بعد أحداث الخضراء … النظام السياسي العراقي إلى أين ؟

بعد أحداث الخضراء … النظام السياسي العراقي إلى أين ؟

بعد مرور عشرة أشهر على الانتخابات العراقية، أدى الخلاف بين التيار الصدري والإطار التنسيقي إلى اندلاع الأعمال الاحتجاجية، ما نتج عنه أن إعلان السيد مقتدى الصدر اعتزاله العمل السياسي بصورة نهائية بعدما وصلت الأوضاع السياسية الداخلية إلى حالة من الجمود السياسي وانسداد قنوات الاتصال والحوار بين القوى السياسية العراقية بمختلف اتجاهاتها، وهو ما أسفر عن إعلان السلطات العراقية، في 29 آب/ أغسطس 2022، فرض حظر تجوال شامل في جميع أنحاء البلاد، بعد أن اقتحم العشرات من أنصار الصدر القصر الرئاسي، وهو مبنى داخل المنطقة الخضراء المحصنة ببغداد. دعت قيادة العمليات المشتركة المتظاهرين إلى الانسحاب الفوري من داخل المنطقة الخضراء بهدف السيطرة على الأوضاع المتفاقمة ومنع تدفق المتظاهرين الجدد.خطاب قصير لا يتجاوز الدقائق الستة، ينهى أزمة عاصفة كادت أن تفتح أبواب الجحيم على العراق وشعبه. ففى ظهيرة الثلاثاء 30  آب/ أغسطس 2022، دعا السيد مقتدى الصدر أنصاره إلى الانسحاب فوراً من مواقع الاعتصام الذى استمر شهراً كاملاً أمام القصر الحكومى ومجلس النواب العراقي، معتبراً أن ما حدث من عنف فى الليلة السابقة والقتلى الذين قضوا والمصابين الذين سقطوا، قد أفسد الثورة السلمية لتياره، وأن القاتل والمقتول كلاهما فى النار.

جاء البيان القصير للسيد مقتدى الصدر حاسماً، أغلق صفحة دموية، ما أضفى بعداً جديداً فى مسيرة الصراع القائم بين التنظيمات والأحزاب السائدة لدى شيعة العراق من جانب، وبين مسيرة الصراع حول مستقبل العراق ككل من جانب آخر. وكلا الأمرين متشابكان لا سيما ما يتعلق بالخروج من الأزمة الراهنة المتمثلة فى كيفية حل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة، ووقف تشكيل حكومة تخضع للإطار التنسيقى وحسب، وانتخاب رئيس جمهورية جديد، خاصة وأن البرلمان ذاته لم يعقد بعد، ويتطلب حله موافقة ثلثى أعضائه، أو مذكرة خاصة بحله من رئيس الجمهورية يوافق عليها مجلس النواب العراقي.بعد الأحداث سريعة الوتيرة التي عاشها العراق يومي الاثنين والثلاثاء، يجب النظر إلى أين وصل العراق. فالتهديد الأولي لانزلاقه  بحرب شوارع قد تراجع، ولكن التهديد الأوسع للدولة ما زال قائماً، بل تفاقم. سهولة انتشار المسلحين في البلاد وعدم انصياعهم لأوامر قائد القوات المسلحة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي أظهر مجدداً عجز الدولة وضعف حيلتها في التعامل مع المسلحين.فمنذ إجراء الانتخابات التشريعية في تشرين الأول/ أكتوبر عام 2021 بسبب التجاذب بين التيار الصدري والإطار التنسيقي، خاصة أن كليهما يمتلك نقاط قوة مختلفة. على سبيل المثال، يستند التيار الصدري إلى ولاء قاعدة شعبية كبيرة من العراقيين، كما نجح الصدر في استمالة الشباب والمواطنين العراقيين غير المنتمين لتيارات سياسية بسبب رفضه لنظام المحاصصة وانتشار الفساد ورفضه التدخل الخارجي في الشئون العراقية، كما يمثل التيار الصدري كتلة كبيرة في الشارع العراقي، ويشير إلى ذلك فوزه بأكبر كتلة في الانتخابات التشريعية في أكتوبر 2021، قبل أن يستقيل نوابه من البرلمان في ظل خلافات حول تشكيل الحكومة الجديدة.على الناحية الأخرى، تستند قوى الإطار التنسيقي على شبكة من تحالفات قوى المال والسلاح، بالإضافة إلى تصاعد قوته بعد انسحاب الصدريين من مجلس النواب العراقي في يونيو 2022 وتعويضهم بنواب عززوا من الشرعية البرلمانية للإطار التنسيقي.

وبالتالي، يحاول كل طرف الاستحواذ والسيطرة على الحكومة بما يتناسب مع أجندته بعد أن فشلت الدعوات لإمكانية تشكيل حكومة الجديدة، ويمكن إرجاع هذا الأمر إلى أن أصل الخلافات السياسية بينهما بسبب تسمية مرشح رئاسة الوزراء، وتشكيل الحكومة المقبلة؛ حيث ترى الكتلة الصدرية أنها صاحبة الأحقية في تشكيل حكومة أغلبية وطنية، في حين تسعى قوى الإطار بالضغط لتشكيل حكومة توافقية، وأن تحصل كل الأطراف الشيعية على مناصب وزارية وفقًا إلى قاعدة المحاصصة السياسية، التي تأسست على ضوئها الحكومات العراقية منذ عام 2003، وهو ما نتج عنه انغلاق سياسي استمر طويلًا دون جدوى أو حل.وبعد المواجهات المسلحة وتراجع الخوف من اندلاع حرب شوارع، تعود الأنظار إلى العملية السياسية المعطلة في البلاد. فالعوامل التي أدت إلى الانفلات الأمني ما زالت قائمة، وأزمة الحكم تتصاعد بعد خروج الصدر من العملية السياسية، رغم أنه ما زال يؤثر عليها بشكل ملموس. الخطوات المقبلة، بما فيها قرار المحكمة الدستورية حول حل البرلمان وإعلان الأطراف السياسية الأخرى موقفها مما يدور، ستوضح ملامح المرحلة المقبلة.عرف العراق منذ الاحتلال الأمريكي له عام 2003 كثيرا من الأزمات المتداخلة والمركبة داخليًا وخارجيًا، ولكن السمة الرئيسية التي برزت على خلفية الأحداث الأخيرة تتمثل في احتمالية المواجهة المباشرة بين القوى السياسية المختلفة فالاحتجاجات والانقسامات سمة مميزة للشارع العراقي بسبب الجمود والانسداد السياسي، ولكن قد يتطور الأمر إلى المواجهة العسكرية المسلحة بين هذه القوى لنكون أمام صورة أخرى من إعادة إنتاج الأزمات بصورة أكثر تعقيدًا ودموية بسبب إمكانية حدوث صراع شيعي- شيعي على الأرض بعد دعوة الإطار التنسيقي أنصاره إلى الخروج بمظاهرات مناوئة لتظاهرات التيار الصدري.تُبرز الأحداث الدامية الأخيرة عن عمق تفاصيل الأزمة العراقية وارتباطاتها الخارجية، وتعقيداتها الداخلية، وبالرغم من احتواء الاعتصامات وما شاب فيها من عنف ودماء، تظل عناصر حل الأزمة ليست محل اتفاق القوى الرئيسية من أقطاب الشيعة، لكن المهم والجديد هو أن بعض الأفكار التى دعا إليها السيد مقتدى الصدر باتت محل تأييد لا لبس فيه من قِبل رئيس الجمهورية برهم صالح، ورئيس الحكومة المؤقتة مصطفى الكاظمى، فالأول وفى بيان له وبعد الإشادة بموقف مقتدى الصدر، أكد على أن “إجراء انتخابات جديدة مُبكرة وفق تفاهمٍ وطني، يمثل مخرجاً للأزمة الخانقة في البلاد عوضاً من السجال السياسي أو التصادم والتناحر”. والثانى أكد بدوره على “ضرورة وضع السلاح تحت سيطرة الدولة” وتشكيل لجنة تحقيق “لتحديد المسئولين عن وضع السلاح بيد من فتحوا النار على المتظاهرين”. وقد يضطر الكاظمى حسب قوله إلى إعلان خلو منصب رئيس الوزراء إذا استمرت إثارة الفوضى والصراع. ختاما، لم يعد النظام السياسي العراقي الحالي قادرًا على الاستمرار في أداء مهامه ووظائفه.

وحدة الدراسات العراقية

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية