التغيرات الاجتماعية تجبر الأسر الجزائرية على إعادة ترتيب أولوياتها

التغيرات الاجتماعية تجبر الأسر الجزائرية على إعادة ترتيب أولوياتها

يجبر تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية العديد من الأسر الجزائرية على التضحية براحة أطفالها مقابل الحصول على القليل من المال، وتدفع بعض الأسر أبناءها إلى العمل الموسمي كبائعين على شواطئ البحر، ما يعمق أزمتهم ويشعرهم بالحرمان من الراحة والاستجمام مثل سائر أقرانهم. وفي الجزائر يدعو ناشطون في المجتمع المدني إلى المزيد من الاهتمام بالطفولة.

الجزائر – لم يعد فصل الصيف فرصة للراحة والاستجمام كما جرت العادة لدى غالبية الأسر الجزائرية؛ فتغير الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وحتى الطبيعية، حكم على بعض العائلات بأن تضحي براحة أطفالها مقابل القليل من المال.

وصار الصيف في الجزائر مقرونا بفترة الانقباض بسبب تراجع الخدمات على مستوى التزود بالمياه وتوزيع الكهرباء، ونتيجة الحرائق التي تدمر الأرزاق والممتلكات، ولولا فرصة الوظائف الموسمية لبات فصلا غير مرغوب فيه تماما.

ورغم أنه حظي بحملة تضامن واسعة من طرف الجزائريين إلا أن الطفل بائع الفطائر في أحد أحياء جيجل يبقى يمثل عينة من قطاع عريض من الجزائريين الذين تتجلى معاناتهم الاجتماعية والأسرية في فصل الصيف والراحة؛ فهذا الطفل استغل فرصة الاستجمام للاسترزاق البسيط وتحقيق عائد إضافي لعائلته، إلا أن مكانه الطبيعي هو أن يكون كغيره من الأطفال المستمتعين بالشمس والبحر.

ولئن أظهر الطفل قناعة ووعيا كبيرين بضرورة ممارسة مهنة موسمية يعيل بها نفسه وعائلته، وأظهر رزانة يستلهم منها من يكبرونه سنا من العاطلين عن العمل، فإن نبرة الحزن كانت عميقة لديه لأنه سيقارن نفسه في صمت مع الكثير من الأطفال والعائلات المحظوظة التي تأتي للاستجمام على شاطئ البحر وتشتري منه الفطائر.

تقلص المرافق والإمكانيات، إضافة إلى تدهور الوضع الاجتماعي لأغلب العائلات الجزائرية، يؤثر كثيرا على الأبناء

عبدالرحمن “الجيجلي”، كما بات يعرف في شبكات التواصل الاجتماعي، حظي بموجة تعاطف كبيرة من الجزائريين، حتى أن أحد رجال الأعمال تبرع بعمرتين لأمه وأبيه، ولو أن البعض رأى أن العمرة شعيرة دينية وليست لعبة “لوطو” تمنح للفائزين، وكان من الأجدر حسب هؤلاء أن توجه الإعانة إلى شيء آخر يحسّن حالة عبدالرحمن وعائلته اجتماعيا، لكن الأمر أسعده كثيرا.

واذا كان الطفل الجيجلي محظوظا لأنه وجد من يكشف حالته الاجتماعية ويزيح الستار عن أوضاعه المتدهورة، فإن الآلاف من الأطفال في الجزائر لم يجدوا لا فرصة بيع الفطائر ولا الاستجمام على الشاطئ، لأنهم أبناء عائلات معوزة تقيم في مناطق داخلية يحاصرها ضنك الحياة وتدهور الخدمات، فتجدهم مشتتين بين الشوارع وبين البحث عن دلو ماء لأن العطش مستشر في أحيائهم وأريافهم.

وتكفي نظرة في هذا الحي أو ذاك من هذه المدينة أو تلك، لتجد الأطفال الأبرياء هائمين على وجوههم بدلائهم بحثا عن الماء لأن العنكبوت نسج خيوطه على حنفياتهم، ولم يعد متوفرا كما عهدوه. وبين الشقاوة والبراءة يقضي هؤلاء ساعاتهم وأوقاتهم في البحث عن ملء دلائهم، فهمهم الوحيد هو توفير الماء، أما مجرد التفكير في الراحة والاستجمام فهو طموح محظور لأن مستوى أسرهم الاجتماعي لا يسمح بذلك ولم يكن يوما ما ضمن تقاليدها.

وفي بلدة جانت بأقصى جنوب البلاد تكفلت هيئة محلية بنقل مئة طفل من أجل التخييم في إحدى مدن الشمال، لكن إحدى الحافلتين تعطلت في منتصف الطريق، واضطر المنظمون إلى حشر الجميع في حافلة واحدة، فأظهرت الصور أطفالا صغارا في وضع مثير للشفقة وكأنهم في مدجنة تلفحهم شمس الصحراء ورمالها القاسية.

ويرى محمد معزوز، ناشط جمعوي ورئيس جمعية محلية، أن “تقلص المرافق والإمكانيات والوضع الاجتماعي أثر كثيرا على حقوق الأطفال في الراحة والاستجمام، فلقد صار الكثير من الآباء عاجزين عن دفع معاليم رمزية لا تتعدى 50 دولارا، لضمان أيام للترفيه والترويح عن أنفس أبنائهم ضمن الرحلات أو المخيمات التي دأبت الجمعية على تنظيمها”.

وبات الوضع يطرح بجدية حقوق الطفل الجزائري في أن يعيش حياته ويمارس حقه، فالخطاب المتداول من طرف الهيئات الرسمية لا يعكس الواقع المعيش، خاصة في فصل الصيف الذي تبرز فيه مظاهر قريبة إلى التشرد والمعاناة، ولعل السبب الرئيسي في ذلك حسب معزوز هو تراجع المرافق والإمكانيات العمومية مقارنة بالتزايد الديمغرافي، فالزيادة في عدد السكان لا يرافقها تطور في المرافق والإمكانيات سواء العمومية أو الخاصة للحفاظ على الطفولة خاصة في العطل الدراسية.

وقد أسهم التفاوت المسجل بين مختلف ربوع البلاد في تدهور أوضاع الأطفال في الجزائر؛ فإذا كانت المناطق الشمالية والساحلية تعاني نسبيا، فإن الطفولة في النواحي الداخلية والصحراوية وضعها مأساوي، خاصة وأن الطبقية الاجتماعية أصبحت واضحة بين الفئة المحظوظة من العائلات القادرة على توفير فرص الاستجمام لأبنائها وبين الغالبية التي تستسلم للأمر الواقع.

وصار فصل الصيف يكشف الواقع الاجتماعي الصعب الذي تتخبط فيه أغلبية الأسر الجزائرية، ولذلك تتمنى أن يكون بمثابة حلم قصير سرعان ما ينتهي، لأنها لم تعد تستطيع مقاومة متطلباته وتلبية شروطه، وتتمنى عودة الطقس إلى الاستقرار والأطفال إلى المدارس لخفض الضغط عن الأولياء.

وبين بيع الخبز المنزلي وبعض الحلويات التقليدية والفواكه على حواف الأسواق والطرقات وحتى العمل في المزارع، والدفع ببعضهم إلى المدارس الدينية لتحفيظهم القرآن الكريم، والاستعانة بهم في قضاء الحاجيات العائلية كالتزود بالماء، يقضي أطفال الأسر الفقيرة وقتهم. ويرفع ناشطون في المجتمع المدني أصواتهم منادين بوجوب الاهتمام بالطفولة في مواسم الفراغ الدراسي؛ فمن توفرت لهم الإمكانيات محظوظون، أما من لم يستطيعوا ذلك فيتوجب على المجتمع، وفي طليعته المؤسسات الرسمية، تسخير المزيد من الإمكانيات والمرافق لهم، لأن الترفيه والتسلية والترويح عن النفس جزء من التربية والتنشئة الصالحة للطفل.

العرب