الخرطوم – وقع رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول عبدالفتاح البرهان على إعلان مبادئ، مع قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال عبدالعزيز الحلو، تضمّن محتوى يقضي بفصل الدين عن الدولة كخطوة تشكل قاعدة لحل نزاع طويل مع الحركة التي رفض زعيمها التنازل عن هذا الشرط، ما يمثل انتصارا جديدا لمدنية الدولة في السودان، وتجاوزا لعقبة أسلمة الدولة التي أسس لها الرئيس الراحل جعفر نميري، وحولها الرئيس المخلوع عمر البشير إلى ركن للحكم تسبب في انفصال جنوب السودان وانتشار حركات تمرد مسلحة.
ودخل الحلو في مفاوضات متقطعة مع مسؤولين في السلطة السودانية دون أن يتزحزح عن مطلبه الخاص بعلمانية الدولة، ما جعله يتخلف عن التوقيع على اتفاق السلام الذي وقعته حركات مسلحة مع الحكومة في جوبا أكتوبر الماضي.
وشعرت الخرطوم بأن بقاء الحلو خارج إطار السلام الشامل يعد منغصا أمنيا مزمنا، لأن تمركز قوات كبيرة تابعة لحركته في منطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، بالقرب من الحدود المشتعلة مع إثيوبيا، ربما تكون له تداعيات إقليمية إذا بقي خارج نطاق السلام مع الدولة.
وخالف توقيع الخرطوم تقديرات دوائر سياسية بعد رفض المكون العسكري مطلب العلمانية سابقا، ما يشي بأن البرهان تخطى تكتيكيا مطبات منتظرة لهذه الخطوة.
وقالت مصادر سودانية محلية إن رئيس مجلس السيادة أجرى مناقشات مع أعضاء الحكومة وقوى سياسية عديدة الأيام الماضية للحصول على موافقتهم حول إعلان المبادئ الذي شمل سبعة بنود رئيسية، أهمها علمانية الدولة.
ونص إعلان المبادئ الموقع في جوبا على “تأسيس دولة مدنية ديمقراطية فيدرالية تضمن حرية الدين والممارسات الدينية والعبادات لكل الشعب، ولا تفرض الدولة دينا على أي شخص وتكون غير منحازة فيما يخص الشؤون الدينية وشؤون المعتقد والضمير وتكفل وتحمي حرية الدين والممارسات الدينية، ويضمن ذلك الدستور”.
وتفسر بنود الإعلان على أنها محاولة للوصول إلى تسوية ترضي الأهداف والمبادئ والشعارات الأساسية للحركة الشعبية، وتحفظ للسلطة حدا أدنى من المرونة في التعامل مع قضايا مطلبية للحركات المسلحة.
ووقع رئيس الحكومة السودانية عبدالله حمدوك مع الحلو في أديس أبابا، في سبتمبر الماضي، إعلان مبادئ مماثلا لمعالجة الخلاف حول العلاقة بين الدين والدولة وحق تقرير المصير لكسر جمود التفاوض، لكن رفضه المكون العسكري لأنه تضمن إشارة إلى تقرير المصير وتلويحا بالحكم الذاتي أو الانفصال.
ولا تختلف كثيرا الوثيقة التي وقعها البرهان في أبوجا عن تلك التي قبل بها حمدوك في أديس أبابا، ففي كلتيْهما كان البند المحوري توفير الضمانات الكافية لحرية الدين والممارسات الدينية والعبادات لكل المواطنين، أي”فصل الدين عن الدولة”، وهي العبارة التي أصبحت تثير شجنا لدى البعض وريبة عند آخرين.
ولم يغير قائد الحركة الشعبية قناعته الراسخة بضرورة أن تكون الدولة السودانية علمانية بصورة واضحة، والتمسك بقواته لحين دمجها في الجيش الوطني بالصيغة التي تريحه، والتلويح بحق تقرير المصير لو أخفقت التفاهمات في تحقيق الشراكة.
ويشير مراقبون إلى أن ما حققه الحلو أخفق في تحقيقه من قبل الأب الروحي للحركة الشعبية الراحل جون قرنق، الذي خاض حروبا طويلة للوصول إلى هذه النتيجة بلا جدوى، وأدى فشله إلى انفصال جنوب السودان.
لكنْ أكد هؤلاء أن الأجواء السياسية متباينة، فالنظام الحاكم خلال فترة كفاح كل قائد (قرنق والحلو) طروحاته مختلفة، ذلك أنه في عهد عمر البشير كان النظام إسلاميا، واختار الانفصال عن العلمانية، بينما السلطة الحالية جاءت من رحم ثورة طالبت بتجاوز أخطاء النظام السابق وإعلاء قيمة المواطنة.
واعتبر القيادي في قوى الحرية والتغيير شريف محمد عثمان أن إعلان المبادئ “انتصار لثورة ديسمبر المجيدة من حيث تحقيق أهدافها وشعارها (حرية سلام عدالة)، ودليل على وحدة السودان وقواته المسلحة والحفاظ على الحقوق لجميع المواطنين، وهو نصر سياسي كبير لحكومة الفترة الانتقالية ويستحق الاحتفاء”.
وأضاف عثمان في تصريح لـ”العرب” أن “مجمل القوى السياسية الوطنية رحبت بالإعلان، بعد أن سئمت الخطابات الأيديولوجية، والشعب يتطلع للسلام وإيقاف الحرب ويدرك تمامًا أن شعارات تيار الإسلام السياسي أقعدت السودان ومواطنيه طيلة ثلاثة عقود، لذلك فالجميع قلوبهم وآفاقهم مفتوحة لعهد جديد يمثل قطيعة مع سنوات الحرب والظلام السابقة”.
وجاء التوقيع على إعلان المبادئ عقب سلسلة من الاجتماعات عقدت الأيام الماضية في جوبا تحت رعاية رئيس جنوب السودان سلفا كير، وبعد فترة مراوحة بين قبول ورفض لرؤية الحلو، ما يفتح الطريق أمام استئناف المفاوضات مع الحركة لتلحق بحركات مسلحة وقعت على اتفاق سلام وباتت جزءا من السلطة.
وشدد الإعلان على أن يكون للسودان جيش قومي مهني واحد “يعمل وفق عقيدة عسكرية موحدة جديدة، ويلتزم بحماية الأمن الوطني وفقا للدستور، على أن تعكس المؤسسات الأمنية التنوع والتعدد ويكون ولاؤها للوطن وليس لحزب أو جماعة”.
وجرى الاتفاق على ترتيبات انتقالية بين الطرفين، تشمل الفترة والمهام والآليات والميزانيات وغيرها، ووقف دائم لإطلاق النار عند التوقيع على الترتيبات الأمنية المتفق عليها كجزء من التسوية الشاملة للصراع في السودان.
وألمحت قوى سودانية إلى أن إعلان المبادئ خرج للنور نتيجة ضغوط داخلية وخارجية، وتغير موقف المكون العسكري من العلمانية جاء قسريا ما يعرّض الإعلان لمطبات سياسية.
وقال المحلل السوداني خالد سعد إن إعلان المبادئ “اتفاق سياسي مؤقت وليس من أهدافه حسم القضايا المرتبطة بالتوافق على دستور يحكم السودان لفترة دائمة، ووقع بسبب ضغوط مرتبطة بأجندة حكومة الفترة الانتقالية حسب الوثيقة الدستورية التي تنص على الوصول إلى اتفاق سلام شامل مع كل الحركات المسلحة”.
وذكر سعدان في تصريح لـ”العرب” أن الاتفاق جاء أيضا نتيجة ضغوط خارجية مارستها قوى إقليمية ودولية على السلطة والحركات غير الموقعة على اتفاق جوبا لتحقيق توافق سياسي يسمح بمشاركة جميع قوى التمرد السابقة في الحكم، بما يسهم في إنهاء الصراعات المسلحة.
وأصبح التوصل إلى اتفاق نهائي مع حركة الحلو مرهونا بقيام مؤتمر نظام الحكم للوصول إلى دستور دائم يحسم القضايا الكبرى المختلف عليها بين السودانيين.
العرب