كان في استطاعة النظام الجزائري، الذي هو وليد انقلاب عسكري نفّذه هواري بومدين في العام 1965، بعد ثلاث سنوات على الاستقلال، محاولة الاستفادة من الملاحظات الصادمة للرئيس إيمانويل ماكرون، وهي ملاحظات، أقلّ ما يمكن أن توصف به أنّها خارجة عن المألوف، نظرا إلى أنّ لا سابق لها في العلاقة بين البلدين اللذين يجمع بينهما تاريخ طويل.
استمرّ الاستعمار الفرنسي للجزائر بين العامين 1830 و1962، عندما نالت الجزائر استقلالها في ضوء استفتاء شعبي فرنسي طرح فكرته الجنرال شارل ديغول الذي أيقن في مرحلة معيّنة أنّ الاستعمار لا يمكن أن يستمرّ إلى الأبد وأن لا معنى للكلام بعد الآن عن “الجزائر الفرنسيّة”. بدأ خطابه المشهور وقتذاك بعبارة “أيّتها الفرنسيات، أيّها الفرنسيون، لقد فهمتكم”. عمليّا، فهم أنّه لم يعد في استطاعة فرنسا تحمّل أعباء استمرار استعمارها للجزائر وكلفته، بغض النظر عن كلّ ما بذلته من أجل بقاء الجزائر مرتبطة بها وجزءا لا يتجزّأ منها. من بين ما قامت به فرنسا، التي كانت تعتقد أن الجزائر لا يمكن أن تنفصل عنها يوما، توسيع مساحة الجزائر وضمّ أراض تابعة لدول أخرى، بينها المملكة المغربيّة، إليها وذلك عن غير وجه حقّ!
الاستعمار هو الاستعمار، أكان تركيّا أو فرنسيّا. لدى النظام الجزائري مصلحة في تحميل فرنسا المسؤولية عن كلّ أزماته الداخليّة
تحدّث ماكرون، قبل أيّام، في لقاء في قصر الإليزيه مع ممثلين لأبناء الجيل الثالث من الجزائريين المقيمين في فرنسا والحاصلين على جنسيتها. هؤلاء ولدوا بعد الاستقلال. تحدّث بصراحة ليس بعدها صراحة وجرأة ليس بعدها جرأة. شملت صراحته وجرأته تحديد طبيعة النظام الجزائري “السياسي – العسكري” الذي يقتات من “الحقد” على فرنسا. طرح الرئيس الفرنسي ملاحظات أمام ممثلي أبناء الجيل الثالث. تتناول الملاحظات التي نشرتها صحيفة “لوموند” وثيقة المؤرخ والمستشار الرئاسي بنجامين ستورا المتعلقة بمعالجة “جرح الذاكرة”. تعرّضت تلك الوثيقة، التي صدرت مطلع العام الجاري، لأخذ ورد طويلين وكانت متوازنة إلى حدّ كبير. كانت متوازنة إلى درجة تعرّضها لانتقادات حادة من النظام الجزائري ومن اليمين الفرنسي. كان بين الحاضرين في قصر الإليزيه أحفاد “الحركيين” (الحركيون هم جزائريون تعاونوا مع الجيش الفرنسي خلال حرب التحرير)، وأحفاد لضباط فرنسيين، بينهم الجنرال سالان، حاولوا القيام بانقلاب عسكري للحؤول دون الانسحاب من الجزائر… ويهود، وحتى محسوبون على جبهة التحرير الجزائرية التي قاتلت الاستعمار.
أطلق الرئيس ماكرون ملاحظات تناولت علاقات بلاده بالجزائر خلال الفترة الأخيرة، خصوصا في ما يتعلق بدور العسكر في المشهد السياسي للبلاد ونفوذهم. تطرّق إلى وضع الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبّون وإلى كون صلاحياته في ما يخص إدارة شؤون البلاد محدودة. شكّك حتّى في تاريخ الجزائر وفي وجود أمّة جزائرية.
كان لافتا إبداء ماكرون “إعجابه بالرئيس تبون خلال المشاورات والاتصالات التي جرت بينهما” لكنه كشف أنّ تبّون واقع في دائرة سلطة العسكر، في إشارة إلى الحلقة المتقدّمة لضباط المؤسسة العسكرية الذين اتهمهم بـ”احتكار القرار السياسي في البلد”.
خلص إلى أنّ “الحراك الشعبي أتعب السلطة في الجزائر”. نجح هذا الحراك في منع عبدالعزيز بوتفليقة من الحصول على ولاية رئاسية خامسة في العام 2019. لكنّ العسكر “مازالوا الحاكم الفعلي للبلاد خلف واجهة مدنية، والجزائريون ليست لهم مشكلة مع فرنسا، وإنما النظام الحاكم هو الذي يحضّ على كره فرنسا”. في الواقع، لم يأت ماكرون بجديد، ذلك أن النظام الجزائري يسير في خط واضح لم يتخلّ عنه يوما هو خط تصدير أزماته الداخلية إلى خارج البلد وإلقاء المسؤولية على الآخرين بدل تحمّل مسؤولية هذه الأزمات والعمل على حلّها.
لم يفوت ماكرون فرصة الخوض في الجانب التاريخي بالقول إنه “يشكك في تاريخ الجزائر كأمة قبل الاحتلال الفرنسي”، وعبر عن انزعاجه من “عدم إدانة الاستعمار التركي للجزائر بالشكل الذي تدان به فرنسا”، مضيفا أن “التاريخ لا بد أن تعاد كتابته باللغتين العربية والأمازيغية إنصافا للحقيقة”.
تساءل الرئيس الفرنسي عن سر “تمكّن الأتراك من نيل ثقة الجزائريين وتحويل الحقبة الاستعمارية إلى تحالف بين البلدين”. هل كان الاستعمار التركي رحيما والاستعمار الفرنسي ملعونا؟ هذا السؤال لن يجيب عنه النظام الذي يرى مصلحة دائمة في التعرّض لفرنسا التي لا بدّ من الاعتراف بأنّها استخدمت الوحشيّة في مواجهة الجزائريين الذين انتفضوا في وجهها ابتداء من العام 1954.
في النهاية، الاستعمار هو الاستعمار، أكان تركيّا أو فرنسيّا. لدى النظام الجزائري مصلحة في تحميل فرنسا المسؤولية عن كلّ أزماته الداخليّة. المشكلة التي يعاني منها هذا النظام في غاية الوضوح. تتلخّص المشكلة في أنّه لم يستطع بناء نظام أكثر إنسانيّة يحترم حقوق الإنسان. كان الأمل بعد الاستقلال بقيام نظام قابل للحياة أفضل من ذلك الذي كان قائما أيّام الاستعمار.
الرئيس ماكرون أطلق ملاحظات تناولت علاقات بلاده بالجزائر خلال الفترة الأخيرة، خصوصا في ما يتعلق بدور العسكر في المشهد السياسي للبلاد ونفوذهم
كان فشل النظام الجزائري، الذي لم يستوعب كلّ الجزائريين بل باشر تمييزا بين المواطنين بعدما اعتمد على الحقد والكراهيّة، في أن يكون أفضل من الاستعمار. يعيد النظام الجزائري محاولة إعادة تأهيل نفسه منذ ولادته التي كانت على مرحلتين. مرحلة رئاسة أحمد بن بلة حتّى 1965 ثمّ مرحلة هواري بومدين المستمرّة إلى اليوم وهي مرحلة سيطرة المؤسسة العسكريّة على مرافق الدولة وثرواتها.
كانت لدى الاستعمار الفرنسي أخطاء كبيرة. ارتكب جرائم في حق الجزائريين. لجأ إلى الوحشيّة وإلى ممارسات لا علاقة لها بالإنسانيّة. لكنّ النظام السياسي – العسكري القائم منذ 1965 لم يستطع صنع فارق مع الاستعمار، خصوصا عندما قضى على أي أمل في إنعاش الاقتصاد وقيام بلد متسامح يعيش فيه مواطنوه، أكانوا مسلمين أو يهودا بأمان. اعتمد النظام على الكراهية والحقد لتبرير وجوده وإعادة تأهيل نفسه مرّة تلو الأخرى. هؤلاء الجزائريون من الجيل الثالث الذين التقى بهم ماكرون والذين يعيشون في فرنسا يمثّلون ما كان يفترض أن تكون عليه الجزائر والمدن الجزائرية.
لو كان لدى النظام الجزائري حدّ أدنى من الشعور الإنساني والوطني، لكان سارع إلى الاستفادة من ملاحظات الرئيس الفرنسي بدل رفضها ومحاولة المتاجرة بها بطريقة شعبوية لا علاقة لها بما هو حضاري في هذا العالم…
العرب