حدود الدول وحدود الأديان

حدود الدول وحدود الأديان

545caf41ac99f570786234

ليس بين الدين والمجتمع، أيِّ دينٍ وأيِّ مجتمع، تَنَاسُبٌ أو تَطابُق على صعيد الجغرافيا، فالمساحات بينهما تختلف وتزيد، مع الزمن، اختلافاً بمقدار ما يتّسع نطاقُ معتنقي هذا الدين أو ذاك، ونطاقُ انتشارهم في المعمور. فلقد نجد من الأديان ما يخترق مجتمعاتٍ/دولاً عدّة، تدينُ به شعوبُها أو أقسامٌ من شعوبها، وتلك حال الأديان الثلاثة التوحيدية وأديان آسيوية كبرى مثل البوذية أو الهندوسية. وقد نجد مجتمعاً ما متعدّد الأديان، وتلك حال أكثر مجتمعات الأرض اليوم. وليس من تناقُضٍ بين هذه الملاحظة/الواقعة وبين غَلَبَةِ دينٍ ما على سكان مجتمع أو منطقةٍ أو إقليم، فهذه الغلبةُ تَشْهَدُ، من وجْهٍ، للطبيعة الأفقية – العابرة للمجتمعات – لدى دينٍ من الأديان (الإسلام في المجالين العربي والإسلامي، والمسيحية في المجالين الأوروبي والأمريكي)، ولكنها لا تلغي- من وجهٍ ثان- حقيقة مُجَاوَرَةِ دينٍ آخر، أو أديانٍ أخرى، للدين الغالب في مجتمع ما.

هذه واقعةٌ تاريخية عريقة لم تستطع وقائعُ السياسة والحرب، والصدام بين الأمم، أن تغيّر منها كثيراً: لا في العهد الوسيط ولا في العصر الحديث. ربّما كان الاستثناء الكبير، الذي يُعْتَدّ به في باب تغيُّرات الجغرافيا الدينية، هو مَحْوُ الإسلام من إسبانيا، بعد حروب الاسترداد Reconquista، وفرض التنصير القسري على مَن تبقى من العرب هناك – مسلمين ويهوداً- وإلى جانبه، تغيير الديموغرافيا الدينية في فلسطين، منذ الاغتصاب الصهيوني وتكثيف الهجرة اليهودية، على النحو الذي نَقَل اليهودية من دينٍ ثالثٍ في المرتبة – بعد الإسلام والمسيحية – في فلسطين إلى دينٍ أوّل. والاستثناء الثاني- ولكن المحدود في النتائج – هو ميلاد البروتستانتية داخل المسيحية في غرب أوروبا وانتقالها – امتداداً- إلى شمال القارة الأمريكية ثم إلى أستراليا. ولكن هذا التغيير ما مَسَّ المسيحية كدين، وإنما مسَّ سلطان الكاثوليكية بالذات، التي وجدت نفسها تفقد الكثير من مناطقها ورعاياها بعد الإصلاح الديني والحروب الدينية. ولعلّ بعضَ شبهٍ لهذا نجده، في الزمن عينِه، في حالة إيران الصفوية في بدايات القرن السادس عشر ؛ فلقد سعتِ الأسرة الصفوية في تغيير مذهب إيران الرسمي من السّنّة إلى الشيعة قصد التمايز عن الدولة العثمانية السنّية: غريمها التاريخي. وما كان لهذا التغيير أن يُحجّم الإسلام في إيران- شأن التغيير الذي أحدثته البروتستانية في المسيحية – لكنه أتى بالتحجيم على سلطان السّنّة في واحدٍ من أعرق مراكزها في أرض الإسلام.

التّغيُّر الذي حصل أصاب الدول والممالك والإمبراطوريات، في جغرافيتها الكيانية، ولم يُصِب الجغرافيا الدينية أو جغرافيا الأديان. انفرطت كيانات امبراطورية عدة، منذ الدولة الرومانية حتى الدولة العثمانية (بل الدولتين السوفييتية واليوغوسلافية)، ومَلَكِياتٌ كبرى تفككت في الامتداد، فيما ائْتَلَفَتْ دولٌ جديدة – منذ القرن الثامن عشر حتى اليوم- من إمارات ومقاطعات على أساسٍ قوميّ أو وطني، مثلما قامت دول جديدة على مثال دولٍ اتحادية – فيدرالية أو كونفدرالية – يُجافي نموذجُها التوحيدي نموذجَ الدولة الوطنية Etat-Nationalالذي أطلقته الثورة الفرنسية.

وحدث مثل هذه التغييرات في عالم الإسلام: تفكّكت الإمبراطورية العثمانية وانفرط عقدها، وتَوَلَّد من ذلك قيام دول عدَّة: مستعمَرة أو مستقلة، ذات أغلبية إسلامية (كما في العالم العربي) أو ذات أغلبية مسيحية (كما في البلقان) ؛ وفقدت إيران- قبل ذلك – بعض مناطقها في آسيا الوسطى لصالح روسيا ؛ وانشق مسلمو الهند ليشكلوا كياناً (باكستان)، وانشق قسمٌ من هذا الكيان على أساسٍ قومي (بنغلاديش) ؛ واستقلت جمهوريات آسيا الوسطى (السوفييتية سابقا) بعد انفراط الاتحاد السوفييتي ؛ ثم انفصلت البوسنة والهرسك – بعد حرب دموية – عن صربيا…إلخ. لكن هذه التغييرات الجيوسياسية الكبيرة في خرائط الدول والمجتمعات لم تستجرّ معها تغيّرات نظير في خريطة الانتشار الديني، ما خَلاَ التغيّر في توزيع ولاءات أتباع الأديان على الدول.

ما يقال، هنا، عن جغرافيا الدين الواحد وصلتها بتغيّرات الجغرافيا السياسية، يقال عن المذاهب والطوائف داخل الدين الواحد وصلة جغرافية توزيعها بالجغرافيا السياسية المتحوّلة. لا مناص، في هذه الملاحظة، من التنبيه إلى أن خريطة انتشار الطوائف والمذاهب تعرّضت إلى تعديلات عدّة تغيّرت معها صورة ذلك الانتشار، من دون أن يؤثر ذلك في جغرافيا الدين نفسه. حدث ذلك في العهد الوسيط والعصر الحديث، على السّواء، نتيجة عوامل عدّة: الاضطهاد الديني لأقليات دينية من قِبل الأكثرية داخل الدين نفسه (في مناطق جغرافية بعينها)، ميلاد طوائف دينية جديدة (البروتستانتية مثلاً)، الحروب والتهجير القسري للسكان من مناطقهم إلى مناطق أخرى، الهجرات – الطوعية أو الاضطرارية – وما يستتبعها من انتقال أتباع مذهب إلى مناطق جديدة… إلخ. غير أن مجموع هذه التغيرات في خريطة انتشار المذاهب لم تكن، في أيّ لحظةٍ، متناسبة مع تغيرات الجغرافيا السياسية. وحتى حينما كانت دولٌ تجنح لتبنّي مذهبٍ بعينه مذهباً للدولة، أو تسوِّغ قيامها به، كما في حالتيْ الفاتيكان و«الجمهورية الإسلامية» في إيران، كانت حدود المذهب – كحدود الدين – تفيض عن حدود الدولة التي «تنطق باسمه».

تؤدينا هذه المقدمات التاريخية إلى مدخلٍ إجرائي إلى إعادة وعي الصّلة بين الدينيّ والسياسيّ على نحو ما كانَتْهُ في التاريخ، بعيداً عن الهندسات الافتراضية والاستنتاجات الإسقاطية غير التاريخية. لم يقع تطابقٌ بين كيان الدين وكيان المجتمع والدولة، أي لم ينشأ مجتمع ودولة على حدود دينٍ واحدٍ ومذهب واحد. ظل الدين عابراً للحدود، حتى في النماذج الإمبراطورية الكبرى (الرومانية والعربية الإسلامية). ولم يقع، في الوقتِ عينِه، أن ساد دينٌ واحد في مجتمع واحد، أو مذهب واحد في مجتمع واحد ؛ كان أتباع أديان أخرى ومذاهب أخرى يجاورون، في المجتمع عينِه، أتباع الدين الغالب: الذي تكون له الهيمنة على غيره، أو أتباع المذهب الغالب الذي تعتنقه الأكثرية. ومعنى ذلك أننا أمام كيانيْن متمايزيْن: كيان الدين، بما يحويه من منظومة اعتقادات وقيم، وكيان المجتمع والدولة بما يحويه من علاقات مادية لا تَقْبَل الاختزال في الروابط الروحية.

توفّر لنا الخبرة العلمية المكتسبَة في ميدانيْ الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع السياسي -فضلاً عن النظرية الخلدونية في تحليل الاجتماع العربي الإسلامي – المواد النظرية والمفهومية الضرورية لتفسير ظواهر نشوء المجتمعات والدول، والعوامل والميكانيزمات الفاعلة في تشكيلها، بعيداً من فرضية الروابط الدينية. نحن، طبعاً، لا نستصغر شأن تلك الروابط، ولا تأثيراتها الكبيرة في نشوء الاجتماع السياسي، لكنّا نميل إلى حسبانها تأثيرات ثانوية إن قيست بتأثير عوامل أخرى مثل القرابة، والاشتراك في الموطن واللسان، ومحصّلة العيش المشترك بين الجماعات الأولى.

عبدالإله بلقزيز

صحيفة الخليج