يشير خبراء علم النفس إلى عقدة الشعور بالذنب التي تسيطر على الأم العاملة حينما تترك بيتها وتخرج إلى العمل، أو عندما يلقي الزوج أو والدة الأم أو المقربون اللوم عليها في حال مرض أحد الأبناء ولم تكن موجودة، أو في حال تراجع مستوى الأبناء الدراسي. وينصح الخبراء الأم بعدم تحميل نفسها ما لا طاقة لها به عن طريق انتقاد ذاتها بكثرة.
فرجينيا – تجلد الأم العاملة ذاتها يوميا عندما يؤنبها ضميرها على ترك ابنها في الحضانة أو عدم تخصيص وقت كاف لرعايته أو عدم اهتمامها بزوجها بالصورة التي تفترض أن تكون عليها العلاقة بين الزوجين. كما أنها بالنسبة إلى المحيطين بها أم بلا مشاعر لأنها لم ترضع طفلها لفترة كافية، أو ربة بيت كسولة لأنها لم تُلحق طفلها بالنادي حتى الآن، أو أم أنانية لأنها تهتم بمظهرها، أو أم رجعية لأن طفلها لا يتحدث أكثر من لغة واحدة.
والشعور بالذنب هو عاطفة يواجهها بعض الأشخاص الذين يعتقدون أنهم ارتكبوا خطأ ما، فيشعرون بتأنيب الضمير وبالخجل تجاه أفعالهم وسلوكهم وأيضًا تجاه أفكارهم، مما قد يؤدي إلى شعورهم بالغضب على أنفسهم بسبب ما ارتكبوه من أخطاء، واضعين في اعتبارهم حكم المجتمع عليهم، مما يفقدهم الشعور بالحرية والإرادة القوية.
وفي حالة الأم العاملة فإن للمحيطين بها دورًا إما في تعزيز شعورها بالذنب أو العكس؛ إذ قد يدعمونها ويساندونها في مسيرتها المهنية وتحقيق طموحها. أما تعزيز شعورها بالذنب فيحصل مثلاً عندما يلقي الزوج أو والدة الأم أو المقربون اللوم على الأم العاملة في حال مرض أحد الأبناء ولم تكن موجودة، أو في حال تراجع مستوى الأبناء الدراسي.
ضياء المندلاوي: المهام تتضاعف عندما تكون الأم عاملة لذلك تواجه تحديات كبيرة
وكل هذا يدفع الأم إلى تحميل نفسها ما لا طاقة لها به عن طريق انتقاد ذاتها بكثرة، وهذا ما يعرف في علم النفس بـ”جلد الذات” أو عقدة “الشعور بالذنب”، مما يفقدها الثقة بنفسها ويجعلها تدخل في دوّامة من الاكتئاب، وهنا لا نتحدث عن جلد الذات بجرعات طبيعية، والتي تعتبر ضرورية في حياتنا اليومية لتهذيب النفس، إنما عن المبالغة في الجلد.
وفي دراسة أنجزتها باحثات مختصات في علم الاجتماع بجامعتي غرب فيرجينيا وولاية لوا عام 2019 قامت الباحثات باستطلاع آراء أكثر من 500 أمّ، لمعرفة مواقفهن وعواطفهن، وحتى سلوكياتهن المؤذية تجاه الأمهات اللائي يعترضن على تصوّر المجتمع للأم المثالية.
ووفقا للنتائج كانت الأم المقيمة في المنزل في أعلى القائمة، ثم الأم المضطرة إلى العمل وتعاني من إرهاق مضاعف بسبب توليها مسؤوليتها الاجتماعية داخل منزلها وكعاملة خارجه، أما الأم المتبعة للنهج المثالي في التربية وربة البيت المتساهلة والأم الناجحة في عملها فقد تلقين أعنف درجات الازدراء في المعاملة.
وقد أكدت المشاركات في الاستطلاع أنهن عبرن عن مشاعرهن السلبية علنًا، واعترفن بأنهن عاملن الأم الكسولة وربة البيت المتساهلة والأم الناجحة مهنيا معاملة سيئة، وذلك من خلال استبعادهن والاشتباك اللفظي معهن ومهاجمتهن أمام الآخرين.
وفي دراسة سابقة اعتمدت على استطلاع رأي للباحثات أنفسهن في عام 2017 تمّ تصنيف نظرة المجتمع للأمهات العاملات وربات المنازل. واعتمد استطلاع الرأي على فئة تمثل كل فئات المجتمع من الذكور والإناث، لاستخراج الصور النمطية عن الأم المثالية. ووفقا للنتائج تم تحديد 28 فئة نمطية، وكانت الأم غير العاملة هي الأم المثالية بنسبة 67 في المئة، وهي التي تعطي الأولوية للأطفال واحتياجات الزوج، وتنجز العديد من المهام دون أن يبدو عليها الإرهاق، حتى يُنظر إليها على أنها أكثر حبا وكفاءة في تربية أطفالها، أما إذا خالفت المرأة تلك الصورة فهي خارجة عن المألوف.
وتمت مهاجمة 6 من كل 10 أمهات خرجن عن المألوف؛ ليس فقط لأنهن قررن الخروج إلى العمل، وإنما أيضا بسبب قراراتهن التفصيلية، كوقف الرضاعة الطبيعية أو كيفية تأديبهن أطفالهن. كما أظهر بحث بكلية طب الأطفال في جامعة ميشيغا أن معظم النقد السلبي يأتي من أفراد الأسرة، خاصة الزوج بنسبة 38 في المئة، لكن 13 في المئة من هذا النقد كان من مقدمي الرعاية الصحية للأطفال، و12 في المئة منه يأتي من أمهات أخريات، و7 في المئة يأتي من المعلقين على وسائل التواصل الاجتماعي. وأبلغت النساء بأن النقد تسبب في شعورهن بعدم الثقة في أنفسهن واختياراتهن، وتجنبت نصف الأمهات بعض الأشخاص الناقدين، بينما توقف 56 في المئة منهن عن انتقاد الأمهات الأخريات بعد أن تعرضن هن أيضا للانتقاد.
وغالبا ما تعاني الأمهات من جلد الذات ولومها على كل فعل يتعلق بأطفالهن، لكن الأبحاث الجديدة تظهر أنهن يحكمن على الأمهات الأخريات بنفس القسوة، من جلد ولوم وتأنيب.
وتشغل دوّامة “صراع الأدوار” هاجس المرأة، لتكون أمّا وزوجة وموظفة، وتلعب أدورا أخرى عديدة، ما يثير لديها إشكالية الصراع الداخلي النفسي للتوفيق بين كل هذه الأدوار، وهو ما يؤدي إلى حالة من “الارتباك الاجتماعي” على حد تعبير عالم الاجتماع دوركهايم، والتي تكرّس إِشكالية صراع الأدوار وعواقبه النفسية والاجتماعية.
ومهما حاولت الأم العاملة خلق التوازن المطلوب، فذلك سيكون مرهقا لها على المدى البعيد، ما يجعلها قد تبدو بمرور الزمن أكثر تقدما في العمر من النساء اللواتي في سنّها، كأن تدخل في ميدان الشيخوخة في وقت مبكر.
وينصح الخبراء الزوج بأن يكون مشاركًا في الاهتمام بالشؤون المنزلية وتربية الأبناء، ما يساهم في إزالة عبء الشعور بالذنب عند الأم وبالتالي التقدّم في وظيفتها، وفي الوقت نفسه الحفاظ على التوازن العاطفي والعائلي.
وتواجه الأم العاملة تحديا أساسيا يتمثل في التوفيق بين واجباتها نحو أسرتها من جهة وعملها من جهة أخرى، هذا دون ذكر مشاكل العمل ومتطلبات الشريك والأبناء والأهل والمجتمع، وهذه مهمة ليست سهلة مطلقًا، وتمثل تحديًّا لها.
أكثر أنواع العنف تأثيرا على المرأة العاملة هو الذي يصدر من صاحب العمل أو المدير المسؤول عن عملها
وأكد ضياء المندلاوي الخبير العراقي في التربية النفسية أنه لا شك في أن الأم تقع على عاتقها مسؤوليات كبيرة داخل المنزل في ما يخص تسيير أمور البيت وتربية الأطفال والعديد من المهام الأخرى.
وقال المندلاوي لـ”العرب” إن “هذه المهام تتضاعف عندما تكون الأم عاملة لذلك تواجه تحديات كبيرة سواء من الجانب الشخصي حيث تتحمل أدوارا كبيرة في المنزل وكذلك في الوظيفة، وبالتالي فلا وقت لديها لممارسة هوايات أو لقاء الأصدقاء”.
وأضاف أن ضياع وقت الفراغ ينطوي على مخاطر كبيرة لأنه يضعف الطاقة والقوة اللازمتين للأيام التالية، فضلاً عن المشاكل الأسرية في بعض الأحيان، وهذه الأمور تشكل لديها صراعا داخليا حول التوفيق بين كل هذه الأدوار.
وفي ما يخص العامل الخارجي، أكد المندلاوي أن المجتمع العربي ما زال ذكوريا ويمارس العنف ضد المرأة لاسيما في مكان العمل، حيث تتعرض إلى أشكال من العنف منها اللفظي والعاطفي والنفسي.
وقال إن أكثر أنواع العنف تأثيرا على المرأة العاملة هو الذي يصدر من صاحب العمل أو المدير المسؤول عن عملها، حيث يعتمد بعض المسؤولين أسلوب استنزاف طاقات المرأة لجعل بيئة العمل غير صالحة وكي يثبتوا أن العمل ليس مكان المرأة، وكي يجعلوها ترفع الراية البيضاء وتستسلم أمام المعوقات التي تعترضها في بيئة العمل.
وأضاف أنه رغم تلك المعوقات والتحديات الكبيرة فقد دخلت المرأة سوق العمل من كل أبوابه التعليمية والسياسية والاقتصادية والإدارية، وأثبتت كفاءة عالية وقدرة كبيرة في ما يناط إليها من أعمال، وأصبحت في مراكز إدارية وسياسية متقدمة كوزيرة ونائبة وقاضية، لذلك نحن بحاجة اليوم إلى تكاتف الجهود بين المؤسسات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني والمرأة نفسها لرفع الغبن عن المرأة والالتزام بالمعاهدات والمواثيق الدولية، وإلغاء كافة أنواع التمييز بين الجنسين.
العرب