الباحثة شذى خليل*
يوصف الوضع الاقتصادي في العراق بالكارثي، بسبب العجز المالي الكبير في الموازنة، وتراكم الديون، ومن المشاكل الأساسية التي يواجهها العراق اعتماد الموازنة كلياً على النفط، فضلا عن مبالغته في اتجاهات النفقات العامة، ناهيك إلى أن الدرجات الخاصة في الحكومة العراقية رواتبها مرتفعة جداً وتتمتع بامتيازات خاصة كالسكن ونفقات المعيشة والسفر والعلاج والتأمين الصحي، وجميعها امتيازات أثقلت الموازنة وأثرت بشكل لافت وكبير على الاقتصاد العراقي الأحادي الجانب وأكثر ما يعانيه العراق وما أوصله إلى هذا الحال هو التدخلات الخارجية والداخلية وغياب الرؤى الواضحة.
فلو تسائلنا عن هوية النظام الاقـتـصـادي، لا ّبـد من التطرق إلـى قضايا جوهرية تتعلق بحجم الموارد وكيفية تخصيصها، وأسلوب اتخاذ القرارات الاقتصادية المتعلقة بالإنتاج والاستثمار والتوزيع وتعظيم مستوى المنفعة الاجتماعية والربحية القومية.
الاقتصاد العراقي نفطي فضـلا ّعما يحظى به من تنوع موردي مادي وبشري، أي ثروة بشرية هائلة لكنها مهمله تماما، وبالنظر إلى خصوصية مورد النفط كمورد طبيعي ناضب، يتأثر بشدة بظروف الأسواق الدولية، التي تقرر مستوى الأسعار، ومعدلات وسقوف الإنتاج، وحجم الصادرات، حجم الإيــرادات النفطية، فـإن هـذه الـظـروف أدت الى إضعاف الاقتصاد العراقي وانعكاس هذا الضعف على التنمية والاستثمار وعلى حياة المواطن ومستوى المعيشة، مما جعله رهينة للصدمات الخارجية الناجمة عن تقلبات أسـعـار النفط، التي ظلت تعصف بحالة الاسـتـقـرار الاقـتـصـادي والاجتماعي والسياسي، وأفقدت عملية التنمية صفة الاستدامة.
بناء على ما تقدم، يمكن القول إن المشكلة الاقتصادية في العراق تعود إلـى فشل الأنظمة التي حكمت العراق منذ خمسينيات القرن الماضي، في تحقيق مهمة الانتقال نحو الاقتصاد التنموي مـن خـلال استثمار الـثـروة النفطية فـي تنويع الاقـتـصـاد وخلق فـرص التشغيل المنتج ورفع مستوى التنمية البشرية، وما يميز النظام الاقتصادي العراقي اليوم – الذي انبثق من عملية التغيير السياسي التي ولـدت فـي ظـل ظـروف الاحـتـلال الأمـريـكـي للعراق فـي عـام 2003.
لكن الأنظمة الاقتصادية التي طبقت في البلد بعد 2003 عملت على تعميق التوجه الريعي للاقتصاد العراقي، وساهمت في تفاقم الاختلالات الهيكلية بمختلف أنواعها، والتراجع الكامل من النشاط الإنتاجي المحلي غير النفطي، من دون أن يعوض هذا التراجع بقيادة اقتصادية مـؤثـرة تمنح الـقـطـاع الـخـاص الـوطـنـي دوراً أكبر في زيـادة الاستثمار والتشغيل المنتج، وقـد أسهم هذا التوجه في تكريس التبعية بمختلف أشكالها، والتخلي عن الاستراتيجيات والخطط والسياسات الاقتصادية الهادفة إلى تحقيق التنويع الاقتصادي والنهوض بالتنمية الداخلية ممثلة بقطاعات الناتج غـيـر النفطي وبـخـاصـة قـطـاعي الــزراعــة والصناعة الـتـحـويـلـيـة، بـعـد أن كــان الأمــل كـبـيـراً – مــن قبل الـمـجـتـمـع الــعــراقــي والــقــوى صـاحـبـة الـمـصـلـحـة الحقيقية في التغيير .
رغم موازنات العراق الانفجارية على مدى الأعوام الـ17 الماضية، لم تفلح الحكومات العراقية في بناء اقتصاد متنوع ومتعدد للبلاد، إذ لا يزال العراق يعتمد على النفط مصدرًا رئيسيًا ووحيدًا في موازناته السنوية.
وحسب تقارير أجنبية بعد أزمة كورونا عندما انخفضت أسعار النفط بشكل كبير بسبب الإغلاق العالمي الذي أعقب تفشي الفيروس، فإن نتيجة اعتماد العراق على النفط في رفد موازنته، بدت الحكومة عاجزة عن دفع أجور الموظفين والمتقاعدين، هذه جميعها تشير الى مشاكل متراكمة وضعف التخطيط بسبب الفساد المالي والإداري والمحاصصة ووقف التنمية والاستثمار وضعف الحكومات المتعاقبة وسوء إدارة الدولة .
ويتوقع أن ينخفض الناتج المحلي الإجمالي للعراق بنسبة 9.7% العام الحاليّ، ما قد يضاعف معدلات الفقر بحسب توقعات البنك الدولي، الأمر الذي سيؤدي بالعراق إلى أن يشهد أسوأ أداء اقتصادي سنوي منذ الغزو الأمريكي عام 2003.
بلغت إيرادات العراق من النفط في سبتمبر الماضي 1.4 مليار دولار فقط، بما معناه أقل من ثلث مبلغ الـ4.5 مليار دولار التي تحتاجها البلاد شهريًا لدفع رواتب الموظفين في القطاع العام والتعويضات والتكاليف الحكومية.
اليوم نستطيع ان نصف الاقتصاد العراقي بأنه في أزمات مالية متوارثة من الإدارات السابقة، مما يضع حكومة الكاظمي أمام معالجات الإنفاق العام المتضخم، أزمة المدفوعات.
وبالنظر إلى أن رواتب القطاع العام تمثل ما يقرب من نصف إجمالي الإنفاق الحكومي، فإذا أرادت الحكومة تقليل حجم الإنفاق، فإنها بحاجة إلى إجراء تخفيضات في الرواتب العامة.
لكن مثل أي بلد في العالم، ان عملية خفض الرواتب ليست بالعملية السهلة، بسبب ردود الفعل السياسية تجاه هذا الأمر، وقد أصبح هذا النهج أكثر صعوبة؛ لأن حكومة الكاظمي تفتقر إلى القاعدة السياسية في مجلس النواب التي تمكنها من دعم خياراتها السياسية.
طبقت حكومة الكاظمي الضريبة على رواتب شهر آيار، لكن رد الفعل العام كان كبيراً لدرجة، مما دفعها الى التراجع، حتى أنه أصر على أن التخفيضات في الرواتب التقاعدية لم تكن بسبب سياسة جديدة بل لوجود عجز مؤقت في السيولة؛ وتم تعويض المتقاعدين بعد أيام.
منذ ذلك الحين، يبدو أن الحكومة تخلّت عن أية محاولة لكبح جماح الإنفاق على رواتب موظفي القطاع العام، واتبعت وسائل أخرى لتوفير الإيرادات البديلة -لاسيما الخاصّة- بالاستيراد والتعريفات الجمركية، وتشير التقديرات إلى أن عائدات الجمارك وحدها تبلغ قيمتها 10 مليارات دولار سنوياً، لكن جزءاً صغيراً منها فقط يجد طريقه إلى خزينة الدولة؛ بسبب الفساد الهائل في المعابر الحدودية، وقد أطلق الكاظمي حملة للسيطرة على هذه المعابر؛ لكنها لم تكن بالمستوى الحازم .
وقد ترك هذا الأمر الحكومة مع الخيار الاحتياطي الآخر وهو الاقتراض؛ بعد الحصول على الضوء الأخضر من مجلس النواب، إذ تخطط الحكومة لاقتراض ما يصل إلى 13 مليار دولار محلياً، ومعظمها من البنوك المملوكة للدولة، وما يصل إلى 5 مليارات دولار من مصادر دولية؛ ويشير هذا النهج إلى فشل الحكومة، على الأقل في الوقت الحالي، في اتخاذ أي تدابير مهمة لتخفيف العبء المالي، ويتطلب أي نهج لدفع الإصلاحات رغم ما تواجهه الحكومة من ضغوطات وعراقيل، إلا أنها مصرّة على العمل الجاد لتجاوز المحنة.
الكاظمي وورقة الإصلاح الاقتصادي:
الإصلاح عملية اقتصادية اجتماعية سياسية ثقافية شاملة، تشمل جميع القطاعات الإنتاجية والخدمية، وكافة الفئات والشرائح الاجتماعية، بحيث يتأثر الجميع بخطوات الإصلاح ويؤثر بها، وإذا لم تكن الخطوات مدروسة ومتكاملة فالنتائج ستصيب البعض على حساب البعض الآخر، ويختلف اتجاه ومضمون الإصلاح الاقتصادي من فكر الى آخر.
رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي قال، إن “معالجة التحديات الاقتصادية مهمة ليست سهلة، وأن الأزمة الحالية منهجية، لا تتعلق بهذه الحكومة وإجراءاتها، وهي تحتاج الى إصلاح حقيقي وجذري وخطط طويلة الأمد لتجاوزها”.
وأضاف ان “ورقة الإصلاح، تحتاج إلى جهود الجميع لتطويرها، والاستفادة من الخبرات الموجودة، من أجل ترجمتها الى واقع عمل طويل الأمد”.
مؤكدا أن “الورقة البيضاء تمثل بداية الإصلاح الاقتصادي، وعلى الرغم من كونها مطولة وتضم بعض الإجراءات، لكنها ستكون قاعدة نستند إليها في تطوير رؤية البلد المستقبلية”.
وطلب الكاظمي من مجلس النواب مناقشة الورقة الإصلاحية “وإقرارها من حيث المبدأ، لتكون إطاراً عاماً لعمل حقيقي وجاد يمكن ان ينهض بالاقتصاد العراقي”.
معوقات الإصلاح الاقتصادي:
عدم وضوح دور الدولة في الاقتصاد العراقي، والتي ينبغي لها ان تقود عملية الانتقال بنفسها قبل أن يتم تفكيكها، فالظروف الموضوعية في العراق فرضت التحول في طبيعة وفلسفة الاقتصاد القائم من النظام المركزي (المستند على هيمنة الدولة) إلى نظام (يعتنق فلسفة الحرية الاقتصادية) وهذا أدى الى تفاقم أزمات وخلق معوقات مفصلية في إدارة الدولة، لسوء التخطيط، ومن بين معوقات الإصلاح الاقتصادي ما يلي:
• انتشار ظاهرة البطالة والفقر في المجتمع العراقي.
تعد البطالة من أخطر المعوقات التي تواجه الإصلاح الاقتصادي في العراق، لما لها من آثار اقتصادية واجتماعية وسياسية، إضافة إلى أنها تشكل هدراً للعنصر البشري، فإن سياسة الدولة في استيعاب العاملين في أجهزتها وخاصة العسكرية والأمنية منها، لم تنجح في استيعاب قوة العمل المتزايدة، بل كانت لها نتائج سلبية، إذ ظهرت البطالة المقنعة في القطاع العام مما جعل الصعوبة في مكافحتها أكبر بسبب المردودات السلبية التي تولد منها.
• المديونية الخارجية.
في مطلع عام 1980، كان العراق بلداً بلا مديونية ويتمتع بفائض مالي قدره (38) مليار دولار، وبسبب الحرب مع إيران خلال الثمانينيات من القرن الماضي خرج العراق بلداً مثقلاً بالديون، والتي بلغت حوالي (63،5) مليار دولار عام 1991، منها حوالي(21) مليار دولار ديون للدول الخليجية، وفي عقد التسعينيات، وبعد حرب الخليج الثانية عام 1991، تزايدت ديون العراق الخارجية فبلغت أقصاها عام 2003 حيث قدرها البنك الدولي وبنك التسويات الدولية بحوالي(127) مليار دولار أمريكي.
إن للالتزامات المالية هذه دور كبير في تقويض عملية الإصلاح الاقتصادي في العراق، إذ تؤدي إلى تحديد الاستخدام الأمثل من الأموال فيه، عن طريقين:
• عبء الدين الثقيل الذي ورثه العراق من نظام الحكم السابق، الذي سوف يؤدي إلى حرمان البلد من موارد مالية كبيرة كان بالإمكان أن تستخدم لإنعاش الاقتصاد العراقي.
• تشكل مسألة دين العراق الاجنبي والالتزامات المالية الآخرى عقبات أمام إدخال البلد اقتصاديا إلى الأسواق الدولية الكبيرة.
ومن الإجراءات التي من شأنها أن تقلل من معدلات البطالة والفقير في العراق.
• مكافحة الفساد وتعزيز الإدارة الرشيدة، حيث إرث الفساد وشيوع ثقافته يتطلب المعالجة والحلول السريعة، كونه يقوض عملية الإصلاح الاقتصادي، فمن أجل بناء قدرات المؤسسات لمكافحة الفساد على كافة المستويات في الحكومة يتعين العمل على الآتي:
• تشريع قانون النزاهة.
• تعزيز قدرات الهيئة الوطنية للنزاهة، وديوان الرقابة المالية، وتفعيل مكاتب المفتشين في الوزارات.
• تطبيق المعايير المحاسبية والتدقيقية وتفعيل دور الرقابة الداخلية واستقلاليتها، وتبني سياسة الحد من الفساد قبل وقوعه، واعتماد قواعد وضوابط سلوك أداء الموظفين الحكوميين ورفع مستواهم المعاشي.
• التطبيق الجاد لقانون الدخل العام والكشف عن الأرصدة.
• اعتماد حملة توعية وطنية شاملة حول مكافحة الفساد وابرازه كونه حالة سلبية وخطرة على حاضر ومستقبل أبناء العراق وليس فقط لكونه مخلاً بالسمعة والشرف والسلوك وإن القانون يعاقب مرتكبيه، وإنما مرفوض خلقاً وشرعاً ويعتبر فضح مرتكبي الفساد والغش من الوسائل المهمة لمكافحته.
• تفعيل دور وسائل الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني في الرقابة.
وخلاصة القول.. يجب ان يستفيد العراق من التجارب التي مرت بها الكثير من الدول على مستوى الفساد وعلى المستوى السياسي، ضرورة ملحة ينبغي اخذ الدروس والعبر منها، لذلك هنالك إصلاحات جذرية، هدفها بناء دولة المؤسسات، سيادة القانون والقضاء على الفساد، فسح المجال للخبراء والنخب لمسك الملف الاقتصادي، هذه الأمور إذا ما تحققت سنخطو نحو الإصلاح، وبدونها سيبقى الإصلاح مجرد اجتهادات وكلام لا يسمن ولا يغني من جوع.
وحدة الدراسات الاقتصادية
مركز الروابط للبحوث والدراسات لاستراتيجية