المحاولة الانقلابية الفاشلة أشعلت الخلافات بين المكونين المدني والعسكري الحاكمين في السودان بدلا من أن تمتن العلاقة بينهما. ووجد كل طرف في هذه المحاولة فرصة لتقوية نفوذه، خاصة المكون المدني الذي يشعر بأن العسكريين يريدون وضع اليد على الحكم خاصة بعد تصريحات رئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان. وهذه الخلافات قد تعيق الخروج من المرحلة الانتقالية وتضع عراقيل إضافية أمامها.
تسارعت الاتهامات بين المكونين العسكري والمدني في السودان في الأيام الماضية، وزادت الحدة عقب الإعلان عن محاولة فاشلة للانقلاب العسكري على السلطة الثلاثاء الماضي، وحمّل كل طرف الآخر مسؤولية ما وصلت إليه البلاد من أزمات، واستخدمت عبارات قاسية في الحرب الكلامية ودخلت فيها قيادات كبيرة تنتمي إلى المكونين وكأن كل طرف يريد استنزاف الآخر وكشف ألاعيبه أمام الرأي العام.
ودخلت على الخط العديد من الجهات الخارجية ترى أن معركة كسر العظم التي يمارسها الطرفان يمكن أن تهوي بالسودان إلى مستنقع مؤلم، لأن بعض التصريحات التي أدلى بها رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان دقت جرس إنذار وفُهمت على أنها إشارة للتخلص من الشريك المدني في السلطة.
وضع البرهان مسؤولية الإخفاق العام على كاهل الحكومة بسبب ما ينتاب ظهيرها السياسي الممثل في قوى الحرية والتغيير من صراعات على المناصب والكراسي، ولوّح بأن الجيش هو الجهة الوحيدة الضامنة للأمن والاستقرار في البلاد، ما أوحى بعدم الرغبة في تسليم السلطة وتفويت الفرصة على إجراء انتخابات.
انتظر العسكريون طويلا أملا في رضوخ السياسيين لهم وتركهم يحكمون بالطريقة التي يريدونها بذريعة حساسية الأوضاع في السودان وكثافة أزماته، لكنّ المدنيين لم يفعلوا ذلك وأصروا على التخلص من حلقات حكم الجيش في السودان تماما، وأكدوا أن نظام الرئيس السابق عمر البشير آخر حكم عسكري للبلاد.
حيرة سياسية
محمد الحسن التعايشي: الوثيقة الدستورية هي المترجم القانوني للاتفاق السياسي
حيرت الطريقة التي تتعامل بها القوى المدنية العسكريين في السودان، فعلى الرغم من التباين الواضح بين قواهم الرئيسية والفرعية، إلا أنهم يتمسكون بعدم العودة إلى الانقلابات، ورفض تمكين أصحابها من السلطة، وهي إشكالية أجبرت قيادات رفيعة في المكون العسكري على اللجوء إلى حيل متعددة لفرض هيمنتها على السلطة.
تحت عواصف من الانتقادات الداخلية والمواقف الخارجية اضطر البرهان إلى تعديل تصريحات أراد منها تشويه صورة القوى المدنية لجعلها أكثر ليونة في الشق المتعلق بتسليم السلطة، وتبين له من ردود الفعل أنه فتح جبهات من الغضب.
تكمن صعوبة الغضب في أنه جاءت من قوى كبيرة في المجتمع الدولي لم تكتف بإدانة محاولة الانقلاب الفاشلة أخيرا، بل شددت على أهمية تسليم السلطة إلى المدنيين في موعدها، بما يعني أن الخيارات أمام العسكريين ضاقت إلى الحد الأدنى بعد هذه المحاولة التي أراد الجيش توظيفها لتمتين مركزه في السلطة مستقبلا.
مطبات قانونية
عبّر مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان في اتصال هاتفي الجمعة مع رئيس الحكومة عبدالله حمدوك عن التزام إدارة الرئيس جو بايدن بدعم الانتقال الذي يقوده المدنيون للديمقراطية ومعارضة أي محاولات لعرقلة إرادة الشعب السوداني أو تعطيلها، في إشارة واضحة بأن القفز على السلطة من قبل العسكريين مرفوض.
وعززت الرسالة موقف القوى المدنية ومنحت حكومة حمدوك جرعة سياسية من الثبات على الموقف وعدم الرضوخ لما يمكن وصفه بـ”ابتزاز” المكون العسكري الذي سعى إلى الاستفادة من الصراعات المعتادة بين القوى المدنية في السودان وتصويرها على أنها السبب الرئيسي لما يحدث من إخفاقات في المشهد العام.
من يعرفون السودان جيدا يمكنهم فهم الصراعات وطريقة استيعابها من جانب الأحزاب المختلفة، فمهما بلغت حدتها ثمة مساحة يمكن التفاهم عندها بينهم، وهي تغول الجيش على السلطة فقد أصبح هذا المحدد من المحرمات في الحياة السياسية السودانية، لذلك فمن حيث أراد المكون العسكري جني ثمار متباينة من المحاولة الانقلابية الأخيرة وجه إلى صدره وابلا من الرصاص في الداخل والخارج.
ويقود الانقسام الحالي بين العسكريين والمدنيين إلى وضع المزيد من العراقيل السياسية التي قد تمنع العبور بالفترة الانتقالية في هدوء، حيث اتفقا على تقاسمها ونتيجة لبعض الصياغات القانونية الغامضة في الوثيقة الدستورية وتعديلاتها لاحقا باتت مدتها الزمنية محل تراشقات ووجدت العديد من التفسيرات من حيث حساب بدايتها ونهايتها بالضبط.
بدأت المصفوفة الزمنية وفقا للوثيقة الدستورية التي جرى توقيعها في السابع عشر من أغسطس 2019 ولمدة 39 شهرا بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير، وتتكون السلطة من جسمين، أحدهما مجلس السيادة ويضم 11 عضوا، خمسة من العسكريين ومثلهم من المدنيين، والعضو الحادي عشر يتم اختياره من المدنيين بالاتفاق، ويرأس الجسم العسكري الفترة الأولى لمدة 21 شهرا وبعدها تسلم السلطة إلى المكون المدني، والثاني هو مجلس الوزراء وكل أعضائه من المدنيين باستثناء حقائب سيادية يتولى العسكريون اختيار شاغليها.
تولّي المدنيين لرئاسة مجلس السيادة يحتاج إلى تفسير قانوني لأن قوى الحرية والتغيير تعتقد أن المفاوضين في جوبا لم يوجدوا شرحا وافيا لهذا النص اللغم
عقب التوقيع على اتفاق السلام بين السلطة والجبهة الثورية في الثالث من أكتوبر 2020 تم إدخال تعديلات لتستوعب هياكل السلطة الانتقالية ممثلي الحركات المسلحة، وجرى تمديد الوثيقة لـ14 شهرا، وتعيين ثلاثة من كبار قادة الحركات المسلحة في مجلس السيادة، واتفق على أن يتم احتساب الفترة الزمنية (39 شهرا) من هذا التاريخ.
من هذه الزاوية يأتي الخلاف في المصفوفة الزمنية، وهو المطب المرشح أن يتحول إلى جدل بين العسكريين والسياسيين إذا لم يتمكن الجانبان من التفاهم حول تفسير محدد.
وقال عضو مجلس السيادة محمد الحسن التعايشي عن المكون المدني في تصريحات إعلامية الجمعة إن الوثيقة الدستورية هي “المترجم القانوني للاتفاق السياسي وهي القانون الأعلى الذي يحكم البلاد إلى جانب اتفاقية جوبا للسلام التي تم إدراجها أصلًا في الدستور والتي لم تُغير كثيرًا في الميثاق السياسي والاستحقاقات المرتبطة به بما في ذلك انتقال رئاسة مجلس السيادة إلى المدنيين وفق ما هو منصوص عليه قبل إدماج اتفاقية جوبا في الوثيقة الدستورية وبعده”.
بهذا المفهوم ليس هناك مشكلة دستورية أو قانونية حول متي يتم الانتقال وكيف؟ لكن المشكلة في التأويل السياسي، لأن الكثير من متابعي الأوضاع في السودان يرون أن انتقال الرئاسة إلى المدنيين في مجلس السيادة اختبار مهم لجدية الشراكة والانتقال المدني الكامل لأول انتخابات قادمة، وأي عقبة ستؤثر على مصير المرحلة الانتقالية.
عندما وصلت الأمور إلى ما يشبه العقدة في التفسيرات، اقترح البعض التعجيل بإجراء انتخابات لحسم الخلاف بين المكونين العسكري والمدني خوفا من انفلات الأمور من عقالها ودخول البلاد في دوامة أشد ضراوة قد تستعصي فيها الأزمات على الحل.
من الناحية العملية، يصعب إجراء انتخابات مبكرة قبل تنفيذ بند الترتيبات الأمنية، فهي لا تزال محل خلافات بين الجيش والحركات المسلحة التي من المفترض استيعاب عناصرها داخل المؤسسة العسكرية النظامية، وملف عودة النازحين واللاجئين إلى مناطقهم وصرف التعويضات اللازمة.
محمد الفكي سليمان: اجتماعات مشتركة بشأن العديد من الموضوعات لم تتوصل إلى توافق في الأسابيع الأخيرة
كما أن إعادة هيكلة المنظومة الأمنية مسألة غير محسومة حتى الآن ومليئة بالمراوغات، في ظل وجود مجموعات من الجيوش غير النظامية، ناهيك عن استكمال خطوات السلام، حيث توجد عقبات مزمنة مع حركات مسلحة، في مقدمتها الجبهة الشعبية جناح عبدالعزيز الحلو، وحركة تحرير السودان جناح عبدالواحد نور، فلا أحد يستطيع القطع بموعد الحوار المنتج معهما.
بدأت المصفوفة الزمنية تؤدي إلى لغط كبير كلما اقترب أجل انتهاء مدة رئاسة العسكريين لمجلس السيادة، وازداد اللغط مع ظهور ملامح تشير إلى ممانعة في تسليم رئاسة المجلس للمدنيين، ما دفع قوى الحرية والتغيير إلى زيادة وتيرة الضغوط خوفا من مواجهة أمر واقع يفضي إلى تمترس العسكريين في السلطة وسيطرتهم على العملية السياسية بعد حديثهم المتكرر عن وجود خلافات حادة داخل الحكومة.
ووصف عضو مجلس السيادة محمد الفكي سليمان الجمعة العلاقة بين الأعضاء المدنيين والعسكريين في المجلس بأنها “ليست بخير.. وأن اجتماعات مشتركة بشأن العديد من الموضوعات لم تتوصل إلى توافق في الأسابيع الأخيرة”، ما يؤكد أن المسافات متباعدة، والقدرة على جسر الفجوة ليست كبيرة.
مسافات متباعدة
أكدت مصادر حكومية أن قوى الحرية والتغيير ستناقش بعد أيام مسألة تولي رئاسة المدنيين لمجلس السيادة كأمر لا يمكن تأجيله، وتفسيرها أن يتولى الرئاسة قيادي من بينهم في السابع عشر من نوفمبر المقبل، خلفًا للرئيس الحالي الفريق أول عبدالفتاح البرهان.
الواقع أن تولّي المدنيين لرئاسة مجلس السيادة يحتاج إلى تفسير قانوني لأن قوى الحرية والتغيير تعتقد أن المفاوضين في جوبا لم يوجدوا شرحا وافيا لهذا النص اللغم.
وكشفت تقارير سودانية أن أحد أعضاء المكون العسكري تقدم بطلب لمناقشة رئاسة المدنيين قبل طلب فتوى قانونية من وزارة العدل لعدم وجود محكمة دستورية.
وفسر خبير قانوني الموقف بأن رئاسة العسكريين مدتها 21 شهرا تسري من تاريخ التوقيع على الوثيقة (أغسطس 2019)، وبعد التوقيع على اتفاق السلام وما تلاه من تعديلات في الوثيقة يبدأ الحساب لمدة رئاسة العسكريين للمجلس من تاريخ التوقيع على الاتفاق (الثالث من أكتوبر 2020) وبالتالي فأجل رئاسة البرهان لمجلس السيادة ينتهي في الثالث من يوليو 2022.
يأتي الخلاف القانوني من حديث قيادات في قوى الحرية والتغيير على أن العام الذي جرى تمديده بموجب اتفاقية السلام يتم اقتسامه مناصفة بين العسكريين والمدنيين، بما يعني أن مدة البرهان تنتهي في الثالث من يناير 2022 في بعض التقديرات، إلى جانب التقدير السابق الذي يرى أنصاره أن مدة البرهان تنتهي في السابع عشر من نوفمبر المقبل.
دخل العسكريون والمدنيون أزمة حاولوا عدم التوقف عندها مبكرا باعتبار أن الأمور شبه محسومة، والشراكة تحتم عليهما التفاهم وفقا لقواسم مشتركة تغلّب مصلحة البلاد على غيرها، ويبدو أن الأمر سوف يكون شاقا خلال الفترة المقبلة، حيث تكاتفت مجموعة من الصعوبات ووضعت المكونين في مأزق أخذت ملامحه تتزايد بما يختبر قدرة كليهما على التعاطي معها بحكمة قبل أن ينجرف السودان إلى سيناريو غامض.
العرب