة/للميناء تكمن في تحقيق نهضة تنموية حقيقية، والمعروف ان البصرة ترفد الخزينة العامة للدولة بمئات الملايين من الدولارات شهرياً، لكن لا يُخصص لها سنوياً من تلك الأموال إلا القليل، ولا حتى تخليص سكانها من معاناتهم الناجمة عن ضعف الخدمات الأساسية وتفاقم أزمة السكن وندرة فرص العمل واستشراء الفساد الإداري في مؤسسات القطاع.
كان من المؤمل أن يُحدث مشروع الفاو الكبير نقلة نوعية، ويحقق الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية، عبر تحريك عجلة الملاحة البحرية وستكون المدينة الصناعية في منطقة الفاو الأولى في الشرق الأوسط، ومن المتوقع أن يكون للمشروع مردودات مالية كبيرة للعراق من خلال نقل وإيصال البضائع والنفط بشكل أسرع من أي وقت مضى، كما ستبلغ طاقته الاستيعابية القصوى 99 مليون طن سنويًا، ويهدف فضلاً عن تنشيط قطاع النقل في العراق إلى تنويع طرق الاستيراد والتصدير، وتوقع اقتصاديون أن يحقق الميناء للعراق منافع تقدر بنحو 15 مليار دينار شهريًا عند اكتمال المشروع وعمله بطاقته القصوى.
ومن المقرر إنشاء خط سكة حديد يربط منطقة الخليج عبر الأراضي العراقية بشمال أوروبا من خلال تركيا، وهذا ما يضفي عليه أهمية عالمية على مستوى التجارة العالمية.
كما سيتم بناء مخازن للحبوب وأبراج وساحبات هوائية وأحزمة ناقلة عدد 2 و22 رافعة نمطية بطاقات مختلفة، ومهابط للطائرات، وفتح طرق دولية وإقامة معامل لمعالجة المياه ومحطات للوقود.
كما يعد المشروع حلقة وصل بين دول الخليج العربي التي تعتبر مستهلكًا رئيساً للبضائع الأجنبية، كما تعد حلقة وصل مع تركيا التي تعتبر مستهلكًا رئيساً للنفط، وفي نفس الوقت المصدر الرئيس للبضائع، لذا من المتوقع أن تصبح منطقة الفاو حلقة وصل تربط العديد من الأطراف مع بعضها.
علمًا أن الحكومة العراقية كانت قد طرحت المشروع في العام 2010 ووضعت حجر الأساس في أبريل نيسان من ذلك العام، وقد قدرت تكلفة المشروع بـ 4.4 مليارات يورو، وقامت الحكومة العراقية بتمويل المراحل الأولى للمشروع على أن يتم تأسيس شركة محلية قابضة، واستلمت شركة دايو الكورية الجنوبية إنشاء كاسر الأمواج الغربي في موقع الميناء، فيما قامت شركة أرشيرودون اليونانية بإنشاء كاسر الأمواج الشرقي، وبعدها من المقرر المباشرة بحفر حوض الميناء وتعميق القناة الملاحية للميناء، ووصل الميناء لمراحل متقدمة، ولكنه واجه العديد من المشاكل المالية التي أعاقت إكماله وأدت إلى توقف العمل.
ميناء الفاو من المتوقع أن يصبح أكبر الموانئ في العالم وأكبر ميناء في الشرق الأوسط، وسيحول الفاو إلى مدينة عالمية تجارية اقتصادية ضخمة، ويسهم في خلق فرص عمل كثيرة.
ويأتي إعلان طرح المشروع للاستثمار، إثر يأس حكومة البصرة من استكمال تنفيذ المشروع من قبل الحكومة المركزية في بغداد والذي بقي على طاولتها منذ العام 2005 وتم تأجيله مرات عديدة، فبحسب ما جاء على لسان رئيس مجلس محافظة البصرة خلال المؤتمر يوم أمس، فإن “ميناء الفاو الكبير تعطل إنجازه منذ 2009 وحتى الآن لأسباب نجهلها ولكن بعد اليوم لن نسكت على تعطيل المشروع الحيوي”.
ومن الأسباب التي أدت إلى تأجيل المشروع وعدم إنجازه:
يذكر مراقبون ان هناك تصريحات في تشرين أول أكتوبر 2020 لمدير الشركة العامة للموانئ العراقية فرحان الفرطوسي قال فيها “إن مساحة ميناء الفاو سيتم تقليصها، وان عمقه سيتم تقليله من 19 إلى 16 مترا، إضافة إلى تقليل كلفة عقد البناء من 4 مليارات دولار إلى أقل من 2.5 مليار دولار”، ويتخوف المراقبون من ان تغيير مواصفات بناء الميناء قد تفقده قدرته التنافسية مع موانئ المنطقة عموما وميناء مبارك الكويتي خصوصا.
وسبق للنائبة عالية نصيف، عضو برلمان عراقية، في بيان، وأن طالبت من رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، برفع دعاوى قضائية في المحاكم الدولية ضد الكويت “لتجاوزها على حدود العراق البرية والبحرية ونهب ثرواته” وقالت “سبق وأن حذرنا من قيام الكويت بإنشاء ميناء مبارك الذي تهدف من خلاله إلى تدمير اقتصاد العراق، كما نبهنا إلى المخطط الخطير الذي تقوده الكويت وبعض الخونة الذين كانوا مرتزقة ومحامين لها وأخذوا على عاتقهم التنفيذ الأعمى للقرارات الدولية”، كما أعلنت نصيف، جمع تواقيع 100 من النواب لغرض إلغاء اتفاقية خور عبد الله بين العراق والكويت، كونها تلحق أضرارا بالغة بالعراق.
ويأتي الحادث الأخير ليعمق الشكوك بمن يقف وراء تعطيل إتمام بناء الميناء: بعدما أعلنت حكومة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي أن هذا المشروع يقف في قمة أولوياتها خلال المرحلة الحالية، ونجحت الشركة الكورية فعلا في تنفيذ أحد أكبر كواسر الأمواج في العالم، تحضيرا لعملية بناء أرصفة ميناء الفاو الكبير.
لكن حادثا لافتا وقع منتصف شهر أكتوبر الماضي أدخل المشروع في حالة من الشك، حين أعلن محافظ البصرة أسعد العيداني، منتصف الشهر الماضي أن مدير شركة دايو المسؤول عن تنفيذ ميناء الفاو، وجد ميتا قرب موقع العمل في المدينة، مرجّحا أن تكون الوفاة ناجمة عن حالة انتحار.
(وفاة ام انتحار؟!) المدير الكوري، تخلله تبادل التهم بين أطراف عديدة، وعلى سبيل المثال، وجهت أطراف سياسية اتهامات للميليشيات التابعة لإيران بتصفية المدير الكوري لأنه رفض إشراكها في أرباح مشروع الميناء.
وذكرت مصادر أن قادة ميليشيات تواصلوا مع المدير الكوري الجنوبي، وطلبوا منه إسناد مقاولات ثانوية ضمن ميناء الفاو لشركات يملكونها، بعضها وهمي والآخر غير مختص، لكنه رفض.
ونقلت المصادر عن مقرّبين من المدير الكوري قبيل إعلان وفاته بأنه كان محاطا بضغوط كبيرة في أيامه الأخيرة، من دون الكشف عن الجهات التي تمارس هذه الضغوط.
لكنّ أطرافا سياسية في بغداد ألمحت إلى ارتباط حادثة وفاة المدير الكوري بملف ميناء مبارك الكويتي قيد الإنشاء الذي يعدّ المتضرر الأول من مشروع ميناء الفاو العراقي… هل هناك تحقيقيات حقيقية تكشف الحقائق ام كما اعتاد العراقيون على الأطراف والجهات العديدة التي تقوم بخلط الأوراق لإخفاء الجناة والتستر عليهم .
ميناء مبارك الكبير في الكويت:
ويأتي الخطر الأول والأكبر من ميناء مبارك الكبير في الكويت، الذي باشرت الكويت بناءه في العام 2010 بقيمة 1.1 مليار دولار قبالة السواحل العراقية على جزيرة بوبيان التي بالأصل هي عراقية وهذا مثبت رسميا وتاريخيا .
المشروع وكما اختارت الكويت تنفيذه، يقع على بعد كيلومترات قليلة من مشروع الفاو الكبير، وتعد أحرج منطقة ملاحية في العالم، كونها تفرض واقعًا جغرافيًا سياسيًا على العراق من حيث انها تغلق الرئة البحرية الوحيدة للعراق الذي لا يملك منفذًا بحريًا غيرها، وتحرم العراق من ارتباطاته البحرية مع البلدان الأخرى، فضلاً عن أن المشروع ينوي مد خطوط سكك حديدية باتجاه أم قصر، الميناء العراقي، ما سيؤدي إلى تبعات على تجارة العراق البرية.
علمًا أن دراسة جدوى المشروع أقرت أن ميناء مبارك سيعتمد على التجارة الكويتية العراقية بشكل كبير، إذ سيعتمد على الحركة التجارية العراقية بشكل كبير، من باب الاعتماد على الاستهلاك الذي تتركز أعلى نسبة له في العراق بنسبة 68%، ومن المتوقع أن 80% من السوق العراقية ستتحرك عبر ميناء مبارك الكبير في بوبيان لأن الموانئ العراقية لا تحمل سعة كبيرة للحاويات كما سيحمله ميناء مبارك.
المشروع بحسب التقاير التي اثبتت بالأضرار الجسمية التي ستلحق بالاقتصاد العراقي بشكل مباشر، حيث ستصاب الموانئ العراقية الواقعة شمال خور عبد الله بالشلل التدريجي بعد تنفيذ المشروع، كما ستلحق امتدادات الميناء بتقليص مساحة الجرف القاري للعراق، وإنشاء السواتر الخرسانية في خور عبد الله سيلحق ضررًا جسيمًا بالثروة السمكية في المياه الإقليمية العراقية.
وكما تشير أحد التقارير، فإن المشروع مدعوم من قبل الولايات المتحدة، ويسهم في احتواء نفوذ إيران المتزايد على الكويت، وإخماد مخاوف الكويت مما تعتبره تهديد الجار المستمر لاستقلالها، فضلًا عن خطة لتحويل الكويت إلى مركز إقليمي، تطمح فيها الكويت أن تصبح منطقة أساسية للتجارة الحرة تربط آسيا بأوروبا من خلال بناء مدينة تبلغ قيمتها 90 مليار دولار، وبناء سكك حديدية وشبكة مترو تخدم الميناء.
(قناة السويس)، مشروع الفاو الكبير صُمم ليستوعب 99 مليون طن من الشحن سنويًا وليربط الخليج العربي بأوروبا بواسطة شبكة حديدية، وهذا بدوره يعد تهديدًا كبيرًا على قناة السويس ودورها في المنطقة المتمثل في الشحن البحري ما بين آسيا وأقيانوسيا وأوروبا وصولًا إلى القارة الأمريكية، خصوصًا في ظل ما قامت وتقوم به الحكومة المصرية من تطوير لقناة السويس بحفر التفريعة الجديدة للسويس وتطوير الأرصفة البحرية بهدف توسيع مدخولات القناة.
مشروع الفاو الكبير في العراق يهدد مكانة موانئ جبل علي في دبي الذي يعد أكبر ميناء في المنطقة العربية بما يؤمنه من نفاذ لأسواق محلية وإقلمية وعالمية فيها أكثر من ملياري شخص، والجدير بالذكر أن الميناء المتعدد وسائط النقل البحري والبري والجوي يلعب دورًا محوريًا في اقتصاد إمارة دبي بشكل خاص واقتصاد الإمارات العربية المتحدة بشكل عام، ويعتبر محوريًا كذلك لأكثر من 90 خدمة ملاحية أسبوعية تربط أكثر من 140 ميناءً في أنحاء العالم.
وقد شكلت الإمارات ثقلًا كبيرًا على مصر في فترات الحكم المختلفة من أيام مبارك إلى مرسي ومن ثم السيسي لعدم المساس بتطوير قناة السويس، لما تحمله من آثار سلبية على موقع جبل علي واقتصاد دبي، لذا فإنه من غير المستبعد أن تكون الإمارات غير راغبة بإتمام المشروع منذ إعلانه في السنوات الماضية للقضاء على الفكرة أو لتأخيره.
في الختام.. الحكومة العراقية يجب ان تصل الى اليد الخفية التي لا تريد للعراق خيرا، وان تقطع التدخل الإيراني المريب بكل مفاصل الدولة لتكون دولة ذات سيادة وقرار.
و تبقى الكويت مسؤوله عن الاضرار الناجمة على الاقتصاد العراقي بما يخلفه ميناء مبارك، وعلى حكومة الكويت ان تستوعب دروس التاريخ في علاقتها مع العراق، وتفتح صفحة جديدة من علاقات حسن الجوار والمصالح المشتركة، وكان سلوكا بعيدا عن الحكمة عندما لجأت حكومة الكويت إلى أساليب تقديم الرشى لمسؤولين عراقيين فاسدين وزائلين واستغلال الظروف المحلية والدولية لانتزاع امتيازات من العراق عبر الاستيلاء على أراضٍ ومياه وحقول نفط وغاز ومزارع عراقية بدون وجه حق، التاريخ والعراقيون لا ينسون شي وسيعود الحق لأصحابه ولو بعد حين .
واذكر ان حكومة الكويت تتغافل عن حقيقة ان عواقب احتلال العراق للكويت قد يأتي يوم وتنطبق عليها لأنها جعلت من أرضها منطلقا لقوات الاحتلال الأمريكي البريطاني عند غزوها العراق عام 2003 من دون تفويض من الأمم المتحدة، وبالتالي فإنها قانونيا، تتحمل مع الولايات المتحدة نتائج كل الخراب والدمار الذي لحق بالعراق نتيجة الغزو، فيما يبدو أن السلوك العدائي بين جارين ستكون له تداعياته السلبية ليس الآن فقط بل في المستقبل أيضا.
وحدة الدراسات الاقتصادية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية