ما أجمع العرب منذ حروب الصراع مع إسرائيل على فلسطين، كما أجمعوا على الحرب باليمن. ويرجع ذلك إلى عدة أسباب: وضوح العدوان والانقلاب باليمن، وإرادة قهر الشعب اليمني وإخضاعه، وتهديد الأمن العربي، والإحساس العربي العام أنه إن سقطت اليمن بعد العراق وسوريا وليبيا ولبنان، فإن الأوضاع ستستعصي على الترميم، وستكون بقية الأقطار مهدَّدةً بمليشيات التطرف والإرهاب والتدخل الإيراني.
والواقع أنّه منذ اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، سقطت أُطروحة الحرب وإمكانياتها من الأخلاد والأعمال، رغم حربي صدام حسين على إيران والكويت، وحروب العدوان الإسرائيلية المتكررة. وهكذا صار عمادُ الأمن بالمنطقة العربية: الاعتماد على أحد طرفي الحرب الباردة في حماية الاستقرار داخلياً وخارجياً، وممارسة دبلوماسية وقائية نشطة لاتقاء الشرّ بأي ثمن. واعتبر الجميع ما حصل في حرب العراق على الكويت، دليلاً على عبثية الحرب حتى ما كان دفاعياً منها. وربما كانت هذه القناعة أيضاً وراء ذهاب ياسر عرفات باتجاه أوسلو وخيار السلام! فالحرب ما عادت ممكنة، بل صارت مستحيلة بغياب مصر، والذهاب إلى أوسلو هو الإنجاز الأقصى للانتفاضة.
وهكذا فإنّ ما تعرض له العرب، والذي سمّاه الراحل سعود الفيصل «خواءً استراتيجياً»، سببه عاملان (داخليان) مزعزعان للاستقرار، وإن اختلط فيهما ظاهراً الداخل بالخارج. العامل الأول: الإسلام السياسي والجهادي. والعامل الثاني: التدخل الإيراني. وقد ذهبتُ إلى أن التدخل الإيراني داخلي، لأن إيران اعتمدت سياسات تجنيد وتحشيد مذهبي وسياسي بالدواخل العربية. فعندما أنشأت «حزب الله» عام 1982، أنشأت أيضاً تنظيم «الجهاد الإسلامي» (الفلسطيني)، وفي أواخر التسعينيات استقطبت حركة «حماس». وبذلك انفصلت فئات شعبية واسعة أو ضيقة وعياً وعملاً، وصارت مستعدةً لحمل السلاح ضد الفئات الأُخرى. وهذا الوعي وقع في أصل ما صار يُعرف بالصراع الشيعي السني الذي التهب بعد الغزو الأميركي للعراق.
أما العامل الآخر المتمثل في الإسلام السياسي والجهادي، فهو داخلي أيضاً، ويعني انشقاقاً في الإسلام السني. ورغم وجود أعداء خارجيين له، لكنه كسائر الانشقاقات يعود لمقاتلة أصله أو جذره، لأنه يصارعه على نفس المساحة.
وبينما كانت الدول العربية تتعرض لهذه النشاطات المدمِّرة بداخلها، غزت الولايات المتحدة أفغانستان والعراق، واهتمت كل من إيران وتركيا بتحشيد الأنصار وخَلْق مناطق النفوذ بالدواخل العربية.
ووسط هذه الترديات الداخلية والتدخلات الخارجية، على مدى عقد وأكثر، كان لابد من الدفاع والتصدي لحفظ الأمن والوحدة الداخلية، لكن معظم الدول العربية ما فعلت شيئاً من ذلك، اعتماداً على الولايات المتحدة وعلى الدبلوماسية الناشطة. وفي حالتي فلسطين والدول العربية الأُخرى، بدا قصور هذه النظرة (لا حاجة إلى الحرب أبداً) في اغتيال إسحاق رابين من جهة، وفي تغير السياسات الأميركية بالمنطقة بعد غزو العراق، ثم مجيء أوباما للسلطة.
لقد غيرت «عاصفة الحزم» استراتيجيات العرب في التعامل مع الداخل والخارج، فالدولة التي تريد الحفاظ على الاستقرار والوحدة الوطنية الداخلية، لابد أن تضع في حسابها إمكان خوض الحرب من أجل ذلك. وهذا ما تفعله السعودية ودولة الإمارات، والدول العربية الأُخرى المشاركة في العاصفة. تحفظ الجيوش العربية المقاتلة بالداخل وعلى الحدود الاستقرار والوحدة بالداخل، وتكافح الفراغ الاستراتيجي الذي تريد دول الجوار ادعاء ملئه بنشر الحرب والخراب. والواقع أنه لم يعد هناك علاج لهذين الداءين غير القتال.
لقد خسرت القوات العربية عدداً معتبراً من الشهداء، لكنهم ماتوا مقبلين غير مُدْبرين، وماتوا وهم يخوضون حرباً لصون أمنهم الوطني والقومي، ويغيِّرون انطباعات سادت طوال ثلاثة عقود بأن العرب لا يخوضون الحروب، وإنْ خاضوها خسروا! إن الأمر صار الآن كما قال خالد بن الوليد: «اطلبوا الموت توهبْ لكم الحياة!».
د.رضوان السيد
صحيفة الاتحاد الاماراتية