في دبلوماسية الغذاء ومعركة السرديات

في دبلوماسية الغذاء ومعركة السرديات

لا أدري لماذا استفزني خلال الفترة القريبة الماضية تصريح أدلى به دبلوماسي أوروبي لإحدى وكالات الأنباء العالمية وقال فيه إن تحميل الرأي العام في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الغرب مسؤولية تفاقم الأزمة الغذائية بعد الحرب الروسية في أوكرانيا قد يمثل تهديدا “للتأثير الأوروبي” في المنطقة.

وأضاف الدبلوماسي أنه لهذا السبب سوف يطلق الاتحاد الأوروبي خطة تجمع بين “دبلوماسية الغذاء ومعركة السرديات”.

ما يزعج الأوروبيين هو محاولات روسيا إقناع البلدان العربية والأفريقية بأن العقوبات الغربية، وليس فقط الحرب ذاتها، هي التي تعيق وصول الصادرات الروسية والأوكرانية من الحبوب إلى المنطقة.

لكنه من الغريب أن تتولد عن هذا الانزعاج معركة من أجل العقول والقلوب بما يجعل مواجهة خطر الجوع في أفريقيا والعالم العربي جزءا من مواجهة سياسية وإعلامية أوسع بين الحلف الأطلسي وروسيا.

كان الغذاء دوما بالنسبة إلى الغرب من وسائل التأثير السياسي على الأصدقاء والأعداء. وقد كان في السابق من أسلحة الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي.

لكن الكلام اليوم عن “الدبلوماسية الغذائية” كوسيلة لتعزيز النفوذ الأوروبي في مناطق كان الكثير منها في السابق ضمن مستعمرات القارة العجوز، يعكس تفكيرا مصلحيّا ضيق الأفق إن لم يتسع لمقاربات أشمل.

ما يرتئيه الأوروبيون وحلفاؤهم الغربيون من مساعداته هو محاولة إخراج بلدان المنطقة من حيادها تجاه التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا.

شكل التصويت على لائحة طرد روسيا من المجلس الأممي لحقوق الإنسان يوم السابع من أبريل تعبيرا واضحا عن عدم حماس الدول العربية والأفريقية للاصطفاف وراء الموقف الغربي.

ما لا يقل عن 15 دولة عربية امتنعت عن التصويت أو لم تشارك في الاقتراع أصلا.

أما من القارة الأفريقية فقد امتنعت عن التصويت 24 دولة وعارضت اللائحة تسع دول.

الأمل أن تكون المواجهة العسكرية بنتائجها المأساوية بداية النهاية لمنطق مناطق النفوذ بمعناه التقليدي وبداية منطق آخر يوفر لأفريقيا والعالم العربي إمكانيات شراكة حقيقية مع أوروبا وغيرها من الدول

هل نحن بصدد المرور إلى مرحلة “الأصوات مقابل الغذاء”؟

استعمال الغذاء كوسيلة للتأثير السياسي والدبلوماسي من شأنه أن يعيد بلدان المنطقة عقودا عديدة إلى الوراء. يعيدها إلى فترة الستينات من القرن الماضي عندما كانت الولايات المتحدة تزود البلدان المستقلة حديثا بأكياس الحبوب وعلب الحليب المجفف وقد كتب عليها بالبنط العريض “مساعدة من الشعب الأميركي”.

ومن الصادم أن تربط أوروبا مساعدتها الغذائية بالصراع من أجل النفوذ.

ولا يخفي المسؤولون الأوروبيون، على حد قول أحد دبلوماسييهم، خوفهم من احتمال “خسارة” المنطقة بما يجعل بلدانها تبدو وكأنها مزرعة أو سوق يواجه الغرب احتمال “ربحها” أو “خسارتها” وكأنها أصلا ملك له.

كلام يذكّر المرء إلى حد ما بعقليات سادت خلال التقسيم الاستعماري للمنطقة في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. يخيّل لك أن تسمع رجع الصدى من ردهات مؤتمر برلين أو مفاوضات سايكس بيكو.

البعض في أوروبا يريد الحفاظ على غنائمه القديمة عبر كل السبل. وتطوير السرديات قد يكون ضمن هذه المعركة.

وكل الأطراف ضالعة في هذا الجانب من الحرب حول أوكرانيا. روسيا ضالعة فيها كما هي كذلك دول الغرب.

لكنه وبغض النظر عن الحرب الحالية، ليست هناك “سرديات” تضمن للأوروبيين استعادة مراكز نفوذهم أو تمنحهم الأفضلية المطلقة على منافسيهم القادمين من قريب ومن بعيد.

بالطبع كانت هناك علاقات تقليدية عريقة ووشائج وثيقة بين الغرب الأوروبي والأميركي والمنطقتين العربية والأفريقية. وخلال العقود الأولى بعد الاستقلال، أعطت الاتفاقيات العسكرية والمبادلات التجارية وروابط الثقافة والتعليم، بعد خروج الاستعمار من العالم العربي وأفريقيا، أسبقية التعاون للدول الأوروبية والولايات المتحدة. لكن تلك الأسبقية ما كان لها أن تدوم إلى الأبد وبشكل مطلق.

تطورت المصالح الاقتصادية والأمنية على مدى السنين واكتسب العرب والأفارقة ثقة في أنفسهم. واكتشفوا أنهم لم يعودوا يجدون في بعض الأحيان مبتغاهم كاملا في صيغ التعاون مع شركائهم الأوروبيين والأميركيين.

وهل كان أمامهم عندئذ غير البحث عن المزايا الإضافية التي قد يوفرها شركاء آخرون؟

الوضع الطبيعي للزعماء العرب والأفارقة هو أن يسعوا جميعهم لمصالح بلدانهم. فهم مسؤولون عن دولهم ومؤتمنون على مصالح شعوبهم وليس على مصالح الدول الأوروبية أو الولايات المتحدة.

الكثير من دول أفريقيا والعالم العربي ترى أنه من الحكمة عدم وضع كل بيضاتها في سلة واحدة. ومنظور التنافس على مناطق النفوذ مع روسيا والصين الذي يعتمده الأوروبيون والأميركان، لا يلزم بلدان المنطقة التي من حقها أن تختار بحرية مع من تتحالف ومع من تتعاون.. كل واحدة حسب مصلحة دولها وشعوبها. بالضبط مثلما تتصرف أوروبا والولايات المتحدة.

هذه المرة يبدو أن أوروبا استفاقت متأخرا ليس فقط على تراجع مساحة نفوذها في الخارج وإنما أيضا على اهتزاز السرديات التي كانت تبرر الاعتماد المطلق للبلدان العربية والأفريقية على حلفائها الغربيين.

ليس لأن غزو روسيا لجارتها يتطابق ومقتضيات القانون الدولي أو لأن منطق القوة كمحدد لفض النزاعات في العالم يمكن أن يضمن الأمن والاستقرار الدوليين.

فلا جدال أن عدم احترام سيادة الدول وحرمتها الترابية يفتح باب جهنم على الجميع بما فيها روسيا.

واللجوء للقوة العسكرية، سواء كانت عبر قوات حكومية أو شركات خاصة للمرتزقة، لا يمكن أن يشكل نموذجا للبلدان العربية والأفريقية يمكن أن تحتذيه في المستقبل لمعالجة أزماتها وخلافاتها الحدودية.

ما يرتئيه الأوروبيون وحلفاؤهم الغربيون من مساعداته هو محاولة إخراج بلدان المنطقة من حيادها تجاه التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا

يحتاج الغرب لمراجعة سردياته. بعض المشكلة هو أن الدول العظمى ومن بينها أوروبا تعتقد أحيانا أن الدول الأصغر حجما لها ذاكرة قصيرة. الدول الصغيرة والفقيرة، وخاصة في أفريقيا والعالم العربي، لا تنسى الكثير. وهي تقارن بين تصرف الغرب في أوكرانيا مع تصرفه خلال الأزمات التي واجهت المنطقة العربية في السابق. فترى الكثير من المعايير المزدوجة.

معظم بلدان أفريقيا والعالم العربي لم تنس مثلا “السردية” الواهية التي قدمتها الولايات المتحدة لتبرير غزو العراق سنة 2003.

وزير خارجية أوغندا أوكيلو أوريام علق مؤخرا على التساؤلات التي طرحتها بعض الأطراف الغربية بخصوص المواقف الفاترة للكثير من البلدان الأفريقية تجاه مطالبات الغرب بدعم موقف الحلف الأطلسي ضد روسيا. ذكر الوزير الأوغندي وسائل الإعلام الغربية بالسردية العجيبة التي قدمها كولن باول في مجلس الأمن الدولي عشية الغزو قائلا “لقد خدعونا بخصوص العراق وقالوا لنا إن هناك أسلحة دمار شامل، ونحن ساندناهم” لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين.

ينسى الغرب أيضا أن الكلام بالنسبة إلى الكثير من أهل الثقافات المسماة بالتقليدية ليس مجرد مادة استهلاكية تكنسها رياح النسيان حال انتهاء مدة صلاحيتها.

مآثر المرء عند الكثير من المجتمعات العربية والأفريقية يتم تناقلها أبا عن جد كما يتم تناقل دواعي الشعور بالذنب والعار.

لما يندد الغرب بالغزو الروسي، وهو تنديد من حيث المبدأ مشروع جدا، يتناسى أن أوروبا والولايات المتحدة لم تتخل ولعقود طويلة عن منطق القوة ذاته.

أصبح الغرب فقط يخوض حروبه من عنان السماء ويترك حروب الأرض لبعض قواته الخاصة وللجيوش المحلية الحليفة. لم تتخل شركات التصنيع الحربي الغربية أبدا عن جني الأرباح الطائلة من بيع الأسلحة والعتاد. والشركات الأميركية تستعد لتلقي طلبيات ضخمة للمعدات العسكرية بعد الغزو الروسي لأوكرانيا.

قد تنسى أوروبا كيف سارت على منوال الولايات المتحدة في الاستئثار بأمصال كورونا شهورا طويلة في أوج الجائحة، ولكن من بقي في التسلل لا يمكن أن ينسى ذلك الانتظار المكلف.

لشهور كانت أوروبا بعيدة عن منطق الشراكة من أجل الازدهار والتنمية المستدامة التي كان يتحدث عنها ساساتها في اجتماعاتهم.

يحتاج الجميع اليوم بكل تأكيد إلى النظر نحو المستقبل إذ تقف البشرية على مفترق طرق بعد الحرب في أوكرانيا.

والأمل أن تكون المواجهة العسكرية بنتائجها المأساوية بداية النهاية لمنطق مناطق النفوذ بمعناه التقليدي وبداية منطق آخر يوفر لأفريقيا والعالم العربي إمكانيات شراكة حقيقية مع أوروبا وغيرها من الدول.

شراكة تسمح بتطوير زراعات البلدان العربية والأفريقية وتحقيق اكتفائها الغذائي.. كما تعطي معنى جديدا “لدبلوماسية الغذاء”.

العرب