التدين في نسخته السلفية يُخلخل كيان الأسر العربية

التدين في نسخته السلفية يُخلخل كيان الأسر العربية

ساهم تحول بعض أرباب الأسر إلى ما يُسمى بالالتزام الديني في نسخته السلفية إلى خلخلة العلاقات العائلية، بسبب رغبة هؤلاء السلفيين في تحويل ذويهم إلى مُتدينين وفق مفهومهم الخاص عن التّدين، ما دفع الكثيرين إلى تبني أفكار عدائية تجاه الدين ووصل الأمر إلى حد الإلحاد.

أضحت موجات التدين المفاجئة محل ريبة وقلق لدى الكثير من الأسر، وتحمل في طياتها انعكاسات غير معتادة على كيان الأسرة في المجتمعات العربية المعاصرة.

وساهم تحول بعض الأفراد العاديين إلى ما يُسمى بالالتزام الديني في نسخته السلفية في خلخلة العلاقات العائلية، بسبب رغبة السلفي في تحويل ذويه إلى مُتدينين وفق مفهومه عن التّدين.

ومن هنا يعدّ تحوّل أي فرد من أفراد الأسرة إلى التدين السلفي بسماته الظاهرة، وتقديم صورة عامة للناس، أمرا شديد الوطأة على أفراد عائلته، فصاحب القناعة السلفية يصطدم في الكثير من الأحيان برغبة البعض من أفراد العائلة بممارسة حرياتهم الشخصية وفق منظورهم الخاص، ويرفضون أي قيود تحد من حقوقهم الشخصية.

ويعد تحول أرباب العائلات من الأزواج هو الأكثر تأثيرا على المحيط الاجتماعي، نظرا لما يُمثله موقع الأب من شعور بالسلطوية والمسؤولية الأخلاقية تجاه باقي أفراد الأسرة.

تحول مدمّر
العديد من الأسر تأثرت بالاتجاه العقائدي المتزمت للسلفيين الذين يتبنون أفكارا متشددة، ولا يسمحون لأفراد عائلاتهم بالتعبير عن وجهات النظر المخالفة لهم

تمثل (ن. أ) وهي مُدرسة تعيش مع أسرتها بالقاهرة، حالة كاشفة لهذه الظاهرة، حيث كانت تعمل منذ عشر سنوات في إحدى المدارس الخاصة، وتشارك في تحمل أعباء الأسرة، ولاحظت تغيرا طارئا على زوجها قبل بضعة أشهر بعد أزمة حادة واجهها في عمله غير المنتظم.

وكما هو معتاد في مثل هذه الأزمات، كان من أبرز نتائجها ظهور موجة تدين مفاجئ على الزوج وارتياده أحد المساجد القريبة من المنزل للصلاة فيها وإطلاق لحيته، ولم يكن ذلك من المستغرب على المحيطين بهما، فكثيرا ما يعتبر أصحاب الهموم الصلاة والتدين مُعينا على همومهم.

لكنّ مردّ قلق الزوجة كما تحكي لـ”العرب”، هو إصرار زوجها على تغيير سلوكيات جميع أفراد الأسرة، ليس من باب النصح والإرشاد، وإنما من باب الإلزام وتعلات التحريم.

وتقول السيدة التي رفضت ذكر اسمها، إن زوجها يحاول إجبارها على التخلي عن العمل، ثم تطور الأمر إلى مطالبته لها بارتداء النقاب، مُكررا في العديد من المناسبات “أن الفتن التي تكبل الحياة المعاصرة تجعل بقاء النساء في بيوتهن أمرا واجبا”.

وبعد مجادلات ومناقشات مستفيضة، اختارت الزوجة في النهاية الرضوخ لإلحاح زوجها، وكان من نتائج ذلك تأثر دخل الأسرة بشكل كبير وفقدان الكثير من الجوانب الترفيهية التي كان يحظى بها الأبناء، فضلا عن مرورها بفترات اكتئاب نتيجة انقطاعها المفاجئ عن محيط العمل واللقاء بزميلات وزملاء العمل.

مع ذلك لم يكتف الزوج بمنع زوجته من العمل، بل أصر على قطع دروس الموسيقى التي كانت ابنته تتلقاها على مدار عدة سنوات رغم براعتها في العزف، متعللا بحرمة الموسيقى والغناء في الدين الإسلامي.

كما ألزم باقي أفراد الأسرة بعدم مشاهدة الأفلام السينمائية والمسلسلات على منصات إلكترونية، فشعر ت الأسرة بالضيق والتململ من تعميم آراء وأفكار التدين السلفي، مع أنهم نشأوا وتربوا جميعا في بيئة لم تشهد في البداية إجبارا على أي أمر.

وأكدت الزوجة أن إصرار الزوج على تسطير حياتهم والتدخل في جميع سلوكياتهم وتقييده لحرياتهم الشخصية، أدى إلى تدهور العلاقة بينه وبين أبنائه، وبات البعض منهم يحاولون إرضاءه في وجوده، لكنهم يتصرفون كما يشاؤون عندما يغيب، ومثل هذا الأمر أحدث فجوة بين الأبناء ووالدهم وشرخا كبيرا في العلاقة الأسرية ككل وضعف الحب والرابط العائلي القوي، رغم أن الأسرة كانت في بدايتها متماسكة ومبنية على الصراحة.

ما تعيشه هذه السيدة، يتكرر أيضا في عدة عائلات عربية عديدة وإسلامية، تأثرت بهذا الاتجاه العقائدي المتزمت للعديد من السلفيين الذين يتبنون أفكارا متشددة ويتقيدون بقواعدهم وقوانينهم، ولا يسمحون لأفراد الأسرة بالتعبير عن وجهات نظرهم المخالفة لهم، بل يلزمونهم بالطاعة العمياء لما يؤمنون به من أفكار، معتقدين أن نشر هذا الإسلام يجب أن يكون في بيوتهم أولا، قبل المجتمع.

وفي بعض العائلات قد يرفض الأبناء فكرة إرضاء الأب، ويصل الأمر إلى حد الصدام العنيف معه، فالأبناء يرون أن تدين الوالد وانتهاجه للطابع الإسلامي المتشدد، يجافي ما سبق وغرسه فيهم من قيم أخلاقية وتصورات منفتحة على الإبداع والانفتاح.

ماذا تعني الأسرة للسلفي؟

ويمكن أن ينتهي هذا الصدام بتفكك الأسرة ومغادرة بعض أفرادها للبيت أو معاناتها من تشتت وتضارب فكري في المفاهيم، ما يدفع البعض أحيانا إلى تبني أفكار عدائية تجاه الدين ذاته، نظرا للقيود التي يفرضها عليهم طوق التحريم الجديد الذي يفرض عليهم الكثير من القيود ويحرمهم من التطلع نحو مظاهر الحياة العصرية من حولهم، ما يدفع عددا من الشباب إلى النفور العام من المعتقدات الدينية، وربما يصل بهم الأمر إلى الإلحاد.

وأوضح محمد إبراهيم الباحث المتخصص في التراث الديني لـ”العرب”، أن الكثير من حالات الإلحاد في المجتمعات العربية تنشأ في أسر تعاني من تفكك أسري، وتناقضات فكرية واسعة بين أفرادها.

والمعتاد في هذا الأمر أنه غالبا ما تنتج عن تبني الزوج للتدين بصورته السلفية نشوب خلافات واسعة بين الزوجين اللذين يفقدان فضيلة التوافق والتقارب ويتربص كل منهما بالآخر، وقد يتطور الأمر ليصل إلى الانفصال التام.

وشهدت السنوات الأخيرة ارتفاعا في مؤشرات الطلاق في العالم العربي، وفسر البعض ذلك بأن الحالة الاقتصادية المتردية كانت عاملا أساسيا في تكرار الخلافات بين الأزواج والوصول إلى الطلاق، لكن هناك من يرون أن التحولات الفكرية والدينية تساهم أيضا وبشكل كبير في توسيع حدة الخلافات وخروجها عن السيطرة.

ويشير البعض من الخبراء إلى أن هناك ارتباطا واضحا بين فكرة الجنوح الطارئ للسلفية وارتفاع حالات الطلاق في معظم الدول العربية، خاصة بسبب أن تغير السلوك وصعوبة التفاهم بين الزوجين بعد تحول أحدهما إلى الفكر السلفي، وبالأساس الزوج المتشبث بالسلفية في طريقة نظرتها للمرأة.

صدامات واسعة
وفي مصر التي شهدت مدا سلفيا، كشفت أحدث الإحصائيات الرسمية، أن حالات الطلاق تسجل نحو مئتي ألف حالة سنويا، ونفس الأمر يتكرر في المغرب الذي ارتفعت فيه أرقام الطلاق إلى نحو مئة ألف حالة، وبلغت في الجزائر نحو سبعين ألف حالة، ورصدت تقارير إحصائية ارتفاعا في حالات الطلاق في كل من لبنان والأردن.

ولا تشكل الظاهرة أزمة بالنسبة للجماعات الإسلامية، بدءا من الإخوان ووصولا إلى مختلف جماعات التطرف، إنما تنشأ المشكلة في الغالب مع أولئك الذين لم يشبوا على أفكار متشددة، وإنما تسربت إليهم في مراحل لاحقة.

وهؤلاء يكونون أشد تمسكا بأفكار السلفية ربما أكثر من أصحابها الأصليين، اعتقادا بأنهم عرفوا طريق الهدى بعد سنوات طويلة من الضلال وصاروا من المطالبين بالتمسك بذلك المفهوم المتزمت عن الدين.

ويؤكد بعض الخبراء والمتابعين، أن أفراد جماعات الإخوان والسلفيين وغيرهما، لا يتزوجون في الغالب إلا من أمثالهم ممن يحملون الأفكار ذاتها، ما يجعلهم يتجنبون أي مشكلة عارضة تؤثر على كيان الأسرة، لأنهم بالفعل من البداية متفقون على طريقهم وتصورهم عن المرأة وتحريمهم للموسيقى، أو تجنبهم للفنون الجميلة أو غيرها من التوجهات المناقضة للحداثة والمدنية.

القمع المقدس
وفسر حسن حماد أستاذ الفلسفة وعلم الجمال في كلية الآداب بجامعة الزقازيق شمال القاهرة، ذلك بأنه من النادر وجود سلفي أو إخواني يقترن بامرأة لا توافقه أفكاره وتصوراته الدينية، وبالطبع يتشرب الأبناء الأفكار ذاتها.

ولفت لـ”العرب”، إلى أن السلفيين عموما ليست لديهم مشكلات أسرية أكبر أو أعمق من بقية المجتمع، وربما يكمن الأمر هنا في محو شخصية المرأة وإحالتها إلى متاع، حيث تجبر على طاعة زوجها طاعة عمياء دون تفكير أو تدبر، بل تتحول تلك الطاعة إلى كونها جزءا من العبادة نفسها، وفي المجمل لا تتحرج النساء في ذلك المحيط الاجتماعي من الظهور بشكل ذليل ومزر، ويتصورن أنهن بذلك يرضين الله، وهو ما يمكن تسميته بـ”القمع المقدس”.

وأوضح حماد أن الصادم أو الموجع اجتماعيا هو كسر سمات الحياة الطبيعية لدى من لا يحملون تلك الأفكار، فتحولهم إلى سلفيين هو الذي يفتح أبواب الجحيم أمام الجميع، ويُسيء للدين ويسيء للمجتمع في الوقت ذاته.

ولا توجد مواجهة محتملة لتلك الظاهرة في نظر حماد، سوى من خلال المواجهة الشاملة للفكر الظلامي والتنديد به وفضحه ودحض تصوراته الرجعية عن الحياة والأسرة والمرأة والفنون والحياة الحديثة، يقول “إننا بحاجة إلى تكرار أن تلك القروسطية ليست هي الإسلام، إنما هي صناعة رجال دين منغلقين يعادون التطور والحياة”.

وكرر أستاذ الفلسفة الإسلامية في تصريحات لـ”العرب”، أن ما يجب فعله والاحتشاد من أجله هو ضرورة قطع الطريق أمام تيارات السلفية ودعاياتهم المعروضة باعتبارها الدين الصحيح في كل مكان، وعدم السماح لهم بحرية الحركة وسط مجتمعات غير متعلمة، تعاني من الفقر والحرمان.

ومن الضروري التأكيد على مدنية الحياة الثقافية والسياسة والاجتماعية في المجتمعات العربية وعدم التورط في المزايدة على المتظاهرين بالتدين.

وأدى شيوع الظاهرة وتكرارها إلى تحولها لسمة ثابتة في الكثير من الأعمال الدرامية والفنية الحديثة المعنية بظاهرة التطرف.

وذكرت الناقدة الفنية حنان أبوالضياء أن الدراما والسينما في مصر التفتتا باهتمام كبير للظاهرة وآثارها مبكرا، وحاولتا تركيز الضوء عليها نظرا لخطورتها على بنية المجتمع ككل، فمنذ عام 2013 هناك اهتمام فني كبير بذلك، فمثلا استعرض مسلسل “بدون ذكر أسماء” للكاتب الراحل وحيد حامد، وإخراج تامر محسن، وبطولة أحمد الفيشاوي وروبي، كيفية تحول العامة تدريجيا إلى متعصبين يرفضون منجزات الحضارة ويعادون الحياة الحديثة.

وحاول مسلسل “دنيا جديدة” تأليف مصطفى إبراهيم، ومن إخراج عصام شعبان، بطولة أحمد بدير ومحمد نجاتي، تقديم الإطار الحاكم للتحول الجاري في شخصيات العامة نحو التطرف عبر مخطط يتم تفعيله وتنفيذه بدقة.

وأضافت أبوالضياء لـ”العرب”، أن المُجتمعات التحتية أكثر تعرضا لجنوح أفرادها نحو التشدد الديني والانغلاق التام عن الحياة الحديثة.

لكن في المجمل، فإن الفن والثقافة وحدهما لن يوقفا شلال التسلفن المستشري في ظل غياب الأجهزة الحكومية والمؤسسات عن الطبقات الأدنى اجتماعيا، ما ينبه إلى ضرورة الالتفات للأمر والتعامل معه باهتمام كبير.

 

العرب