دور الأمكنة فى المجال العام يبدو موضوعا مسكوتًا عنه فى الكتابة التاريخية المسيطرة فى العالم العربى ومصر من بينها، نظرا لأزمات المنهج وسيطرة النظرات التقليدية للتأريخ وموضوعاته ومقارباته، وذلك لأن الأمكنة –الشوارع والميادين والمقاهي والمطاعم والمشارب- تبدو هامشية، ومن ثم يتم التركيز على حركة الجمهور/ الشعب فى التظاهرات السياسية والاحتجاجات، والانتفاضة، وديناميات الحركات الاجتماعية.[1]
ويرجع هذا الصمت -إلا قليلا- إلى أن السلطات الرسمية والطبقات السياسية الحاكمة ترمى إلى تعتيم دور الأمكنة سياسيا في الذاكرة الجماعية، حتى لا يتم استعادتها مجددا في الذاكرة الجماعية والخيال السياسي. وفي ذات الوقت، كى لا تكون مُحفزا على حركات سياسية، ترفضها الطبقات السياسية الحاكمة.
السرديات التاريخية الرسمية تهمش المكان وأدواره السياسية والثقافية، بل وتحاول تغيير تنظيم المكان/ الميادين/ الشوارع/ المقاهي، فى أعقاب الانتفاضات الجماهيرية، تحت مسميات شتى مثل تجميل المكان، وإعادة تنظيمه، وتخطيطه.. إلخ.
الأمكنة والسياسة والثقافة، والعلاقة بين كليهما من تفاعلات وأحداث كبرى، ورمزية، وثقافية، تبدو مهمة، وتحتاج إلى معالجة مختلفة على مستوى المقاربة التاريخية، أو المقاربة السوسيو-سياسية، والسوسيو-ثقافية، والسوسيو-دينية، وهى مقاربات لاتزال شحيحة ونادرة فى السرديات السوسيو-تاريخية إذا ساغ التعبير وجاز.
من هنا سنحاول من خلال هذه الدراسة الوجيزة إبداء بعض الملاحظات الأولية حول مقاربة لموضوع المكان والسياسة، وجدل المكان والفعل السياسى، والذاكرة السياسية، على أن نحاول في دراسة تالية طرح مقاربة أخرى حول سوسيو-ثقافة المكان، من خلال مقاربة دور المقاهي ووظيفتها السياسية والثقافية فى مصر، من خلال حالة مقهى ريش، كواحد من أقدم المقاهي المصرية القاهرية منذ إنشائها فى أوائل القرن العشرين، وما قامت به، كجزء من حوامل ذاكرة المكان والحياة السياسية والثقافية للفئات الوسطى العليا، والوسطى- الوسطى.
سوف نطرح في القسم الأول من هذه الدراسة مدخلا حول المكان والسياسة والثقافة. ونتناول في القسم الثاني مسألة المكان كمصدر للقوة الرمزية والأيقونية، والذاكرة السياسية. ونناقش في القسم الثالث دور المكان فى الفعل السياسى. ونناقش في القسم الرابع المكان الرقمى والمكان الفعلى. وأخيرا نناقش في القسم الخامس قضية المكان والعولمة، والرقابات الرقمية، والفعلية.
أولًا: مدخل المكان والسياسة والثقافة: العلاقات ووجوهها
هل هناك علاقة بين المكان، والسياسة والثقافة؟
السؤال يبدو بسيطًا فى طرحه، لأن السياسة فى مفهومها العام لا تدور سوى فى فضاءات المكان، انطلاقا من الإقليم كمكون للدولة والسيادة على أرضه، وأجهزة الدولة وسلطاتها، بما فيها الأمنية والاستخباراتية التي تمارس وظائفها على إقليم الدولة، وعلى الشعب كمكون للدولة من خلال السلطة السياسية الحاكمة فى النظم الديمقراطية التمثيلية، والديكتاتورية، والتسلطية. المكان/ الإقليم هو فضاءات السيطرة، والهيمنة السياسية والرمزية على المواطنين والمقيمين، سواء أكان هؤلاء يشكلون أمة وفق المفهوم الغربي لتشكلات الأمم الغربية في إطار التحولات التاريخية للرأسمالية الغربية، أو شعب ومذهبية وعرقية ومناطقية ولغوية فى المجتمعات الانقسامية Fragmented Societies. المكان هو جوهر إستراتيجيات السيطرة السياسية، والهيمنة الرمزية، وفرض السياسات التشريعية، والأمنية على إقليم الدولة/ المكان/ الشعب أو الأمة. إقليم الدولة هو الفضاء أو الفضاءات المكانية الأوسع، وحدودها السياسية المعترف بها دوليا.
إن نظرة فاحصة عن علاقة السياسة، والفعل السياسى على المكان والبشر، تبدو وثيقة، وذلك من أوجه عديدة:
١- المكان كحيز لحركة البشر، والتفاعلات الاجتماعية، والراحة والحوار، وأمكنة للعمل العام فى أجهزة الدولة ومؤسساتها والعمل في المشروعات الاقتصادية الخاصة في النظم الرأسمالية، أو القطاع العام في النظم التي لاتزال بها مؤسسات القطاع العام.
من ثم، يمثل الحيز أو الفضاء المكانى، حاملا لاستعراضات وتمثيلات الأشخاص فى الدول الشمولية والتسلطية في حدود القيود المفروضة عليه، والمواطنين فى دولة القانون والحق، وتعبيراتهم من خلاله عن ذواتهم وعن آراءهم السياسية، أو فى شئون حياتهم العامة أو الشخصية من خلال الفعل الاجتماعى أو الفعل السياسى، إذا كان النظام ديمقراطيا، حيث يتيح للمواطنين الحق فى الانضمام الحر للأحزاب والمنظمات السياسية، والطوعية، وغيرها من المنظمات الاجتماعية والثقافية…إلخ. يبدو المكان فى هذه المقاربة، وكأنه غائب، أو منسى، فى التعامل مع هذه الأنشطة أو التفاعلات، أو ما تبرزه من ظواهر اجتماعية أو سياسية، وكأن المكان هنا – مقر لحزب سياسى أو جمعية طوعية أو نشاط ثقافى، أو مكان للطعام، والشراب كالمقاهي، أو موضوع للحركة والفعل السياسى لاحضور له في الحياة العامة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
فى حين أن نظرة أخرى مغايرة تنطلق من حالة المكان المنسى، وتحاول استنطاق دوره المسكوت عنه، لأنه مكان للفعل والتفاعل الاجتماعى أو السياسى، ستُظهر أن المكان ليس صامتا، بل موضوع للفعل والحركة أيا كان نسبها السياسى والاجتماعى. الوطن هو المكان وحدوده الجيو-سياسية يُطرح دائما كعلامة على الروح الوطنية في المناسبات الرسمية أو لاستنهاضها في الأزمات. ومع ذلك يبدو المكان وكأنه غائب إلا فى الدراسات الجيو-سياسية، وهى دراسات تدور حول المكان كجغرافيا سياسية، وتاريخيه، وتشكلات حدوده، أو فى مجال التاريخ بوصفه المكان الكلي لحياة شعب فى التاريخ، واستعماره في المراحل الكولونيالية الغربية الغاشمة والمدمرة والمجرفة لثرواته واستقلاله، وظواهره التاريخية وأحداثه، وزعاماته وأدوارهم التاريخية الحقيقية أو المزيفة، وذلك بحسب مدى استقلالية المؤرخ ومقارباته المنهاجية والموضوعية فى النظم الديمقراطية، أو بحسب رؤى الحكام والسلطات فى الدول الشمولية، والتسلطية. المكان هنا لا يعدو أن يكون فضاءًا سلبيا للحدث التاريخى أيا كان وصفه وفاعليه.
الأهم فى هذا المجال أن المكان أيا كان- الوطن والمحافظة والمدينة والقرية والمقاهي والمشارب، والمتاحف والميادين والشوارع وأماكن العبادة التاريخية لذوي الديانات والمذاهب المختلفة.. إلخ- هو فضاء التنظيم الإداري، وتفاعلات النظام الاجتماعى والطبقات الاجتماعية. ومن ثم، يخضع لهندسة تنظيمية واجتماعية وسياسية، جوهرها ومركزها ممارسة السلطة السياسية فى جميع المجالات، ومن ثم ممارسة القوة من الطبقة السياسية الحاكمة وفق رؤاها ومصالحها الاقتصادية والاجتماعية، فى ظل الشروط والقواعد الدستورية والسياسية، وتنظيم السلطات وعلاقاتها، والنظام السياسى (ديمقراطيا أو ديكتاتوريا، أو تسلطيا، أو أسريًا).
٢- الأمكنة كتراث مادي، لأنها تكتنز مواقع تاريخية فى التطور التاريخي لبلد من البلدان، مثل المقابر التاريخية التى تضم رفات شخصيات سياسية وثقافية واجتماعية بارزة، تمثل جزءًا من رموز السياسة والثقافة، والعلم والمعرفة…إلخ، أو دور العبادة -معابد، ومساجد تاريخية- من حيث القدم التاريخي، وعلامة على طُرز معمارية متميزة في التطور العمراني للبلاد أو المدن المختلفة داخلها. هذا التراث المادى تحكم صيانته والحفاظ عليه بعض الاتفاقيات الدولية وتوصيات منظمة اليونسكو.
٣- الفضاء المكانى هو المجال العام المفتوح لحركة المواطنين وغيرهم فى النظم الديمقراطية، والمغلق سياسيا في النظم الشمولية، و”المحاصر” فى النظم التسلطية. المجال العام لا يقتصر على السياسة فقط، وإنما يشمل الفراغات المهمة المعمارية، فى تنظيم المدن والساحات المهمة والحدائق العامة والمتاحف والأندية الرياضية والاجتماعية، والجمعيات والمحال المهمة، والمقاهي، والمشارب وأماكن اللهو البرئ والراحة والاستجمام أو أماكن انعقاد المهراجانات السينمائية العالمية الكبرى مثل كان وبرلين ..إلخ.
ثانيًا: المكان… القوة الرمزية والأيقونية والذاكرة السياسية
المكان والسياسة فى التصورات البسيطة يتم التعامل معه على أنه مفعول به، أو قاعدة يمارس عليها الفعل السياسى والاجتماعي والثقافي، إلا أن إمعان النظر ومحاولة استنطاق ما وراء نسيان المكان فى المقاربات السياسية والتاريخية والسوسيو-ثقافية، تشير إلى أن المكان قد يشكل فى ذاته فاعلًا حاملًا لحركة سياسية نشطة، من حيث محمولاته الرمزية والتاريخية، كالميادين والجامعات (مثل كاليفورنيا بيركلي، والسوربون فى حركة الطلاب الثورية فى 1968، وحائط برلين بين ألمانيا الغربية والشرقية قبل وبعد انهياره عام ١٩٨٩) والمقاهي التي لعبت أدوارا مهمة فى الحياة الثقافية الأوروبية، كما فى باريس (مثل الفلور، والدوماجو، والسلكت.. إلخ) فى الحركة السريالية، والوجودية، وبروز بعض بناة العالم من مبدعي الأفكار الفلسفية آنذاك، وفى الفلسفة والأدب والفن التشكيلى…إلخ، أو مهرجانات السينما العالمية في كان وبرلين والتي طرح بعض المبدعين الكونيين رؤاهم الجديدة التي غيرت مسارات الفكر والرؤيا في عالمنا.
الأمكنة هنا تلقى بظلالها وشخصيتها على حركة تفاعل الأشخاص عليها، ومن هنا أيضا لعبت الميادين دورًا سياسيًا، كرمز وكدلاله على الانتفاضات السياسية والاجتماعية التاريخية الناجحة فى إحداث تغييرات سياسية واجتماعية تحملُ أهدافها ومصالح هذه الانتفاضات، أو تفشل فى تحقيق مطالبها.
الأمكنة كحوامل للهوية وتعبيرًا من تعبيراتها الرمزية، مثل الأهرامات والمعابد الفرعونية في الجيزة، وأبو سنبل والأقصر والمنيا…إلخ، دلالة على الحضارة المصرية القديمة، وأيضا بعض الكنائس القديمة المعبرة عن المرحلة القبطية، وكذلك المرحلة الإسلامية من مساجد ومقابر تاريخية لبعض رموزها، وأيضا كل أبنية وأمكنة التطور العمرانى وطُرزه فى نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، فى القاهرة الخديوية أو فى الإسكندرية الكوزموبوليتانيان آنذاك قبل ترييفهما كنتاج للهجرات المتدافعة من الأرياف سعيا وراء الرزق. هنا المكان يبدو حينا كأيقونة وعلامة على المرحلة التاريخية التى نشأ فيها، وأيضًا رمزا عليها.
خطابات الهوية المتصارعة فى مصر قبل 1952 وبعدها فى ظل نظام يوليو، وتحديدا بعد هزيمة 5 يونيو 1967، وإلى الآن، كل منها يرتكز على بعض هذه العلامات المكانية، دلالة على خطابه الهوياتي، وتعبيرًا عن انفتاحه أو انغلاقه على تصوره الهوياتي لدينه، أو قوميته المتخيلة، أو مذهبه أو عرقه.[2]
من هنا كانت الأبنية، بل وبعض طُرزها المعمارية الحداثية وما بعدها، تبدو دلالة على القوة السياسية والاقتصادية للدولة، ومنها على سبيل المثال برجي نيويورك، اللذان يمثلان أيقونات القوة الاقتصادية والسياسية والمعمارية للولايات المتحدة الأمريكية، من خلال حضورهما الفاعل فى صورة القوة المتكاملة، ورمزًا عليها. لقد تحول هذا المكان/ الفاعل إلى مركز اهتمام العالم كله بعد ضربه من تنظيم القاعدة الحادي عشر من سبتمبر ٢٠١١. المكان الفاعل الرمز/ وعلاماته تحول إلى هدف للهجوم الإرهابى.
هذا المكان الأيقونى للقوة الفائقة تحول إلى هدف، وانهياره أدى إلى فعل مضاد، وهو الحرب على الإرهاب. إن الفعل الإرهابى شكل ذروة الخيال الإرهابى واخترق نظام الخيال ذاته. انهيار البرجين، لم يكن فقط موضوعاً للقوة المطلقة من إرهاب القاعدة، حيث ينطلق عمل المجموعة الإرهابية من موت الموت. لقد شكل المكان ومحمولاته الرمزية على القوة المفرطة –اقتصاديا وتقنياً وسياسيا وثقافيا- محفزاً على الحرب على الإرهاب، أي أن المكان المنهار شكل فعلاً متمثلاً فى الرد على مصادر الفعل الإرهابى ومنظماته.[3]
يذهب جان بودريار، الفيلسوف الفرنسي البارز، إلى أننا “يجب أن نفترض إذن أن انهيار البرجين -حدث هو ذاته فريد فى تاريخ المدن الحديثة- يستبق النهاية الدرامية لهذا الشكل من المعمار وللنظام الذى يجسده. كانا فى مجرد تصمميهما المعلوماتى والمالى والحسابي والرقمي، دماغه، وبضربهما هنا، مس الإرهابيون إذن المركز العصبي للنظام. إن عنف العالمى يمرَّ أيضاً بالمعمار، بالهلع من العيش والعمل فى هذه التوابيت من الزجاج والفولاذ والأسمنت. الهلع من الموت فيها لا يمكن فصله عن الهلع من العيش فيها. ولذلك فإن الاعتراض على هذا العنف يمرّ أيضاً بهدم هذا المعمار”.[4] والتاريخ سيظل حاضرا.
الأيقونات المكانية المرموزة والمعبرة عن القوة المكانية ومحمولاتها السياسية والاقتصادية والحضارية، ظلت علامات للهيمنة على الدنيا والنظام العالمي. وفى هذا يصف جان بودريار المكان بقوله: “هذه الوحوش المعمارية أثارت على الدوام افتتاناً غامضاً، شكلاً متناقضاً من الجاذبية والاستنكار ومن ثم، في مكان ما، رغبة سرّيةً فى رؤيتها تختفي. في حالة البرجين، ينضاف إليها هذا التناسق الكامل، وهذه التوأمية التى هي حقا ميزة جمالية لكنها على وجه الخصوص جريمة ضد الشكل، تحصيل حاصل الشكل، يجذبُ محاولة تحطيمه. إن هدمها ذاته قد احترم هذا التناسق: صدمتان لا يفصل بينهما إلا دقائق معدودات– تعليق يسعه أن يحمل على الاعتقاد بمجرد حادث طارئ، هنا أيضاً التأثير الثاني الذى يوقع الفعل الإرهابى”.[5]
وذهب أيضا إلى الربط بين رمزية الحدث ومعماره/ المكاني بقوله: “وبما أنهما فى آن واحد موضوع معماري وموضوع رمزي، فمن الواضح أن الموضوع الرمزي هو الذى اُستهدف”.[6] إن البرجين كرمز للقوة الأيقونية هما تعبيرات عن رمز الخيال المعمارى والهندسي والتقني، وكان ضربهما ذروة الخيال الإرهابى.
المكان هنا فاعل معماري له حضوره وتأثيراته، وليس محضُ مكان مصمت، وسلبي للتفاعلات عبره، وعليه وداخله. من هنا يبدو لي، وأرجو ألا أكون مخطئاً، أن ثمة فعل للمكان، وليس محضُ رد فعل على فعل فقط. إن حضور رمزية المكان هي فى ذاتها فعل فى الفضاء العام الكوني، وليس الأمريكي فقط، بوصفها علامات على القوة الاقتصادية الأمريكية، والحضور المعماري للهندسة المعمارية وطُرزها الأيقونية المواكبة لتطوراتها التقنية والعلمية المذهلة. الأبنية الحاملة لرمزيتها بدت هنا كهدف سياسي ورمزى لدى تنظيم القاعدة، الذى حوله إلى أطلال من الدمار والشظايا، وعلامة على الموت، وهشاشته كعلامة على القوة المطلقة الناجمة عن أن القائمين على العملية الإرهابية ذهبوا حاملين موتهم، الذى شكل قوتهم المطلقة فى مواجهة القوة الكونية الأعظم فى عالمنا، قبل صعود الصين.
ثالثا: دور المكان فى الفعل السياسي
يلعب المكان دوره فى السياسة كمكان للفعل السياسي البشري من خلال التظاهرات فى بعض الميادين الشهيرة، أو الشوارع الكبرى الزائعة الصيت كالشانزليزية فى فرنسا، فى تاريخها فى النصف الثانى من القرن العشرين، والآن، مثل مظاهرات السترات الصفراء، أو مظاهرات رفض الحجر الكامل أو الجزئى بعد كورونا، أو رفض الحقن باللقاح. وفى مصر يبرز دور ميدان التحرير فى الانتفاضة الجماهيرية الكبرى فى 25 يناير 2011، وما بعد، أو تظاهرات 30 يونيو ضد جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين.
هنا المكان يحملُ دلالته الرمزية، ومحمولاته التاريخية. ومن أبرز الأمثلة فى هذا الصدد مظاهرات الطلاب الفرنسيين فى 1968 حول السوربون -الجامعة العريقة- ودلالاتها الرمزية، وأيضا جامعة القاهرة فى أحداث الحركة الطلابية في 1972/1973، واعتصام ميدان التحرير حول الكعكة الحجرية، وفق أمل دنقل، وهى أحداث فارقة جيليا، بين الأجيال المصرية، لاسيما حول جيل السبعينيات. فى تونس، يبدو شارع الحبيب بورقيبة هو مكان التظاهرات المطلبية، أو السياسية كما حدث فى انتفاضة يناير 2011 التونسية، ثم التظاهرات فى ظل سطوة حزب النهضة التونسية، وضده.
الفعل التظاهرى فى مكان ما، وفى لحظة تاريخية ما، يعطي المكان رمزيته، خاصة إذا كان هذا الفعل التظاهري الجمعي مؤثرا على مسارات السياسة فى بلد ما، لاسيما فى البلدان العربية، أو على تطور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية أو الثقافية، من حيث تعديلها وإصلاحها، أو تغييرها جذريا. من أمثلة ذلك تظاهرات محدودة العدد من المثقفين والشعراء والروائيين والقصاصين والفنانين والموسيقيين فى ميدان طلعت حرب من حركة أدباء وفنانين من أجل التغيير فى ظل حكم مبارك، مع رفعهم لصور كبار المبدعين المصريين فى مراحل تاريخية متعددة، وقيام المثقفين بالتظاهر والسيطرة على مقر وزير الثقافة، من أجل تغييره فى عهد محمد مرسى وسيطرة الإخوان والسلفيين على الحكم، وشارع الستين فى تظاهرات السودان فى 21 أكتوبر 2021. رمزية المكان والفعل السياسى الاحتجاجى، أو الثورى، تظل في الذاكرة الجمعية لأجيال من شاركوا فيها بعد أن تنتهى هذه الاحتجاجات.
عندما يغيب المكان، من خلال تدميره، وإزالته، والبناء مجدداً عليه، يذهبُ المكان إلى الذاكرة والتاريخ، ويُستعاد عندما يُكتب تاريخ الحركات الاجتماعية والسياسية، سواء أكانت محدودة العدد، أو كثيفة العدد فى فعلها التظاهرى. إن رمزية المكان هي ما تُعطى للفعل بعض من القوة والفعالية والتأثير.
المكان، وساحاته، كان ولايزال يشكل مركزاً للحروب واستراتيجياتها وحركة الجيوش المتقاتلة، وتكتيكاتها، وحركة الأسلحة والدروع –فى الماضى- وفى الحروب الحديثة، يُعد مركزا للمدفعية وحركة المدرعات والصواريخ، وهدفاً أيضا فى مواجهة الخصم، وغارات الطائرات المغيرة على أهداف على عين المكان/ أمكنة المعارك الفرعية، والكبرى فى الحروب العالمية، أو بين الدول، ويكتسب أهميته الرمزية كمواقع للنصر، أو الهزيمة، فى ذاكرة الشعوب والجيوش والقادة السياسيين، والعسكريين، ومثالها “ديان بيان فو”، تلك الموقعة الشهيرة للجنرال جياب العظيم، وفى ذاكرة فيتنام، والعم هوشي منه، علامة على النصر العظيم والتحرر الوطنى.
فى الحروب الأهلية يظل المكان موضع النزاعات الأهلية حاملا للذاكرات الأليمة للضحايا، وتذكيراً لأطرافها بمخاطر هذا النمط من النزاعات حول الدين والمذاهب والأعراق والمناطق.. إلخ فى المجتمعات الانقسامية. المكان فى هذا النمط من الحروب الأهلية يحملُ معه ذاكرة الألم، وأيضا قد يحفز على بعض من الرشد السياسى لقادة ما بعد الحرب، فى سعيهم للوصول إلى حلول سياسية لأسبابها، وفى عمليات التغير السياسى فيما بعدها.
حضور المكان فى الحروب لا يمنع نشوبها مجددا، إلا أنه يبدو دائما كحامل لذاكرة الألم، ومن ثم يؤدى إلى دخوله تاريخ كل بلد.
رابعاً: المكان الرقمى، والمكان الفعلى
مع التطورات السريعة والمكثفة للثورة الرقمية والذكاء الصناعى لم يعد المكان الواقعي/ الفعلي هو الفضاء المكاني للفعل التظاهري، أو الفعل السياسي إزاء ظاهرة اجتماعية أو سياسية أو ثقافية أو دينية ما. لقد تحول المكان الرقمي –إذا جاز التعبير وساغ- المتمثل فى مواقع التواصل الاجتماعي، إلى مركز لأداء الوظائف السياسية، والأراء، وخطاب السخرية، والبذاءة، والسوقية كأداة للرفض السياسي، والاحتجاج والمطالب إزاء سياسي ما أو مثقف أو روائي أو قصاص، أو ممثل أو ممثلة، أو إزاء رفض عمل أو سلوك ما، أو رأي، بحيث أصبح خطاب المنشورات والتغريدات والفيديوهات، وصناعة الاتجاه -التريندات– هو المسيطر كأداة في مواجهة الواقع الفعلي والفاعلين في إطاره، والتأثير عليهم لتغيير مواقفهم، أو سياساتهم، أو قراراتهم، أو تعديلها، بما يتوافق كليا أو جزئيا مع خطاب الاتجاه/ التريند. لقد أصبح المكان الرقمي –مواقع التواصل الاجتماعي- أداة تحريك وفعل، سواء في المجال العام المفتوح، الذي يسمح بممارسة الحريات العامة والشخصية في دولة القانون والحق، أو المجال العام المحاصر والمقيد بالأغلال الأمنية في ظل موت السياسة وقمع الحريات والضمير والحرية الدينية، في ظل التسلطية السياسية والدينية. لقد أتاح المكان الرقمي للأشخاص أن يتحركوا على هذه الأمكنة الرقمية بسلاسة ويسر، وممارسة حرية التعبير، وإبداء الرأي والتفاعل بين بعضهم بعضا.
السؤال الذي نطرحه هنا هل سيحل الواقع الرقمي وأمكنته الرقمية محل الواقع الفعلي أيا كان؟ يبدو أن حلول المكان الافتراضي محل المكان الفعلي سيأخذ وقتا في الدول المتخلفة والأكثر فقرا وتخلفا، لكن عصر السرعة الفائقة، والتطورات الرقمية والتقنية المذهلة، وثورة الرقمنة ستؤدي إلى قفزات كبرى تؤدي إلى حلول المكان الافتراضي وتوسعه لتغدو الحياة الرقمية هي الحياة في الغالب الأعم، ومن ثم اتساع نطاق المكان الرقمي وتوظيفاته فى الحياة الكونية للبشر؛ فى وظائفه السياسية والخبرية، والمعلوماتية، والاتصالية، والسياسية والثقافية والفنية والخدماتية والحواسية/ الجنسية، خاصة فى ظل ثورة الصور الرقمية، وسرعة استهلاكها الفائقة، من خلال الخطاب المرئي، وأيضا التغريدات والمنشورات الموجزة والمختصرة، ومن خلال لغة بسيطة ومباشرة يخاطب الآخرين من مرتادي ومستهلكي هذه الخطابات الرقمية الذين أصبحوا عديد المليارات فى حياتنا الكونية.
هذا الطوفان الملياري حول الأمكنة الرقمية، وتأثيره الكبير على السياسيات والقرارات السياسية والمواقف والآراء على الواقع الفعلي وأمكنته الفعلية، سيؤدي مع رقمنة الحياة السياسية إلى تجاوز المكان/ الأمكنة الفعلية، من حيث القدرة على التأثير فى السياسات والقرارات السياسية والحريات، لأن النظم السياسية سيُعاد بناؤها وصياغتها رقمياً، ووفقاً لتأثيرات الذكاء الصناعى، فضلا عن التأثير على مفهوم العمل، بل ومكانه..إلخ. إن تراجع دور الأحزاب السياسية فى تمثيل المصالح، والتعبير السياسى عنها، والمعارضة داخل البرلمانات وخارجها، فى الأمكنة السياسية الفعلية، بدأت تحل محلها بعض الحركات الاجتماعية والاحتجاجية على الواقع الافتراضي الذى أصبح مكان تجميع للمصالح، والتعبير السياسى عنها. كما أصبح المكان الافتراضى فضاء للتعبئة والحشد الافتراضى، وصناعة التريندات والاتجاهات.. إلخ. ربما سيظل المكان التاريخي حاضرا في الذاكرات الجمعية –دور العبادة، المعابد، والمساجد، والكنائس، والمتاحف، والمواقع الأثرية، والمقاهي والمطاعم والمشارب التاريخية، والميادين الحاملة لذاكرة المدينة الحديثة.. إلخ– علامة ورمز متعدد الأبعاد والعلامات، ويشكل جزءًا من ذاكرة المدينة، والبشر، إلا أن هذه الأمكنة التاريخية، تحولت من واقعها فى الواقع الفعلي إلى جزء من العوالم الافتراضية، فى زمن الصورة الفوتوغرافية والسينمائية، والمرئية. ويمكن استدعاء هذه الأمكنة الفعلية على الرغم من تغير غالبها فى الواقع الفعلىي، والتاريخى المتغير، من هدم وإزالة، وبناء أبنية معاصرة وما بعد حداثية..إلخ، كجزء من تجديد بعض أماكن المدن الفعلية.
خامسًا: المكان والعولمة، والرقابات الرقمية والفعلية
أدت العولمة إلى اتساع الأسواق وحركة رؤوس الأموال على نحو عولمي. وتحولت الأسواق والأمكنة فى الحياة الكونية إلى سوق كوني للشركات الامبراطورية فى الولايات المتحدة والصين وأوروبا، التى تتحرك بذكاء، فى جميع التخصصات، وفى ذات الوقت، ظهر العالم أقرب إلى مكان كوني فعلي تسيطر عليه هذه الشركات بالسلع والخدمات والتقنيات الرقمية. وبعد ظهور الثورة الرقمية، ومعها الشركات الكونية الامبراطورية المتخصصة فى بناء المواقع والمنصات الرقمية تحول العالم إلى مكان رقمي كوني،[7] أصبح مجالًا واسعًا للاستثمارات الرقمية الضخمة، والتى أصبحت أحد أبرز محركات الاقتصاد العالمي، ومكوناته الأساسية، بل وتعيد صياغة عالمنا فائق السرعة، وأيضا لعوالم الحداثة وما بعدها وما بعد بعدها، فى كافة مناحى الحياة اليومية، بحيث أضحت الحياة الرقمية جزءًا رئيسا من حياة البشر، فى كافة قارات الدنيا. لقد أدت ثورة الرقمنة وإدمان مليارات البشر على الحياة الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعى، إلى تطور نظم الرقابة الأمنية والسياسية على الأمكنة الرقمية والواقعية، من خلال أنظمة المراقبة الأمنية على الهواتف المحمولة، وعلى الأمكنة الفعلية، من المياديين والشوارع والمتاحف والمقاهي والمشارب والمطاعم ومحلات بيع السلع والخدمات والمدارس والجامعات وأجهزة الدولة وأماكن العمل، على نحو باتت الحياة الفعلية والرقمية تحت المراقبة والسيطرة، وباتت قضايا الحريات العامة والشخصية من القضايا المطروحة فى الدول الديمقراطية العريقة، وغيرها من المجتمعات والدول الشمولية والتسلطية
مركز الاهرام للدراسات