سورية .. صراع على دولة أم مجتمع؟

سورية .. صراع على دولة أم مجتمع؟

123537632_393760c

تتشكل الدول ضمن منظومات استراتيجية معقدة متداخلة بين الاقتصاد والسياسة والثقافة، تتكتل في سياقات تنافسية ضد بعضها. فهي تسعى إلى أن تتعاظم في حجمها، لأن ذلك يحميها من تنافس الآخرين، فقد قامت دول إمبريالية على تحطيم كوكب الأرض وتدمير بيئته المستدامة، وأوجدت حروباً، وأبادت شعوباً، واحتلت شعوباً وسرقت خيرات شعوب، وحولتها إلى مشاريع تجارية وسلع وبراءات اختراع. واختُزِلت الدول الحديثة في منظومات الشركات التجارية التي أصبحت دين الدول التي يجب ألا تؤدي محاسبتها إلى عقوبات مدمرة لها، بل توضح التطورات أنها من سيحاكم الدول قريباً. انظر، مثلاً، إلى اتفاقية الشراكة العابرة للمحيط الهادي (TPP). يتكثف مفهوم الدولة التنافسية في عملية تحويل كل شيء إلى شركات تجارية رابحة.
يطرح إخضاع الدول للشركات سؤالاً عن موقف هذه الشركات من المجتمعات الإنسانية؟ أين المجتمعات؟ أين القوى المجتمعية؟ في سياق القدرات التنافسية بين الدول، تصبح القوى المجتمعية المجال الحيوي للسيطرة عن طريق تفتيتها ثم إخضاعها، ما يحول المجتمع إلى مجرد اسم مستعار، أو ضمير مستتر بلا مضمون. من هذه الزاوية، ننظر إلى سورية على أساس تشكل الصراع على الدولة السورية، بصيغ لا مجتمعية.
طالما أراد النظام أن يُثبت أن حربه ليست مع ثورة، بل مع قوى تريد إسقاطه هو، أي أن النظام هو المستهدف، وليس بناء مجتمع سوري حداثوي. ولم تستطع المعارضة نفي هذ الأمر البالغ الحساسية، لأنها ارتبطت بتحالف مع قوى في الداخل والخارج، لا تؤمن بفكرة الثورة المجتمعية. بمعنى آخر، استطاع النظام أن يُثبت أن هدف خصومه إسقاطه وإحلال نظام دولة خليجي-أميركي-تركي محله، ويعني ذلك أن المعركة أصبحت حول تكتل دولي تنافسي على أنقاض المجتمع السوري.
اصطدمت الدول المتنافسة حول الانقسامات الجزئية المجتمعية في سورية حول ما إذا كانت تمثل حاجة إلى ولادة شيء جديد، فإن عدم الرغبة في فهمها والتعامل معها على أسس مجتمعية، و/أو التَسرّع في وضعها ضمن حبكة إقليمية و/أو قمعها، هو الذي حولها إلى ظواهر عنف، تحولت إلى انقسام شامل وكلي، أدى إلى حرب أهلية.
تغير نطاق الثورة السورية إلى ثورة لا مجتمعية وبلا قيادة ثورية، ما أدى إلى تحولها إلى حقل لاستزراع تناقضات “الدولتية” العربية والتناحرات وتصفية الحسابات، بل القصاص والثأر تقوده دول عربية متصارعة. ثورة فقدت مشهدها الثوري، وارتسمت في مشهد قتالي في محاولة يائسة لرسم خيوطه التحررية. واختُزِل الصراع في مشهد قتالي عنيف من الطرفين، وأصبح خارج السياقات المجتمعية الذي أفَقَد المجتمع السوري السياق الثوري، وانكشف على مزايدات وصراعات أيديولوجية، أصبحت مادة دسمة للمحتوى الإعلامي.

أصبحنا أمام معايير غير ثورية، ففي ظل عجز المعارضة على استعادة المجتمعي في الثورة السورية، وإصرارها على إسقاط النظام، تُثْبِت قيادة المعارضة أنها جزء من حبكة إقليمية تسعى لا الى ثورة مجتمعية، بل الى إبدال دولة بدولة كما يقول النظام. فتح هذا النوع من الخصومة السياسية إلى تموضع المعارضة والنظام في سياق صراع قوى دولية، تَمّ فرضها على الجميع.
انتقال السلطة من الدولة إلى المجتمع، ومن ثم إلى دولة جديدة أمر غير وارد، وانتقال السلطة داخل قوى الدولة نفسها أمر غير وارد أيضاً، إذاً أصبحت السلطة لحظة سكون ستاتيكي، عصية على التغيرات المطروحة، في ظل مجتمع فقد قدرته على حياكة بنيته. لذلك، تمر كيمياء الصراع على الدولة في حالة انشطار متسارع في طريقه إلى أن يتداعى في انفجارات أخطر. أصبح العنف اللغة الوحيدة في غياب حل سياسي. لم يعد حراكاً شبابياً، أو ربيع سورياً، أو تحركات باتجاه عصيان كلها تم نفيها من الوجود.
لم تعترف أميركا بالمعارضة السياسية و/أو المسلحة بديلاً، يمكن أن تراهن عليه في بناء دولة بديلة عن الدولة الحالية. وقد تعزز هذا، بسبب أن الحركات “الجهادية” القتالية عصية على السيطرة، لأنها مخترقة من جهاتٍ عديدة، وتعصف بينها خلافاتٌ لا يمكن حلها، فهي عنصر خَطر، يتعاظم في بنية حاضنة له من قوى داخل كتلة المعارضة السورية، من الممكن فقط توظيفها تكتيكياً، وليس استراتيجياً.
أثبتت السياسة الأميركية أنها تعمل على إنضاج واقع ما من قلب الصراع، معتمدة في ذلك على عامل الوقت. دعنا ننتظر ونراقب ونتدخل عندما تنضج الأمور. وقد تعزز هذا الرأي عند الأميركان، بعد النتائج المخيبة من تجربة العراق وليبيا، وبعد فشل تجربة “الإخوان المسلمين” في مصر، وهم الذين استطاعوا أن يُنظّموا صفوفهم ويحققوا فوزاً في الانتخابات، لكنهم لم يستطيعوا منع تشكل كتلة وطنية شعبية معارضة أطاحتهم في أقل من عام، ولولا وجود “دولة مصرية قوية”، لكانت الفوضى النتيجة الحتمية. وإن حدث الأمر نفسه في سورية في غياب دولة مركزية قوية، فإنه سيشكل خطرا على استقرار الحدود مع “إسرائيل”. لذلك، أرادت أميركا استدامة الصراع، وليس حله.
بعد توقيع الاتفاق النووي بين إيران والدول الغربية وأميركا، استطاعت إيران أن تثبت أنها دولة قوية، وأنها قادرة على أن توظف، إدارياً وتقنياً وتنظيمياً، قدراتها التي طورتها من قواها الذاتية في عمليات سياسية كبرى، ما يؤهلها في الدخول في تكتلات تنافسية كبرى. أصبحت إيران دولة مركز جاذب وثِقَل اقتصادي-سياسي.
ونتج عن هذا تغيير في زاوية النظر الأميركية الغربية إلى جبهة دول الخليج العربي، بسبب عدم توفر أسباب كافية للارتكان على قدراتها الإدارية واللوجستية والفكرية والتقنية التي تستوردها كلها من الغرب، وأن قوتها لم تتطور بفعل التنمية الذاتية لمجتمعاتها. لذلك، تبحث أميركا ودول الغرب عن تعزيز تكتلاتها التنافسية بقوى لديها حيوية ذاتية من داخلها. فهي لا ترى في دول الخليج مقدرة ذاتية على التعامل مع تعقيدات الملف السوري الذي هو أكثر حساسية من الملف اليمني. وقد أقنع ذلك كله أميركا بإبقاء كتلة الخليج في الساحة التقليدية، وأن تلعب في مكانها التقليدي رافداً للاقتصاد الرأسمالي.
وفيما يتعلق بروسيا، فإن دخولها المباشر يعكس مدى تعقيد مشهد الصراعات الدولتية حول سورية، حيث آل الصراع إلى دولة بدل دولة، أو دولة تبقى أو لا تبقى. أصبح التدخل لا بد منه أو ضرورة مقابل ضرورة. إنه صراع الضرورات الدولتية الذي يرى أن الواقع السوري يجب ألا يخرج عن هذا السياق، فلا المعارضة تستطيع أن تجلب سياقاً آخر ولا النظام قادر على إسكات المعارضة، فلا بد من أن نحل مسألة الدولة السورية، وبعدها نتحدث عن مستقبل المجتمع.
هذا هو العنوان الذي يهيمن على المشهد السوري: الدولة السورية أولاً، وليس المجتمع السوري. أراد التدخل الروسي أن يقول إنه ما دام الصراع على الدولة، وليس على مجتمع ديمقراطي حداثوي، فإن موسكو لن توافق على لعب دور المتفرج. لم يعد قائماً فكرة مجتمع متحرر، بفعل قواه الذاتية، بل الممكن هو دولة، تلعب دور سيطرة وتحكّم بالمشروع الاقتصادي-السياسي في المنطقة. ويعلم الروس أن أداة السيطرة والتحكم التنافسية هي محور أميركي- تركي- خليجي، ما يعني أن روسيا في مهب الريح من بوابة الدولة السورية.
لدى الروس قناعة راسخة أن الدولة التي تطالب بها المعارضة السورية وحلفاؤها ستشكل خطراً على روسيا، بل لديهم قناعة أخطر بأن المعارضة السورية لا تريد ولا تستطيع تقديم أية تعهدات موثوقة.

 خالد فارس

صحيفة العربي الجديد