يُمكن للعارفين بلغة الإشارات والجسد أن يقرأوا جيّدًا القلق الذي بدا واضحًا على وجه المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، حين مدّ الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، يده ببرود إليها، ونظراته موجّهة بعيدًا عن الضيفة الألمانية. ليس هدف الإشارة خفيًا، ميركل التي تمثّل المحرّك الرئيس للقارة الأوروبية هي التي تجد نفسها مجبرة لطرق أبواب أردوغان، طالبة الدعم والمساعدة. وأردوغان بدوره يمتلك القوّة والسلطة، وبيده مفاتيح حلّ أزمة اللاجئين المنطلقين من تركيا إلى عمق المنظومة الأوروبية.
آليات الضغط والابتزاز
قد يكون الطرف التركي المستفيد الوحيد من هذه الجولة في نهاية المطاف، وهذا ما سيتوضّح في الأسابيع القليلة المقبلة، واكتفى الطرفان، في نهاية المطاف وحتى اللحظة، على نشر بيانات بشأن النيات الحسنة، من دون ذكر أيّة نتائج محدّدة، على الرغم من تصريح أنقرة أنّها ستبذل جلّ جهودها لوقف تدفّق اللاجئين إلى القارة الأوروبية، في مقابل الحصول على مساعدات مالية، خصوصاً وقد بدا واضحاً حجم الضغوط التي تتعرّض إليها أنجيلا ميركل، والمعارضة الكبيرة التي تواجهها على الصعيدين، الوطني والأوروبي، إثر تصريحاتها الإيجابية التي أطلقتها قبل أشهر، داعمة استقبال اللاجئين الأجانب.
لكن، وحال التدقيق في الرقعة الجغرافية التي تغطّي الحدود التركية المشتركة مع سورية، سنجد أنّه من المستحيل منع تنقّل المواطنين السوريين وعبورهم إلى تركيا، وكذا المناطق الحدودية الوعرة المؤدية إلى بلغاريا وشواطئ بحر إيجه على الحدود اليونانية. ما يدعو إلى الدهشة والسخرية كذلك الاتفاق على تأسيس معسكر ترانزيت موحّد، لتجميع اللاجئين ومنح المستحقين حقّ اللجوء إلى أوروبا، وهو أمرٌ في منتهى الصعوبة. وكما هو معروف، هناك عدد محدود من السوريين يعيشون في معسكرات لجوء في تركيا بصورة دائمة، والغالبية تفضّل الانتقال إلى المدن الكبرى، للعمل والتجارة وممارسة الحياة، أمّا الراغبون بالهجرة إلى أوروبا فيصعب إلزامهم بالبقاء في معسكرات ترانزيت مؤقّتة.
في المقابل، وعدت ميركل، وباسم الاتحاد الأوروبي، تقديم تنازلاتٍ، أهمّها، تسهيل منح المواطنين الأتراك تأشيرات دخول للقارة الأوروبية. لكن هذا ليس جديدًا، فرجال الأعمال والصحفيون والعاملون في قطاع الفنّ يحصلون بسهولة على تأشيرات لزيارات متعدّدة لدخول دول المنظومة الأوروبية، كما وعدت ميركل بتنشيط المحادثات الأوروبية التركية لانضمام تركيا للمنظومة قبل نهاية العام الحالي، لكن الأهم من محادثات الانضمام الثنائية إنهاء الملفات المفتوحة، لكنّ الطرفين تمكّنا من إغلاق ملف واحد فقط في السنوات العشر الأخيرة.
كما ترى ميركل إمكانية التعاون مع تركيا، وهي دولة عضو وشريك في حلف الناتو، ومرشّحة للانضمام للمنظومة الأوروبية. ولكن، لا يُنسى أنّ تركيا نفسها كانت عضواً في حلف الناتو في ثمانينات القرن الماضي إبّان الحكم العسكري المتعسّف، في الوقت الذي بدأت فيه محادثات الانضمام للمنظومة خلال العام 2004، حين أقدمت تركيا على إحداث عمليات إصلاح واسعة وعميقة، وبدأت حكومة أردوغان، آنذاك، بمحادثات سلام جادّة مع الأقلية الكردية في البلاد. واليوم، بعد مضيّ قرابة عقد، تندلع مجددًا الحرب الأهلية مع الأحزاب الكردية المحظورة في تركيا، وفي مقدمتها حزب العمال الكردستاني، وأوروبا ترغب باستمرار العمل ببنود اتفاقية السلام مع الأكراد.
كما يبدو جليًا عودة الحكومة التركية إلى ممارسة الرقابة على وسائل الإعلام بشتّى أنواعها، وفقًا لبيانات منظمات دولية عديدة مهتمة بحرية الصحافة والإعلام، وارتفاع العنف والإرهاب في تركيا إلى درجات تقترب، في حدّتها، ممّا نشهده في إقليم الشرق الأوسط. تجدر الإشارة إلى أنّ ميركل لم تتطرق، في كلمتها في المؤتمر الصحفي في إسطنبول لشأن حقوق الإنسان وحرية الصحافة والإعلام في تركيا، وعدم التأكيد على القيم الأوروبية، بما في ذلك الديمقراطية والحريات العامة. ويرى بعضهم، والحال كما نقرأ، أنّ زيارتها قد تصبّ في صالح الحملة الانتخابية للرئيس أردوغان في نهاية المطاف.
مناورات تركية
لم يتأخّر رئيس الوزراء التركي، أحمد داود أوغلو، بالتعقيب، هو الآخر، على مطالب ميركل بشأن منع تدفّق اللاجئين إلى أوروبا، بعد يوم من زيارة المستشارة الألمانية، وقال، “لا يمكن لتركيا أن تحصر وتسجن اللاجئين فوق أراضيها إلى الأبد”. وطالب بمزيد من الدعم المالي الأوروبي لمنع عبور اللاجئين إلى دول المنظومة، على أن يتم تنشيط المحادثات الثنائية في ستّة مساقات لانضمام تركيا إلى الاتحاد، وأوضح أنّ تركيا ليست معسكر اعتقال، ولن تحظر وتمنع انتقال اللاجئين وسفرهم خارج حدود أراضيها فترة طويلة، لكي تتحقّق مآرب ورغبات أوروبا التي تخشى وترتعد من مواصلة تدفّق أفواج اللاجئين فوق أراضيها.
أصر داود أوغلو كذلك على تحديث ملف المساعدات المالية التي تمّ الاتفاق عليها مع بروكسل سنوياً، للتعامل بنجاح مع اللاجئين. وكان القادة الأوروبيون قد ناقشوا شأن وضع خطة عمل عريضة مع أنقرة، وناقشت ميركل إمكانية تقديم قرابة 3 مليارات يورو لتركيا، لحماية حدودها المشتركة مع القارة الأوروبية. وأضاف أوغلو أنّ هذه الأموال تكفي لسدّ الحاجة في المراحل الأولى، وسترتفع الكلفة في المراحل التالية، وعلى أوروبا أن تقدّم مزيداً من الأموال عند الضرورة، وحال المطالبة بذلك.
وعدت ميركل تركيا بتسريع عملية الانضمام للاتحاد الأوروبي، وتحسين ظروف منح تأشيرات الدخول للمواطنين الأتراك للقارة، على أن توقف تركيا عمليات تدفق اللاجئين. ومن المتوقع أن تواجه تركيا خلافاً مع قبرص، الدولة الجار والعضو في الاتحاد الأوروبي، والتي تعارض تجديد محادثات انضمام تركيا للمنظومة الأوروبية.
في الأثناء، تواجه ميركل تحديات من بعض أحزاب المكوّن الأساسي للتحالف الحكومي، وهدّدت زعيمة الحزب المسيحي الديمقراطي، غيردا هاسلفيلد، قائلة “لا يجب تقديم تنازلات كبيرة لتركيا، ولا مكان للحديث عن انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي”.
تهديد بسور برلين جديد
نشرت صحيفة الإندبنت البريطانية أنّ مجموعة برلمانية من الاتحاد الديمقراطي المسيحي الألماني ناقشت خطّة سرية للدفاع عن ألمانيا، تشمل رفع حاجز تقني من الأسلاك الشائكة على طول حدودها الشرقية، ولا يختلف الحاجز كثيراً عن جدار برلين الشهير. لكنّ ميركل رفضت، حتى اللحظة، هذه المبادرات المطروحة من حلفائها في السلطة، في وقتٍ بلغ فيه عدد النواب المطالبين بذلك 188 نائباً، وحزبها يملك 310 نواب في البرلمان الألماني، ما يزيد على نصف تعداد نواب الحزب.
وصرح النائب كريستيان فون شتيتين، صاحب هذه المبادرة، بضرورة وقف تدفّق اللاجئين الوافدين إلى ألمانيا، وأصرّ على طرح مبادرته للتصويت في الأسابيع القليلة المقبلة. من المتوقع أن تستقبل ألمانيا قرابة 1.5 مليون لاجئ حتى نهاية العام الحالي 2015، وشهدت المدن الألمانية مظاهرات عديدة بين معارض ومؤيد لوفود اللاجئين إلى البلاد. وتؤكّد هذه البيانات والمعلومات على حجم الأزمة التي تواجهها ميركل، الراغبة بالتوصّل إلى معادلة قادرة على إرضاء كل الأطراف. لذا، قرّرت اللجوء إلى أنقرة لطلب المساعدة، والاستجداء لوقف أفواج اللاجئين العابرين إلى جبال البلقان، متّجهين إلى ألمانيا والنمسا تحديدًا بكل الطرق والوسائل الممكنة.
وأكّد رئيس المفوضية الأوروبية، جان كلود يونكر، عدم وجود بدائل عن التعاون مع تركيا لمواجهة أزمة اللجوء، في اجتماعات القمم المتتالية في بروكسل، وقال إنّ الاتحاد الأوروبي وتركيا توصّلا إلى اتفاق مبدئي، لوقف موجات الهجرة المتواصلة إلى أوروبا. وستبذل بروكسل كل الجهود الممكنة لتحقيق هذا الهدف، ويبدو الاتحاد مستعدًّا لدفع كلفة هذه الفاتورة، لعدم وجود بدائل في الوقت الراهن، على الرغم من العلاقات المتوترة مع الحكومة التركية، بسبب سياساتها المتناقضة مع توجهات الاتحاد الأوروبي، وقيمه الديمقراطية.
تقارب حذر مع أنقرة
يترتب على تركيا وفق اتفاقية التفاهم مع الطرف الأوروبي بناء مزيد من مراكز اللجوء، ومكافحة عصابات تهريب البشر، ورفع مزيد من الحواجز التقنية على حدودها المشتركة مع أوروبا. في المقابل، طالبت تركيا، عدا عن كلّ ما ذكر، بدمجها في قائمة الدول المستقرة، ما يعني اعترافاً سياسيًا ضمنيًا بأنّ تركيا تضمن وملتزمة بالدفاع عن حقوق الإنسان، ويعني كذلك أنّها لا تمارس العنف والملاحقة على خلفيات سياسية، وهذا مخالف للحقائق في الواقع، وهناك خلاف أوروبي بشأن هذه النقطة تحديدًا، التي لم تخضع للنقاش في اجتماعات القمّة حتى اللحظة. وتنظر حكومات أوروبية بريبة لهذا المطلب، أمّا بشأن تسهيل منح التأشيرات على نطاق أوسع، فيحتاج الاتحاد لاتخاذ سلسلة من الشروط المبدئية، قبل الشروع بتطبيق هذه الإجراءات.
على الصعيد الأوروبي، هاجمت ميركل دول أوروبا الشرقية، مستهجنة رفضهم استيعاب حصّتهم من اللاجئين، وفق الخطّة التي وضعتها بروكسل، للتخفيف من العبء الثقيل الذي تتحمله ألمانيا والنمسا اللتان استوعبتا غالبية اللاجئين الذين وصلوا إلى حدودهما. واضافت ميركل أنّ هناك ضرورة لمزيد من المباحثات، لإدراك هذه الدول حجم مأساة اللجوء التي طاولت القارّة برمتها، واعتبار شأن استقبال الهاربين من الموت والدمار واجباً إنسانيًّا، وإحدى القيم والمبادئ الأوروبية، كما حاولت ميركل إقناع رئيس الوزراء الهنغاري، فكتور أوربان، بجدوى حماية الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي، بدلاً من التقوقع والانغلاق داخل القارة الأوروبية، وذلك بعد تهديد أوربان بإغلاق حدود بلاده بالكامل مع كرواتيا، إذا رفضت بروكسل إلزام اليونان بتحسين رقابتها لحدودها البحرية المشتركة مع تركيا.
نقاط تماس ساخنة
للمرّة الأولى، أعربت ميركل عن تفاؤلها بشأن تأسيس نقاط تماس ساخنة، تقوم بعمليات تسجيل الوافدين من اللاجئين، وفرز المرغوبين لمواصلة سفرهم إلى أوروبا بطريقة شرعية وقانونية، والإبقاء على المحظورين والمشبوهين في هذه المراكز، على أن تعيدهم طائرات عسكرية إلى أوطانهم، أو إلى المناطق التي يمكنهم العودة إليها، لكن مركز جزيرة لامبيدوزا وحده يعمل وفق المعايير المذكورة.
أوضح رئيس المفوضية الأوروبية، جان كلود يونكر، كذلك أنّ العمل جارٍ لرفع صلاحيات الوكالة الأوروبية لرقابة الحدود “فرونتكس”، لكي تتمكن، هي الأخرى، من اتخاذ القرارات الميدانية لمنع عبور اللاجئين أو السماح به. وعلى الرغم من التفاؤل الألماني، فشل قادّة أوروبيون عديدون من التوصل إلى موقف موحّد بشأن التأسيس لمراكز تماس ساخنة، لأنّ الجدوى ممكنة، حال إجبار اللاجئين الانتظار في هذه المراكز، حتّى صدور وثائق اللجوء الرسمية، وهذا مطلب طوباويّ، يتعذّر تنفيذه في الوقت الراهن. لذا، يظهر الدور التركي الرائد لقدرته النسبية على رقابة التجمّعات الكبيرة من اللاجئين فوق أراضيه، وإمكانية لعب الحكومة التركية الدور المنشود.
خيري حمدان
صحيفة العربي الجديد