د.معمر فيصل خولي
“طهران آخر من يعطينا درسا في احترام حدود العراق”، كان هذا رد فاتح يلدز السفير التركي في العراق، على تصريحات نظيره الإيراني في تلك الدولة، الذي دعا تركيا إلى “مغادرة العراق واحترام أراضيه”، مؤكدا «رفض التدخل العسكري في العراق»، وأضاف مسجدي “ما شأن تركيا في قضاء سنجار؟” هذا السؤال يطرح أيضًا على إيران؟
بالنسبة لتركيا، ليست لديها مشكلة مع العراق وقضاء سنجار وإنما مشكلتها، منذ سنوات، مع تواجد حزب العمال الكوردستاني في شمالي العراق الذي استغل ظروفه الأمنية ليؤسس له في قضاء سنجار امتداد جديد داخل العمق العراقي ويربطه بجبال قنديل لتسهل حركته إلى سوريا، وترى تركيا بهذا الامتداد تهديد جديد لأمنها القومي. لذلك أتت عملياتها العسكرية المتعاقبة ضده في سياق رفضها بأن يصبح شمالي العراق ملاذًا آمنًا لحزب العمال الكوردستاني، لذا تعد مطاردته العسكرية والأمنية والإستخباراتية فيه، هي إحدى مسلمات العقيدة العسكرية التركية منذ عقود.
وبناء على ذلك، لا تسعى الدولة التركية إلى انتهاك سيادة العراق أو التدخل في شؤونه، وإنما الحفاظ على أمنها القومي. فهي حريصة على مصالحها وأولوياتها في العراق، فتركيا من أجل الحفاظ على أمنها القومي هي تدعم عراق قوي بمعنى وجود حكومة مركزية قادرة على فرض سيطرتها على كامل الأراضي العراقية، تستطيع أن تسيطر بنجاح على حدودها الشمالية وأن تضع حدًا لتسلل حزب العمال الكوردستناني إليها، وهي أي تركيا مع عراق قادر على التغلب على الانقسامات العرقية والطائفية، ومع عراق مستقر ومزدهر من شأنه أن يدفع بالعلاقات الثنائية نحو المزيد من التقدم في كافة المجالات وخاصة الاقتصادية.
مما لاشك فيه، هذه الرؤية التركية للعراق، ستقطع الطريق على استنساخ نموذج النظام السياسي الإيراني في العراق أو على أقل تقدير استنساخ النموذج اللبناني فيه أيضًا، فالنموذج الأخير هو المتبع حاليا في العراق يعني وجود دولة ضعيفة يستطيع حزب العمال الكوردستاني بالتعاون مع إيران أن يشكل مصدر قلق قومي لتركيا في شمالي العراق. وهذا أمر غير مقبول بالنسبة لها.
أما بالنسبة لإيران، فتواجدها في سنجار بشكل خاص وتأثيرها ونفوذها في العراق بشكل عام، يتناقض تمامًا مع المصالح والأولويات التركية فيه، فتواجدها هناك أي في سنجار، هو جزء من مشروعها التوسعي في المشرق العربي الذي انطلق من العراق منذ احتلاله، مرورًا بلبنان ووصولها إلى شرق بحر المتوسط عبر سوريا، ووصولها إلى اليمن والبحر الأحمر عبر الحوثيون.
ونتيجة لحالة الفوضى المتعددة المجالات التي أفرزتها السياسات الأمريكية في مرحلة ما بعد احتلال العراق؛ بسبب حلّها كل مؤسسات الدولة العراقية، وإفراغها من كل مقومات الحياة- وجدت إيران في ذلك فرصة حقيقية للنفوذ إلى الداخل العراقي، عبر اعتماد إستراتيجية متعددة المراحل والأشكال والأنماط؛ إستراتيجية قائمة على احتواء كل الدولة العراقية، وإعادة هندستها من جديد، وفق آليات وصيغ وأنماط تحفظ الوجود الإيراني في العراق.
فقد أنتجت استراتيجيتها في العراق حالة من الفوضى والتأزم، وقد هدفت إيران عن طريق تطبيقاتها الإستراتيجية في العراق إلى تقديمه بوصفه أنموذجًا استرشاديًّا للمجتمعات الشيعية في دول الجوار العراقي؛ فضلًا عن تحويل العراق إلى قاعدة دائمة للوجود العسكري الإيراني، للانطلاق عن طريقه إلى مجمل ساحات الصراع العسكري في الخليج العربي والشرق الأوسط، وبهذا فإن إيران سعت بعد الاحتلال الأمريكي للعراق إلى خلق حكومة موالية لها في بغداد، وإعادة بناء وصياغة أنظمته المعرفية والتعليمية والقيمية، دعمًا لتنامي هيمنتها ووجودها الدائم فيه.
فلم تعد الاستراتيجية الإيرانية تقتصر على كلمة ” نفوذ وتأثير” في شؤون العراق العسكرية والسياسية والاقتصادية والأمنية الداخلية، وإنما أثبتت حركة الاحتجاج العراقية أيضًا أن استراتيجية إيران في العراق تنطلق من احكام سيطرتها على حاضر ومستقبل وثروات وجغرافية العراق، وبالتالي فإن العراق وفق التفكير الإستراتيجي الإيراني لا يتم التعامل معه كدولة بعد عام التاسع من نيسان/إبريل عام 2003م، وإنما مجالًا حيويًا من الصعوبة بمكان التنازل عنه.
فحركة الاحتجاج العراقية التي اندلعت في تشرين الأول/ أكتوبر عام 2019م، كانت موجهة ضد فساد الطبقة الحاكمة في العراق وضد أيضًا الاستراتيجية الإيرانية في العراق، حيث وقفت إيران منها موقف الرافض والمعادي لها. فلست أدري، إذا كانت الصيحات الغاضبة للشباب العراقي في بغداد والمحافظات الجنوبية والفرات الأوسط، لسياسات إيران في العراق قد وصلت إلى مسامع السفير الإيراني فيه، بينما لم نسمع تلك الصيحات إزاء تركيا؟، كما إنني، لست أدري أيضًا، إذا شاهد، عبر شاشات التلفاز العربية والعالمية وربما الإيرانية والحليفة لها أيضًا، قيام المحتجون في المدن العراقية بتمزيق صور لرموز النظام السياسي في إيران، ببنما لم نشاهد أي صورة مزقت لرموز النظام السياسي في تركيا! فدلالة الصيحات والتمزيق واضحة ولا تحتاج إلى توضيح.
خلاصة القول، إذا جاز لنا تقييم التدخل العسكري التركي في العراق وإستراتيجية إيران حياله وفق أسس التحليل السياسي ومبادىء القانون الدولي العام القائمين على حفاظ الدولة على أمنها القومي فقط وليس التوسع الخارجي، لربما نتفهم الموقف التركي، لأن هذا التدخل مرتبط بمتغير” حزب العمال الكوردستاني”، فمبجرد ما ينتهي هذا التهديد الأمني تنتهي تلك العمليات. ولا أرى أن ذلك التدخل يأتي في سياق العثمانية الجديدة – كما يراها البعض- فالعثمانية أو الامبراطورية القائمة على التوسع الجغرافي انتهت مع تفكك الدولة العثمانية بعد حرب العالمية الأولى ولن تعود.
لكن من الصعوبة بمكان تفهم استراتيجية ايران في العراق إلا في سياق تحطيم هويته العربية، فما تزال الذاكرة السياسية والعسكرية الإيرانية ترى العراق بموقعه الجيوسياسي ومكانته التاريخية وثرواته الطبيعية وامتداده العربي، مهددًا لاستقرار إيران ولأمنها القومي في لحظة معينة، حيث تتمثّل أولوية طهران في الحيلولة دون بروز قوة العراق من جديد وهو ما يشكل تهديداً لها، سواء أكان ذلك في شكل عسكري أو سياسي أو فكري؛ وبناءً على هذا، فإن إيران مع عراق موحد ضعيف يمكن بسهولة قضمه بينما تركيا من أجل مصلحتها والقلق الذي يساورها من الطموح الكردي مع عراق قوي متعافي.