على الرغم من المحاولات التي يبذلها الرئيس الإيراني حسن روحاني، المحسوب على ما يسمى بالشق المعتدل، لإقناع الغرب بأنّ بلاده ملتزمة بكافة بنود الاتفاق في سياق صراعه حول هذا الاتفاق مع شقّ المتشددين في مجلس الشورى الإيراني، وقادة الحرس الثوري الإسلامي، الذين يرفضون تقديم تنازلات تتعلق أساسا بفتح المنشآت العسكرية أمام المفتشين الدوليين، إلاّ أنّ الخطوات الإيرانية الأخيرة التي سلمت بموجبها طهران عينات من موقع بارشين العسكري إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية دون حضور مفتشين دوليين لا تعكس ذلك الالتزام، خاصة أنها تتزامن مع تواتر تصريحات المرشد الأعلى علي خامنئي التي لا تكاد بدورها تتقارب مع رؤية روحاني حتى تبتعد وتختلف عنها سريعا إلى حدّ التناقض، لتصب في صالح الموقف المتشدد، وتزيد من سيل الشكوك المحيطة بمدى التزام طهران بالاتفاق.
وكان المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي قد صرّح في مناسبات عديدة بأنّه سوف يتمّ التراجع عن كل الرّهانات حول هذا الاتفاق إذا ما حاولت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إعادة فرض العقوبات، مشددا على أنه “إذا لم يتم رفع العقوبات، لن يكون هناك اتفاق. وبالتالي، هناك حاجة إلى أن يتم اتخاذ قرار في هذا الصدد”.
التزام مشكوك فيه
لطالما هدّد علي خامنئي في أكثر من مناسبة بأنّ إيران لن تتخلّى عن طموحاتها النووية إن كان رفع العقوبات أمرا مؤقّتا. وأوضح قائلا “لقد فاوضنا على إطار رفع العقوبات، بل وإلغائها بشكل عام، فهل من المفترض أن تبقى في مكانها؟ خاصة أنني لا أعرف ماذا يقصدون بإطار العقوبات”. وأضاف “عليهم أن يحددوا ذلك بطريقة مختلفة في المستقبل، ولكن ما نفهمه من بياناتهم هو مُخالف تماما للسبب الذي دفعنا للمشاركة في المفاوضات، وإلا لما كنا نحتاج إلى التفاوض”.
وكان البرلمان الإيراني، قد اشترط في أبريل الماضي، الرفع الفوري لجميع العقوبات المسلّطة على الجمهورية الإسلامية من أجل التوصل إلى أي اتفاق. ولا تزال هناك معارضة لبند الارتداد العاجل في الاتفاق داخل البرلمان الإيراني إلى غاية اليوم، حيث قال نائب وزير الخارجية الإيراني سيد عباس عراقجي، خلال مناقشات أعضاء البرلمان الإيراني الأسبوع الماضي، إنّ “فرضية انسحاب أحد الجانبين من الاتفاق قائمة إذا ما قرّر أحدهما انتهاك بنوده”.
وقال عراقجي إنّ “الالتزام بالاتفاقية الشاملة للبرنامج النووي الإيراني هي قضية ذات وجهين، كل جانب يمكنه أن يلغي الاتفاقية، ولكن هذا من شأنه أن يؤدي إلى خروج الطرف الآخر من الاتفاق”.
رئيس البرلمان الإيراني علي لاريجاني، قال بدوره لشبكة أن.بي.أر الإعلامية إنّ بلاده لديها تفسير يختلف عن التفسير الأميركي للاتفاق، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالعقوبات. في حين يقول مسؤولون في وزارة الخارجية الأميركية إنهم “يمتلكون خططا بديلة لضمان تعليق العقوبات على نحو فعال، واستردادها العاجل في المستقبل”.
وقال الخبير والمحلل السياسي الأميركي جيمس فيليبس، لمشروع تقصي الإرهاب إنّه “بالإضافة إلى إمكانية الارتداد العاجل في فرض العقوبات، يخشى المرشد الأعلى وغيره من الزعماء من عقوبات جديدة محتملة ردا على دعم إيران للإرهاب واحتجاز الرهائن الأميركيين الأربعة”.
بدوره قال السفير الأميركي السابق لدى الأمم المتحدة جون بولتن إنّ القيادة الإيرانية تنظر إلى الاتفاق كوسيلة لرفع العقوبات بشكل دائم والحفاظ على برنامجها النووي.
وأضاف بولتن “إنّ من يسمون بالإيرانيين المعتدلين يريدون رفع العقوبات أكثر من المتشددين، ولكن لا أحد منهم على استعداد لمناقشة التنازلات بشأن برنامجهم النووي، وهم يطمحون إلى إنجاز ما يريدون في حال تم رفع العقوبات ورفع التجميد على الأصول، دون تقديم تنازلات كبيرة بشأن برنامجهم”.
وكان عدد من القادة الإيرانيين قد أعربوا في وقت سابق عن “انتصارهم على الغرب بالتراجع عن العقوبات”، حيث سبق للاريجاني أن قال لوكالة مهر الإيرانية للأنباء في غرة سبتمبر الجاري، “إنّ العقوبات لا يمكن استخدامها بشكل فعال كسلاح أو أداة للبلطجة”. في حين وصفت وزارة الخارجية الإيرانية الاتفاق بـ”أنه نصر لأن الولايات المتحدة اعترفت بحق إيران في تخصيب اليورانيوم”.
وبالتوازي مع الجدل المحتدم في إيران بشأن الاتفاق النووي، يواصل القادة الإيرانيون اعتماد خطاب مناهض للولايات المتحدة، حيث أكد خامنئي في خطاب ألقاه في التاسع من سبتمبر الجاري، أنه مازال ينظر إلى أميركا باعتبارها “الشيطان الأكبر”، معتبرا أنّ بلاده طردت أميركا في ثورة عام 1979، وأنها لن تسمح لها بالعودة إلى أراضيها. وقال “والآن، بعد أن ألقيناها من الباب، يجب علينا ألا نسمح لها بالدخول من النافذة، ويجب ألا ندعها تخترقنا بسبب عدائها غير المتناهي لنا”.
وكان خامنئي قد أطلق على أميركا وإسرائيل تسمية “أعدائنا” في خطاب له في الـ27 من أغسطس الماضي، خلال مناقشة مشاكل إيران الاقتصادية. وفي وقت سابق من شهر أغسطس كذلك، ادعى أنّ إيران صدت الجهود الأميركية لممارسة نفوذها عبر استخدام العقوبات ومزّقت أي آمال للتقارب الأميركي الإيراني.
ويبدو من خلال هذه التصريحات أنّ العداء الذي تكنّه إيران للولايات المتّحدة ما زال يهيمن على خطابات المرشد الأعلى التحريضية، ما يثير الكثير من الشكوك حول التزامه ببنود الاتفاق النووي، حيث أعلن بالقول “لن نسمح للأميركيين بأن يكون لهم نفوذ اقتصادي أو سياسي في بلادنا، ولن نسمح لهم بالتواجد السياسي والتأثير الثقافي في بلادنا. وسوف نتصدى لهم بكل ما أوتينا من قوة، والتي تعد في الوقت الحاضر كبيرة ولله الحمد. ونفس الشيء ينطبق على باقي المنطقة”.
استراتيجية الخداع
تفيد المعطيات الأخيرة المتعلقة بالعينات التي قدمتها إيران إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والطريقة التي تمّ بها اختيار تلك العينات وحتى طريقة تسليمها، بأنّ الجدية ما زالت غائبة عن الجانب الإيراني في ما يتعلق بتطبيقه للشروط الرقابية التي نص عليها الاتفاق النووي الأخير. وهناك علامات تشير بالفعل إلى أنّ إيران غير مستعدة للسماح لمفتشي وكالة الطاقة الذرية بالنفاذ غير المشروط إلى مواقعها النووية، الذي قال عنه مسؤولون أميركيون بأنه جزء من الاتفاق. وهو ما يمكن أن يقوض ادعاء باراك أوباما بأن الاتفاق “غير مبني على الثقة بل على التحقق”.
وقال وزير الدفاع الإيراني حسين دهقان، في وقت سابق من هذا الشهر، “إن إيران لا تخطط لإصدار إذن للوكالة الدولية للطاقة الذرية لتفتيش كل موقع”. وفي يوليو الماضي، أفاد دهقان أنّ “إيران سوف تمنع عمليات التفتيش في العديد من مواقعها العسكرية وأنّها لن تسمح لأي أجنبي باكتشاف القدرات الدفاعية والصاروخية لبلاده”، وهي على ما يبدو رسالة واضحة من إيران بعدم الالتزام من شأنها أن تؤكّد مصداقية الشكوك التي أعلنت عنها القوى الدولية والإقليمية الرافضة لهذا الاتفاق على غرار المملكة العربية السعودية، وفق مراقبين. وكان أحد مساعدي خامنئي، قد صرّح لوسائل إعلام دولية، بعد 11 يوما من إعلان الاتفاق، أنّ “نفاذ مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية أو أي جهة أخرى لمراكز عسكرية إيرانية يعتبر أمرا ممنوعا”.
وبدوره قال جون بولتن إنّ الرئيس الإيراني حسن روحاني تفاخر سابقا بكيفية خداع بلاده للعالم بعد توقفها المزعوم عن تخصيب اليورانيوم في عام 2003.
وقال إن روحاني “ألقى خطابا في إيران بالفارسية تحدث فيه حول كيفية خداع بلاده للأوروبيين بين عامي 2003 و2004 بشأن إسداء أوامر بوقف الأنشطة المتعلقة بتخصيب اليورانيوم، وسلسلة من الخطوة الأخرى التي تم اعتمادها لإظهار حسن النية، في حين لم يكن ذلك صحيحا”. وأضاف بولتن “كلّ هذه المؤشرات تدلّ على أنّ المعتدلين يملكون نفس النظرة والحماس الذي يحدو خامنئي بشأن البرنامج النووي الإيراني”.
وكانت إيران قد بذلت، خلال العقد الماضي، كل ما في وسعها لعرقلة جهود التفتيش التي تقوم بها الوكالة. وفي يونيو 2004، وبّخت الوكالة التابعة للأمم المتحدة إيران على عدم امتثالها للمعايير الدولية. ثم فنّد المدير العام للوكالة حينها محمد البرادعي ادعاء إيران بأن برنامجها النووي كان لأغراض سلمية، مشيرا إلى أن المفتشين عثروا على جزيئات عالية التخصيب من اليورانيوم في عدد من المنشآت النووية الإيرانية.
ويتوقع بولتن أن إيران سوف تسيّر لعبة الخداع التي دأبت عليها بلطف في البداية، وتمتثل لبنود الاتفاق خلال الأشهر الستة الأولى أو نحو ذلك من أجل التوصل إلى رفع العقوبات والتجميد عن الأصول. ومع ذلك، سوف تقع الوكالة في ورطة “على الفور تقريبا”، حيث أنّ رفض إيران السماح بعمليات تفتيش في مواقعها العسكرية يترك الفرصة سانحة أمامها للاستمرار في العمل السري بشأن برنامجها النووي.
وأضاف قائلا “أعتقد أنّ مستوى التعاون الذي سوف تظهره إيران سوف يتراجع بمجرد رفع العقوبات، وأعتقد أننا مُتّجهون إلى العودة إلى مفاوضات لا نهاية لها، ويمكنك أن تستمع إلى وزارة الخارجية الأميركية والحلفاء الأوروبيين يقولون: هل كنا نريد حقا أن نتخلى عن اتفاقية فيينا بأكملها لمجرد ضوضاء على عدم امتثال مزعوم”؟
غير أنّ مُراقبين يرون أنّ الخطوة الأخيرة الّتي قام بها الإيرانيون ضاربين ببنود الاتفاق عرض الحائط، توحي بأنّ طهران قد بدأت بالفعل في استراتيجية الخداع منذ الآن ولن تنتظر رفع العقوبات أو انتهاء الأشهر الستّة الأولى.
على خطى الاتفاقيات السابقة
بموجب الاتفاق، يفترض أن تُخفض إيران من أجهزة الطرد المركزي من 19 ألف جهاز إلى حوالي 6 آلاف جهاز، إلى جانب الحد من تخصيب اليورانيوم إلى نسبة تفوق 3 بالمئة لمدة 15 عاما، وعدم بناء أي مرافق جديدة لتخصيب اليورانيوم لمدة 15 عاما، بالإضافة إلى الامتناع عن إنتاج المزيد من مفاعلات المياه الثقيلة في المستقبل. وقد قال مسؤولو وزارة الخارجية الأميركية للصحفيين، الأسبوع الماضي،إنه يتعين على إيران أن تظهر أنها أوقفت أنشطتها هذه قبل أن يتم رفع العقوبات.
وقد صرح السيناتور الأميركي جيمس لانكفورد، عن ولاية أوكلاهوما، في هذا الصدد، بأنّ نص الاتفاق يسمح لإيران بتأخير المفتشين مدة تصل إلى 24 يوما، مما يقوض قدراتهم على التحقق.
وقال نائب الرئيس السابق للوكالة أولي هاينونن، في يوليو الماضي، إن نوع المعدات المستخدمة في المواقع النووية الإيرانية السرية يمكن إزالتها بسهولة ونقلها إلى مواقع سرية أصغر خلال مدة التأخير التي تقدر بـ24 يوما. وخلال هذه المدة قد تقوم إيران بتطهير مواقعها السرية النووية عن طريق تركيب أرضيات جديدة، ووضع اسمنت جديد على الحائط، وطلاء الأسقف وإزالة التهوئة.
ويعتقد لانكفورد أنّ الوضع الذي سوف يسود في إطار الاتفاق سيكون أشبه بـ”لعبة الاختباء”، حيث يجب أن يبحث المفتشون عن “حل سحري” في بلد بحجم ولاية تكساس.
وأضاف أن “الكثير من العمل بشأن الأسلحة النووية لا يتمحور حول اليورانيوم بل حول تكنولوجيا التخصيب، والتي يتم إخفاؤها في جهاز كمبيوتر في مكان ما، وإذا كنت قادرا على القيام بذلك، فلا وجود لوسيلة حقيقية للتحقق منه. لذلك نحن بحاجة إلى التركيز على التحقق”. وأشار إلى أن كل شيء يتمحور حول سرعة التخصيب، ونوعية أجهزة التخصيب وأجهزة إحداث العملية وآليات التوزيع”. وكانت إيران قد منعت منذ سنة 2005 المفتشين من إجراء مقابلات مع علمائها النوويين ومن زيارة مواقعها البحرية مثل قاعدتها العسكرية في بارشين، التي ما تزال تثير جدلا.
وقد أكد رضا نجفي، سفير إيران لدى الوكالة الدولية، رفض بلاده للسماح بعمليات تفتيش في بارشين في أغسطس الماضي، رغم أن صور الأقمار الصناعية تظهر بناء جديدا أضيف إلى هذا الموقع. والذي أكد وجوده يوكيا أمانو المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية خلال زيارته الأخيرة إلى الموقع قائلا “داخل المبنى رأينا دلائل على تجديدات جرت في الآونة الأخيرة، ولكن لم تكن هناك أي معدات في المبنى”.
وهو ما يؤكد وفق مراقبين لعبة المخاتلة وإخفاء الآثار والدلائل التي تقوم بها إيران والنفاذ المقيد المفروض من قبلها على المفتشين الدوليين.
وكان النجيفي قد قال قبل مناورة تسليم العينات الأخيرة والسماح ليوكيا أمانو بزيارة الموقع، بشأن رغبة الوكالة في التفتيش في موقع بارشين، “إنّ إيران ليست بحاجة للحصول على إذن من الوكالة الدولية للطاقة الذرية للبناء في مواقعها”.
وشدد هينونين، بدوره، على أنّ تمكن الوكالة من النفاذ غير المقيد إلى جميع المواقع العسكرية الإيرانية أمر ضروري، لافتا إلى أنه ومن دون ذلك النفاذ، لا يمكن أن يكون عمل الوكالة ناجعا. وأضاف “ليست هناك طرق مختصرة هنا، إذا لم تستطع الوكالة فعل ذلك، فإنها لن تستطيع التحقق بالشكل المطلوب”.
وأضاف أنّ “الجزء الآخر من ضمانات الاتفاق يتطلب أن يتم الكشف عن كل المواد النووية في إيران لوكالة الطاقة الذرية، بغض النظر عن مكان وجودها، ويشمل ذلك أيضا الأنشطة والمواد في المواقع العسكرية. ويجب على إيران التعاون مع وكالة الطاقة الذرية”، مشددا على أنّ أي رفض للامتثال لعمليات التفتيش يشكل خرقا للاتفاق.
في حين أفاد فيليبس بأن الخطاب الإيراني حول وضع شروط على عمليات التفتيش، والخطوة الأخيرة التي تعلقت بتسليم عينات من موقع بارشين، يشيران إلى أنّ هذا الاتفاق سوف يسير على خطى الاتفاقات السابقة، مثل اتفاقية عام 2005 لتصدير اليورانيوم الإيراني المخصب التي ألغاها خامنئي.
وقال فيليبس إن الآمال في أن تلتزم إيران بالاتفاق بعد تأمين رفع العقوبات هو من قبيل “التمني” لأن الجمهورية الإسلامية تحفظت على الدوام وأعاقت عمليات التفتيش في الصفقات السابقة.
صحيفة العرب اللندنية