لماذا بقيت روسيا معضلة الولايات المتحدة ماضيا ومستقبلا؟

لماذا بقيت روسيا معضلة الولايات المتحدة ماضيا ومستقبلا؟

رغم أن نجاح الرئيس فلاديمير بوتين في تغيير روسيا وجعلها لاعبا رئيسيا على الساحة الدولية، في غضون عدة سنوات، قد أزعج الغرب عموما والولايات المتحدة بشكل خاص، فإن المحللين يقفون على النقيض من ذلك تماما حيث تتشكل لديهم حقيقة مفادها أنه لا يجب استنقاص إمكانات الروس وتجاهل قدرتهم على رسم الخارطة الجيوسياسية في العالم.

واشنطن – تظل الخلافات القائمة بين روسيا والغرب مشكلة تؤرق كلا الجانبين، نتيجة التباين في المصالح تارة، والصراع على النفوذ تارة أخرى، فبينما تتمثل استراتيجية الروس في ظل الرئيس فلاديمير بوتين في استعادة حدود الاتحاد السوفييتي القديم ومناطق الظل الخاصة بهم بشكل ما، يسعى الغربيون إلى ثنيهم عن ذلك.

وتسير العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا تحديدا، على نفس القدر من السوء، الذي كانت عليه في آخر سنوات الحرب الباردة، أي أثناء رئاسة ليونيد بريجنيف والولاية الأولى لإدارة الرئيس الراحل رونالد ريغان، وهو الوقت الذي اعتقد فيه الكثير من الأميركيين والأوروبيين بأن خطر حدوث المزيد من التدهور أو حتى الحرب كانت حقيقية.

واليوم، يعتبر الرئيس جو بايدن من أكثر المناهضين لبوتين، فقد كان مكلَّفا من طرف الرئيس الأسبق باراك أوباما بمفاوضة الكونغرس لتمرير معاهدة “ستارت” جديدة لخفض الرؤوس النووية بين البلدين، بمعنى أنه كان معنيا بشكل مباشر بالتعامل مع الرئيس الروسي.

والعلاقات الشخصية بين بايدن وبوتين، والتي توترت خلال الفترة الأخيرة بعد تصريحات الرئيس الأميركي التي هاجم فيها الرئيس الروسي، شبيهة بالعلاقة بين أوباما وبوتين، وهي علاقة كانت تخلو من الثقة المتبادلة.

ونظرا لأن الخلافات ستكون عملية طويلة، ودون فائز واضح، فإن روبرت كابلان الخبير بمعهد أبحاث السياسة الخارجية في الولايات المتحدة يعتقد أن للدبلوماسية والتسوية دورا مهما، لأنه حتى في ظل وجود نظام روسي أكثر ليبرالية، ستظل موسكو لديها مصلحة ذاتية في توسيع نفوذها خارج مناطقها الحدودية.

ويشرح كابلان في تحليل نشرته مجلة “ناشونال إنتريست” الأميركية، بالقول إن “كفاح الغرب وإحباطاته وإخفاقاته وأحلامه في ما يتعلق بروسيا جزء من قصة قديمة، وإنها ستستمر في المستقبل”. ويدلل دخول روسيا إلى الشرق الأوسط على قوة عظمى صاعدة، وليست منحدرة، كما أن تعامل ألمانيا مع روسيا وخاصة إذا ما تعلق الأمر بمشروع “نورد ستريم 2”، الذي تحاول واشنطن عرقلته يعطي بعدا إضافيا على ذلك.

وقد افترض الأميركيون ذات مرة أن تورط موسكو العسكري في سوريا سيكون بمثابة عقاب لها بنفس الطريقة التي يعاقب العراق الأميركيين. لكن الروس تعلموا درسا مختلفا مفاده عدم الدفع بأعداد كبيرة من القوات البرية بحيث يكون ثمن المغامرة العسكرية في هذا العالم منخفضا للغاية في الواقع، وهو أمر يمكن تطبيقه بشكل مفيد في التدخلات المستقبلية.

ويعتقد المحلل الأميركي أن قدرة روسيا على تشكيل “عالمنا الجيوسياسي” ليست جديدة فقد كانت هزيمة روسيا على يد القيصرية الألمانية، هي التي عجّلت بالثورة الروسية، التي غيّرت في المقابل القرن العشرين بشكل جذري. وأدى انتصار الاتحاد السوفييتي في ستالينغراد عام 1943 في النهاية إلى هزيمة هتلر وانقسام أوروبا في إطار الحرب الباردة.

ونتيجة ذلك، شكل الاتحاد السوفييتي عنصرا أساسيا فيما آلت إليه نتائج الحرب العالمية الثانية بدرجة لم تصل إليها الولايات المتحدة. وقال كابلان “لقد كان الانهيار الداخلي للاتحاد السوفييتي هو الذي وصل بالحرب الباردة إلى نهاية مظفرة للغرب”.

وكان فشل الغرب في تسعينات القرن الماضي في إعادة تشكيل روسيا المهزومة بقوة على شاكلته من الناحيتين السياسية والاقتصادية، وهو إخفاق يعادل في نطاقه فشل نابليون، هو الذي أدى مباشرة إلى وجود نظام بوتين الاستبدادي الانتقامي.

ومن هنا تشكل انطباع لدى كابلان بأن روسيا أثبتت دائما أنها جسر بعيد للغاية عما يصممه الغرب الحديث، وهذه نقطة يرى أنه لا بد من قبولها، فإدانة بوتين بسبب انتهاكاته لحقوق الإنسان هي مجرد أسلوب لبق، لكنه لن يبدد القلق في ما يتعلق بمواجهة معضلة روسيا الأبدية.

وتبدو الحقيقة المؤلمة أنه لا يجب ردع بوتين وإدانته أخلاقيا فقط، بل يجب الانخراط معه أيضا، لأن فرص تغيير نظامه على النمط الغربي شبيه بإعادة تشكيل روسيا في التسعينات، أو قيام نابليون أو هتلر بإضافة روسيا إلى إمبراطورتيهما.

وتتشابك روسيا مع أبرز الجهات الفاعلة على المستوى الجيوسياسي في العالم، فهي مهمة لألمانيا أيضا، أقوى دول الاتحاد الأوروبي، ويتضح ذلك من خلال حرص الألمان على استكمال خط أنابيب الغاز الطبيعي “نورد ستريم 2”.

وليس بالضرورة أن يشكل المشروع أمرا حيويا للاقتصاد الألماني، حيث يمكن للألمان، إذا لزم الأمر، الحصول على الغاز من شبكة خطوط الأنابيب الناشئة بالبحر المتوسط وأيضا من أميركا الشمالية عن طريق محطات تحويل الغاز، بل يرغبون في ذلك لأنه سيزودهم بإمدادات طاقة رخيصة ومباشرة نسبيا ويثبّت علاقتهم السياسية مع روسيا، البلد الذي يعتبرونه أكبر من أن يتغير أو يهزم.

وقد وصل الألمان إلى صيغة للتعامل مع روسيا، حيث قاموا بما في وسعهم لدعم المعارض الروسي أليكسي نافالني ضد بوتين، لكن دون إلغاء مشروع “نورد ستريم 2”، وهذه استراتيجية يمكن لبوتين التعايش معها.

ويدرك الألمان أن هناك حدودا لما يمكن تحقيقه مع موسكو، حتى وهم يعرفون أنهم لا يواجهون تهديدا عسكريا من ناحيتها. ويشير كابلان إلى أن السلوك الألماني يعكس الواقع المأساوي الأساسي للعالم، وهو الاعتراف العلني بحقوق الإنسان، والمدعوم بسياسة واقعية غير معلنة وقاسية.

ويرى كابلان أن الأميركيين يخدعون أنفسهم بالنظر إلى روسيا على أنها قوة متدهورة، وبالتالي يعتقدون أنه ليس عليهم أن يتصالحوا معها كما فعل الألمان. وقال “لا ينبغي استبعاد القوة الروسية، فبالإضافة إلى قدرتها الواضحة على شن هجمات إلكترونية ضخمة، والتدخل في العملية الانتخابية الأميركية، وتزويد جزء كبير من العالم بالنفط والغاز، تعد روسيا أيضا أكبر مصدر للحبوب في العالم”.

وعلاوة على ذلك، تبيع روسيا على نطاق واسع محطات الطاقة النووية ومواد البناء والنيكل والألماس ومعدات التعدين المتقدمة والأسلحة عالية التقنية، كما تشير إلى ذلك كاثرين ستونر الخبيرة في الشؤون الروسية، ونائب مدير معهد فريمان سبوغلي بستانفورد.

وفي المحصلة، فإن روسيا ليست على وشك الانهيار، أو حتى يمكن إخضاعها بشكل كبير، وسيستمر بوتين في تحسس الفرص حيثما رآها سانحة. وحتى إذا أصيب بمرض أو ترك السلطة، فمن الخطير الافتراض بالضرورة أن نظاما أفضل سيتبعه. ولكن يمكن أن تنهار روسيا أو تسقط في أيدي قوميين متحمسين أقل مسؤولية من الزعيم الحالي.

ووفق كابلان، يعتبر الوضع الآن بين واشنطن وموسكو غير مستقر على نحو خاص، ويعود ذلك جزئيا إلى أن الغرب وسع نطاق حلف شمال الأطلسي (ناتو) في جميع أنحاء حلف وارسو السابق، لأنه وسع عضويته على وجه التحديد لتشمل دول البلطيق الثلاث التي كانت في السابق جزءا من الاتحاد السوفييتي وحدودها قريبة بشكل خطير من سانت بطرسبرغ وموسكو. وهذا في نظر بوتين يعد استفزازا تاريخيا وجغرافيا يجب أن يعمل باستمرار على تقويضه.

العرب