عدم قدرة الحرس الثوري الإيراني على إدارة الميليشيات الشيعية العراقية المتضخّمة حجما وعددا، وعدم التحكّم فيها بنفس القدرة والكفاءة كما كانت عليه الحال قبل مقتل الجنرال قاسم سليماني، وانكشاف تلك الميليشيات وأدوارها للداخل والخارج، وبروز إمكانية حدوث اختراقات في صفوفها، عوامل دفعت إيران إلى تقليل اعتمادها على الميليشيات الكبيرة والاستعاضة عنها بميليشيات مستحدثة أصغر حجما وأكثر موثوقية ونجاعة.
بغداد – شرعت إيران في تطبيق أسلوب جديد في استخدام الميليشيات في العراق وتوظيفها في مقارعة خصومها ضمن صراع النفوذ الذي تخوضه هناك، يقوم على تقليص الاعتماد على الميليشيات الكبيرة المعروفة وانتقاء صفوة من بين عناصرها لتشكيل فصائل أصغر حجما وأكثر نجاعة وموثوقية.
وجاء ذلك بعد أن ظهرت مشاكل في استخدام الميليشيات المعروفة بسبب تضخم حجمها وانكشاف أدوارها واستعصاء إدارتها على القيادة الجديدة لفيلق القدس ضمن الحرس الثوري الإيراني بعد مقتل الجنرال قاسم سليماني الخبير المتمرّس بشؤون الميليشيات وبطريقة التحكّم فيها، بالإضافة إلى شكوك في حدوث اختراقات في صفوف تلك الميليشيات قد تكون سهّلت الوصول إلى سليماني وتصفيته مطلع العام الماضي بضربة جوية بطائرة أميركية دون طيار قرب مطار بغداد الدولي.
وقالت وكالة رويترز في تقرير لها إنّ إيران شكلت فصائل جديدة في العراق تضم عددا قليلا من المقاتلين وإنّ تلك الفصائل المستحدثة هي المسؤولة عن الهجمات الأخيرة التي استهدفت مواقع عراقية يوجد فيها خبراء عسكريون أميركيون واستُخدمت فيها طائرات دون طيار.
وقال محرّرا التقرير جون دافيسون وأحمد رشيد استنادا إلى مصادر، بينها مسؤولون في العراق وقادة فصائل مسلّحة، إنّ إيران قلّلت الاجتماعات والاتصالات بينها وبين الفصائل الكبيرة وتوقفت عن دعوة قادتها إلى طهران، وإنّها انتقت المئات من المقاتلين الموثوق بهم من بين كوادر أقوى حلفائها في الميليشيات وشكلت فصائل نخبوية ومخلصة بشدة.
وتم تدريب الجماعات الجديدة العام الماضي على حرب الطائرات دون طيار والمراقبة والدعاية عبر الإنترنت والتواصل مباشرة مع ضباط في فيلق القدس.
وجاء التكتيك الإيراني الجديد ردّا على سلسلة من النكسات التي تعرّضت لها إيران في العراق وكان أشدّها وقعا وتأثيرا مقتل سليماني الذي كان يسيطر بشكل وثيق على الميليشيات الشيعية مخلّفا فراغا لم يستطع خَلَفه إسماعيل قاآني سدّه لقلّة خبرته بالساحة العراقية سياسيا وأمنيا.
كما تخلخل نفوذ الميليشيات العراقية الكبيرة وتسرّبت الخلافات إلى صفوفها بعد أن شملها الغضب الشعبي العارم في الانتفاضة التي اندلعت في خريف سنة 2019 وكان من ضمن أهداف مفجّريها الحدّ من النفوذ الإيراني في البلاد.
وينطوي التحول إلى الاعتماد على مجموعات أصغر على مزايا تكتيكية. فهي أقل عرضة للاختراق ويمكن أن تكون أكثر فاعلية في استخدام التقنيات المستحدثة لضرب خصوم إيران مثل الطائرات المسيرة المسلحة والمفخّخة.
ونُقل عن مسؤول أمني عراقي قوله إنّ الفصائل الجديدة مرتبطة مباشرة بالحرس الثوري الإيراني ويتلقّى قادتها أوامرهم منه وليس من أي جهة عراقية.
وأكد هذه الرواية مسؤول أمني ثان وثلاثة قادة لميليشيات أكبر وناشطة علنا ومؤيدة لإيران، وكذلك مسؤول حكومي عراقي ودبلوماسي غربي ومصدر عسكري غربي.
وقال أحد قادة الميليشيات الموالية لإيران “يبدو أن الإيرانيين شكلوا مجموعات جديدة من أفراد اختيروا بعناية كبيرة لتنفيذ هجمات والحفاظ على السرية التامة”، مضيفا “لا نعرف من هم”.
وقال مسؤولون أمنيون عراقيون إن ما لا يقل عن 250 مقاتلا سافروا إلى لبنان على مدى عدة أشهر في عام 2020، حيث قام مستشارون من الحرس الثوري الإيراني وجماعة حزب الله اللبنانية المسلحة بتدريبهم على قيادة الطائرات دون طيار وإطلاق الصواريخ وزرع القنابل والدعاية والتحريض عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وقال أحد مسؤولي الأمن العراقيين إنّ “الجماعات الجديدة تعمل سرا وقادتها غير معروفين وهم مسؤولون مباشرة أمام ضباط الحرس الثوري الإيراني”.
وقال مسؤولون أمنيون عراقيون ومصادر غربية إن الجماعات الجديدة تقف وراء الهجمات الأخيرة، بما في ذلك التي استهدفت القوات التي تقودها الولايات المتحدة في قاعدة عين الأسد الجوية العراقية ومطار أربيل الدولي ومواقع داخل السعودية، وجميعها استُخدمت فيها طائرات دون طيار محملة بالمتفجرات.
ولم يستبعد المحلل السياسي العراقي مصطفى كامل أن تنتقي طهران من بين كل الجيوش العسكرية والسياسية والاقتصادية والاستخبارية التي تعمل لخدمتها، وهي ليست شيعية فقط بل هناك عربية سنية وكردية ومسيحية أيضا ومن أقليات أخرى، فصائل نخبوية لتنفيذ مهام محددة، وخاصة تنفيذ مهام عسكرية يمكن ان تكون ضمن مهام العمليات الخاصة التي يقوم بها فيلق القدس في الشرق الأوسط.
وقال كامل في تصريح لـ “العرب” أن ولاء شيعة العراق غير محسوم بالكامل لإيران، وبالتالي على ايران ان تتعامل معهم بحذر كبير وبانتقائية أكبر.
وأكد على إن عاملاً مهماً دخل على الخط خلال الأشهر الأخيرة، متمثلا بالانتفاضة الشعبية التي تشهدها مناطق الفرات الأوسط والجنوب وهي مراكز الغالبية الشيعية والتي كانت تشكل الخزان البشري والعقائدي للفصائل الايرانية ضمن ميليشيات الحشد الشعبي.
ويكشف تغيير إيران لأسلوبها في استخدام الميليشيات في العراق تراجع ثقتها في بعض الفصائل التي دعّمتها لسنوات طويلة واستخدمتها في عدّة مهمّات.
وقال أحد قادة تلك الميليشيات المعروفة إنّ الإيرانيين يلحظون انقسامات وخلافات بين قادة الفصائل على المصالح الشخصية والسلطة، كما يشكّ الإيرانيون في أنّ تسريبات من إحدى المجموعات ساعدت في قتل سليماني. وقال آخر “إن الاجتماعات والاتصالات بيننا وبين الإيرانيين قد انخفضت.. لم تعد لدينا اجتماعات منتظمة وتوقفوا عن دعوتنا إلى إيران”.
كما كشف مسؤولون أمنيون عراقيون ومسؤول حكومي وقادة ميليشيات عن شروع فيلق القدس في فصل النشطاء الموثوق بهم عن الفصائل الرئيسية في غضون أشهر بعد وفاة سليماني.
وبحسب محرّري التقرير فإنّ التحول من دعم الفصائل الكبيرة والمنظّمات الجماهيرية إلى الاعتماد على تشكيلات أصغر حجما وأكثر إحكاما يستعيد إستراتيجية اتبعتها إيران من قبل، ففي ذروة الاحتلال الأميركي للعراق بين سنتي 2005 و2007 أنشأت طهران خلايا أثبتت فاعليتها بشكل خاص في زرع قنابل متطورة لاختراق الدروع الأميركية. كما أنّ الطائرات دون طيار التي يستخدمها حلفاء إيران حاليا فعّالة في شنّ هجمات أصعب بكثير في اكتشافها وإحباطها من إطلاق الصواريخ العادية.
وشهد بذلك الجنرال كينيث ماكنزي قائد القيادة المركزية الأميركية عندما قال معلّقا على هجوم شنته ميليشيا تابعة لإيران في أبريل الماضي على قاعدة أميركية في مطار أربيل بإقليم كردستان إن إيران حققت “إنجازات كبيرة من استثمارها في الطائرات دون طيار”.
وفي العام الماضي بدأت جماعات بمسميات لم تكن معروفة من قبل في تبنّي هجمات بالصواريخ والقنابل في العراق. وكثيرا ما وُوجه ذلك بالتكذيب من قبل جهات سياسية وأمنية ظلت تؤكّد أن تلك المسميات وهمية ومجرّد واجهات لكتائب حزب الله أو غيرها من الميليشيات المعروفة. إلا أن المصادر العراقية قالت إنّ الأمر يتعلّق فعلا بجماعات منفصلة تشكّلت حديثا وتعمل بشكل مستقل.
وقال المسؤول الحكومي العراقي “في عهد قاآني يحاولون تشكيل مجموعات تضم بضع مئات من الرجال من هنا وهناك بهدف أن تكون موالية فقط لقوة القدس”، مضيفا “هو جيل جديد من الميليشيات”.
العرب