جيش الاحتلال: العنف “الأخلاقي” وشرعنة العنف

جيش الاحتلال: العنف “الأخلاقي” وشرعنة العنف

منذ الانتفاضة الفلسطينية الثانية وانهيار عملية أوسلو، انتقل العديد من الباحثين والصحفيين وصانعي الأفلام الوثائقية الإسرائيليين المنتقدين لسياسات الدولة من البحث في الأسباب التاريخية للاحتلال -ومن الجدل حول أسسه الأخلاقية أو تخيل الترتيبات السياسية المحتملة التي ستحل محله- إلى البحث في كيفية عمل الاحتلال، وما الذي يجعله مرناً وقادراً على البقاء إلى هذا الحد. وفي هذا السياق، تستكشف مجموعة جديدة من المقالات الكيفيات التي يبرر بها الجيش الإسرائيلي عنفه ضد الفلسطينيين -ولماذا يتقبل المجتمع الإسرائيلي بسهولة انتهاكاته. ويضم كتاب “مسلحون بالشرعية: مبررات للعنف العسكري في المجتمع الإسرائيلي” (بارديس للنشر، 2021)، مجموعة من المقالات الأكاديمية المكتوبة باللغة العبرية، من تحرير عوفرا بن إيشاي وياغيل ليفي. وهو إضافة مهمة طال انتظارها إلى جسم الأعمال الفنية والأدبية التي تتناول هذا الموضوع. ويركز الكتاب بشكل خاص على المؤسسة الإسرائيلية الأساسية التي يُجبر الفلسطينيون على التعامل معها -والتي لا تحظى، بغرابة، بما ينبغي من الاهتمام: الجيش الإسرائيلي.

* *
في أواخر آب (أغسطس)، عشية اجتماع نفتالي بينيت في البيت الأبيض مع الرئيس بايدن، أجرت صحيفة “نيويورك تايمز” مقابلة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، والتي حدد فيها أجندة حكومته. وقال بينيت في المقابلة: “هذه الحكومة لن تقوم بالضم ولن تشكل دولة فلسطينية، الجميع يفهمون ذلك. أنا رئيس وزراء لجميع الإسرائيليين، وما أفعله الآن هو العثور على الأرضية الوسطى -كيف يمكننا التركيز على ما نتفق عليه”.
بعد سنوات من “الخدمة الشفوية” وتشدق القادة الإسرائيليين بحل الدولتين أو ضم “الوطن التاريخي” في يهودا والسامرة (الأسماء التوراتية للضفة الغربية المحتلة)، أوضح بينيت أخيرًا الواقع الذي لا يمكن إنكاره في إسرائيل-فلسطين: بالنسبة للإسرائيليين، فإن الوضع الراهن هو الحل. كما أن الوضع الراهن هو القاسم المشترك الذي بُنيت عليه حكومته -الغراء الذي يُلصق معاً أجزاء تحالف يضم حزب “راعم” الفلسطيني، وحزب “ميرتس” الليبرالي، وحزب “يامينا” القومي الديني المؤيد للاستيطان.
ثمة مشروعان يكمل أحدهما الآخر يقعان في قلب الوضع الراهن: السيطرة العسكرية الإسرائيلية على ما يقرب من خمسة ملايين فلسطيني في الأراضي المحتلة، والاستعمار التدريجي للضفة الغربية. ومن الناحية الفنية، تنظر إسرائيل إلى الضفة الغربية على أنها منطقة “متنازع عليها” وليست محتلة، ومنذ فك الارتباط بغزة في العام 2005، لم يعد الإسرائيليون يعتقدون أنها تحت الاحتلال الإسرائيلي. لكن الجيش الإسرائيلي يسيطر، من الناحية العملية، على الضفة والقطاع.
كان جيش الدفاع الإسرائيلي هو القوة السيادية في الضفة الغربية منذ ما يقرب من 55 عامًا، ولقائد القيادة المركزية للجيش الإسرائيلي (القيادة الإقليمية التي تشرف على الضفة الغربية) سلطات تشريعية واسعة على السكان الفلسطينيين. ويُحاكَم المدنيون الفلسطينيون أمام محاكم عسكرية، والجيش هو الذي يصدر لهم التصاريح التي تسمح لهم بعبور الخط الأخضر والعمل داخل إسرائيل. وفي أماكن مثل الخليل أو “المنطقة ج” (الأجزاء من الضفة الغربية الواقعة تحت الحكم الإسرائيلي الكامل)، تكون السيطرة العسكرية مباشرة وواضحة للغاية، حيث يقوم الجنود بواجبات الشرطة اليومية؛ لكن هذه السيطرة تتخذ في أماكن أخرى أشكالًا أقل ظهوراً، أو يتم تنفيذها من خلال السلطة الفلسطينية كمقاول فرعي للاحتلال الإسرائيلي.
وفي حين أن الأمور أكثر تعقيدًا بعض الشيء في غزة، التي غادرتها إسرائيل رسميًا في العام 2005، من الواضح أن الحصار المضروب منذ قرابة 15 عامًا على القطاع هو سياسة سيطرة. وكما هو الحال في الضفة الغربية، فإن الجيش الإسرائيلي مكلف بإصدار التصاريح لسكان غزة، وإدارة تسجيلهم في سجل السكان، وتحديد كيف وأين يمكن للصيادين في غزة الصيد، والسيطرة على المجال الجوي، وتحديد البضائع التي ستدخل غزة أو تخرج منها.
ولا يسعى نظام السيطرة العسكرية هذا إلى -ولا يتوقع- الحصول على شرعية من السكان الخاضعين لحكمه. فالفلسطينيون ليسوا جزءًا من النظام السياسي الإسرائيلي، وليسوا ممثلين في مؤسسات الحكم، وليس لهم رأي في القرارات الكبرى المتعلقة بحياتهم. وبما أن الفلسطينيين لن يوافقوا أبدًا على مثل هذه الترتيبات بمحض إرادتهم، فإن الطريقة الوحيدة للحفاظ على هذا النظام هي فرضه بالقوة -من خلال استخدام العنف أو التهديد به.
شرعنة العنف
منذ الانتفاضة الفلسطينية الثانية وانهيار عملية أوسلو، انتقل العديد من الباحثين والصحفيين وصانعي الأفلام الوثائقية الإسرائيليين المنتقدين من البحث في الأسباب التاريخية للاحتلال -ومن الجدل حول أسسه الأخلاقية أو تخيل الترتيبات السياسية المحتملة التي ستحل محله- إلى البحث في كيفية عمل الاحتلال، وما الذي يجعله مرناً وقادراً على البقاء إلى هذا الحد.
بالنسبة للنشطاء من بين هؤلاء الإسرائيليين، شكل هذا التحول اعترافًا بدورهم المحدود في جلب الاحتلال إلى نهاية، بينما آذن بدخول استخدامات أكثر تطورًا لوصولهم المتمتع بالامتياز إلى المجتمع اليهودي والمؤسسات الإسرائيلية. كما أنه عمل كطريقة جديدة لطرح الأسئلة الأخلاقية والسياسية، بعد أن وصلت الطرق القديمة إلى طريق مسدود. وأخيرًا، وربما الأكثر مأساوية، هو أن هذا التغيير جاء نتيجة لابتعاد كل من المجتمعين، اليهودي الإسرائيلي والفلسطيني، عن بعضهما بعضا وتركيز كل منهما على النظر إلى الداخل.
وتشمل الأمثلة على هذا النهج الجديد فئة من الكتب والأفلام الجديدة، بما في ذلك كتاب يائيل بيردا “حالة طوارئ: نظام التصاريح الإسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة”؛ وكتاب آدي أوفير وأرييلا أزولاي “حالة الدولة الواحدة: الاحتلال والديمقراطية في إسرائيل/ فلسطين”؛ وكتاب مايكل سفارد “الجدار والباب: إسرائيل وفلسطين والمعركة القانونية من أجل حقوق الإنسان”؛ وأفلام مثل “القانون في هذه الأنحاء”؛ و”كشك المشاهدة” للمخرج رعنان ألكساندرويتش.
“مسلحون بالشرعية: مبررات للعنف العسكري في المجتمع الإسرائيلي”، هو كتاب يضم مجموعة مقالات أكاديمية مكتوبة باللغة العبرية، من تحرير عوفرا بن إيشاي وياجيل ليفي. وهو إضافة مهمة طال انتظارها إلى هذا الجسم من الأعمال. وهو يركز على المؤسسة الإسرائيلية الأساسية التي يُجبر الفلسطينيون على التعامل معها -وهي واحدة لا تحظى، بغرابة، بالقدر الذي تستحقه من الاهتمام: الجيش الإسرائيلي.
بن إيشاي هو رئيس سابق لقسم علم السلوك في جيش الدفاع الإسرائيلي. وليفي، أستاذ علم الاجتماع في الجامعة المفتوحة في إسرائيل، هو واحد من أكثر المفكرين أصالة وإثارة للاهتمام في تناول العلاقات بين الجيش الإسرائيلي والمجتمع الإسرائيلي. ومنذ أكثر من عقد من الزمان، نشر عمودًا يحلل فيه الدور الذي تلعبه المنظمات غير الحكومية لحقوق الإنسان في تطبيع الاحتلال، حيث قال إن وجود جماعات حقوق الإنسان يساعد في الواقع على سيطرة الجيش الإسرائيلي على سلوك جنوده -في شكل من أشكال خصخصة رقابة الدولة على قواتها المسلحة. وأتذكر مقال ليفي الذي أغضب بعض أصدقائي الذين يعملون في هذه المنظمات. ومع ذلك، مع مرور السنين، وبينما شرعت تلك المجموعات نفسها في التركيز على المناصرة والعمل السياسي الأكثر صراحة والذي يهدف إلى مهاجمة الاحتلال كنظام بدلاً من محاولة التخفيف من انتهاكات حقوق الإنسان الفردية، أصبح من الواضح أنها أدركت أيضًا أن ليفي كانت لديه وجهة نظر معقولة.

الد