نظام عالمي جديد تشكّله أزمة الطاقة ونقص الغذاء وارتفاع الأسعار

نظام عالمي جديد تشكّله أزمة الطاقة ونقص الغذاء وارتفاع الأسعار

فترة ما بعد الحرب الباردة والهيمنة الأميركية أحادية القطب استمرت من 1991 إلى أزمة 2008 المالية، أما فترة ما بعد التاريخ الأخير والتي سوف تمتد حتى فبراير من 2022، فإنها ستشهد عالما شبه متعدد الأقطاب.

الصين كنت تصعد بقوة وبسرعة، لكن حجم الاتحاد الأوروبي الاقتصادي ونموه قبل 2008 جعلاها واحدة من القوى العظمى في العالم. كما أدى نهوض روسيا الاقتصادي منذ 2003 واستمرار قوتها العسكرية إلى الرفع من شأنها أيضا، ما دفع بعض قادة العالم إلى الإشادة بالتعددية القطبية باعتبارها الهيكل العالمي الجديد.

لكن جيف دي كولغان الأستاذ المشارك في العلوم السياسية في جامعة براون، يرى في مقال له نشر في دورية ”فورين بوليسي“ أن الصراع المستمر على الطاقة بين روسيا والغرب يعني أن فترة التعددية القطبية قد انتهت الآن. ورغم أن ترسانة الأسلحة النووية الروسية لن تختفي، إلا أن الدولة ستجد نفسها شريكة صغيرة في مجال النفوذ الذي تقوده الصين.

وفي الآن نفسه، سيكون تأثير أزمة الطاقة الصغير نسبيا على الاقتصاد الأميركي غير مريح لواشنطن من الناحية الجيوسياسية، حيث سيؤدي انهيار أوروبا في النهاية إلى إضعاف قوة الولايات المتحدة، التي اعتبرت القارة منذ فترة طويلة صديقا. الطاقة الرخيصة كانت هي حجر الأساس للاقتصاد الحديث. ورغم أن قطاع الطاقة، في الأوقات العادية، يمثل جزءا صغيرا فقط من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي لمعظم الاقتصادات المتقدمة، إلا أن له تأثيرا كبيرا على التضخم وتكاليف التصنيع لجميع القطاعات بسبب انتشاره في الاستهلاك.

تلاعب بأسواق الطاقة

طاقة مكلفة للجميع في وضع عالمي متوتر 

أسعار الكهرباء والغاز الطبيعي تقترب في أوروبا الآن من 10 أضعاف متوسطها التاريخي في العقد الذي يسبق سنة 2020. ويرجع جل الارتفاع الهائل هذا العام إلى الحرب الروسية في أوكرانيا. وقد اعتمدت أوروبا، بما في ذلك المملكة المتحدة، إلى حدود سنة 2021 على الواردات الروسية لحوالي 40 في المئة من غازها الطبيعي بالإضافة إلى حصة كبيرة من احتياجاتها من النفط والفحم. ثم بدأت روسيا في التلاعب بأسواق الطاقة ورفع أسعار الغاز الطبيعي قبل أشهر من غزو أوكرانيا، وفقا لوكالة الطاقة الدولية.

وتكلف الطاقة في أوروبا ما يقرب من 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في الأوقات العادية، لكنها ارتفعت إلى ما يقدر بنحو 12 في المئة على خلفية ارتفاع الأسعار. وتعني التكاليف المرتفعة بهذا الحجم أن العديد من الصناعات في جميع أنحاء أوروبا تعمل على تقليص نشاطها أو إيقافه تماما.

متوسط معدل النمو السنوي للناتج المحلي بين 2009 و2020

0.48 في المئة في الاتحاد الأوروبي

1.38 في المئة في الولايات المتحدة

7.36 في المئة في الصين

ويواجه مصنعو الألمنيوم ومنتجو الأسمدة ومصاهر المعادن وصناع الزجاج مصاعب بسبب ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي. وهذا يعني أن أوروبا يمكن أن تتوقع ركودا عميقا في السنوات القادمة، لكن التقديرات الاقتصادية لمدى عمقه متباينة.

وكي نكون واضحين، فإن أوروبا لن تصبح فقيرة، ولن يتجمد سكانها ويموتوا هذا الشتاء. حيث تشير المؤشرات المبكرة إلى أن القارة تتخذ نهجا فعالا في خفض استهلاك الغاز الطبيعي وملء صهاريج التخزين المخصصة لفصل الشتاء. وقررت ألمانيا وفرنسا تأميم المرافق الرئيسية، بتكلفة كبيرة، لتقليل الاضطرابات التي يتعرض لها مستهلكو الطاقة.

الخطر الحقيقي الذي تواجهه القارة الأوروبية هو فقدان القدرة التنافسية الاقتصادية بسبب النمو البطيء، حيث اعتمد الغاز الرخيص على إيمان خاطئ بالموثوقية الروسية، وقد اندثر هذا إلى الأبد. وستتكيف الصناعة تدريجيا، لكن هذا التحول سيستغرق وقتا وقد يؤدي إلى اضطرابات اقتصادية مؤلمة.

ولا علاقة لهذه المشاكل الاقتصادية بالتحول إلى الطاقة النظيفة أو استجابة الاتحاد الأوروبي الطارئة لاضطرابات السوق الناجمة عن الحرب في أوكرانيا، بل يمكن إرجاعها إلى قرارات أوروبا السابقة لتطوير إدمان الوقود الأحفوري الروسي، وخاصة الغاز الطبيعي.

ورغم أن مصادر الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح يمكن أن تعوض في النهاية الوقود الأحفوري في توفير كهرباء رخيصة، إلا أنها لا تستطيع بسهولة أن تحل محل الغاز الطبيعي للاستخدامات الصناعية خاصة وأن الغاز الطبيعي المسال المستورد، وهو بديل يُروّج له كثيرا عن خطوط الأنابيب، أغلى بكثير. وبالتالي، فإن محاولات بعض السياسيين إلقاء اللوم على انتقال الطاقة النظيفة في العاصفة الاقتصادية الحالية في غير محلها.

فقدان القدرة التنافسية

اقتصادات أوروبا تعاني.. وحده التنين الصيني في تصاعد 

وتساهم الأخبار السيئة لأوروبا في مضاعفة الاتجاه الموجود مسبقا، فقد انخفضت حصة الاتحاد الأوروبي في الاقتصاد العالمي منذ سنة 2008. وعلى الرغم من تعافي الولايات المتحدة من الركود العظيم بسرعة نسبية إلا أن الاقتصادات الأوروبية عانت بشدة. واستغرق البعض منهما سنوات لإعادة النمو إلى مستويات ما قبل الأزمة. وفي المقابل، استمر نمو الاقتصادات في آسيا بمعدلات مذهلة بقيادة الاقتصاد الصيني الضخم.

وبلغ متوسط ​​معدل النمو السنوي للناتج المحلي الإجمالي في الاتحاد الأوروبي 0.48 في المئة فقط بين سنتي 2009 و2020 وفقا للبنك الدولي. وكان معدل النمو في الولايات المتحدة خلال نفس الفترة أعلى بثلاث مرات تقريبا، بمتوسط ​​1.38 في المئة سنويا.

ونمت الصين بمعدّل قوي بلغ 7.36 في المئة سنويا خلال نفس الفترة. والنتيجة هي أنه في حين أن حصة الاتحاد الأوروبي من الناتج المحلي الإجمالي العالمي كانت أكبر من التي سجّلتها الولايات المتحدة والصين في 2009، إلا أنها أصبحت الأدنى من بين الثلاثة اليوم.

◙ ترسانة الأسلحة النووية الروسية لن تختفي، إلا أن موسكو ستجد نفسها شريكة صغيرة في مجال النفوذ الذي تقوده الصين

وكان الاتحاد الأوروبي يمثل ما يصل إلى 20 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي في 2005. وسيصل إلى نصف هذا في مطلع الثلاثينات إذا انكمش اقتصاد الاتحاد الأوروبي بنسبة 3 في المئة في 2023 و2024 ثم استأنف معدل نموه الفاتر قبل الجائحة بنسبة 0.5 في المئة سنويا بينما ينمو باقي العالم بنسبة 3 في المئة، وهو المتوسط ​​العالمي لما قبل الجائحة. لكن حصة أوروبا من الناتج المحلي الإجمالي العالمي قد تنخفض بشكل أسرع إذا كان شتاء سنة 2023 باردا وكان الركود القادمشديدا.

والأسوأ من ذلك أن أوروبا متخلفة كثيرا عن القوى الأخرى من حيث القوة العسكرية. فقد تقاعست الدول الأوروبية في الإنفاق العسكري لعقود من الزمن ولا يمكنها بسهولة تعويض هذا النقص في الاستثمار. ويأتي أي إنفاق عسكري أوروبي الآن، للتعويض عن الوقت الضائع، على حساب تكلفة فرصة لأجزاء أخرى من الاقتصاد، مما قد يخلق المزيد من العوائق على النمو ويفرض خيارات مؤلمة بشأن تخفيضات الإنفاق الاجتماعي.

وضع روسيا أخطر من وضع الاتحاد الأوروبي. صحيح أن البلاد لا تزال تجني إيرادات ضخمة من مبيعات صادراتها من النفط والغاز، ومعظمها إلى آسيا، لكن من المرجح أن يتدهور قطاع النفط والغاز الروسي على المدى الطويل حتى بعد انتهاء الحرب في أوكرانيا. ويعاني باقي الاقتصاد الروسي بينما ستحرم العقوبات الغربية قطاع الطاقة في البلاد من الخبرة الفنية والتمويل الاستثماري الذي هو في أمس الحاجة إليه.

والآن، وبعد أن فقدت أوروبا الثقة في روسيا كمزود للطاقة، فإن إستراتيجية روسيا الوحيدة القابلة للتطبيق هي بيع طاقتها للعملاء الآسيويين. ولحسن حظها، توجد في آسيا الكثير من الاقتصادات النامية. لكن شبكتها من خطوط الأنابيب والبنية التحتية للطاقة مبنية حاليا للتصدير إلى أوروبا ولا يمكن أن تتحول بسهولة نحو الشرق.

وستحتاج موسكو سنوات والمليارات من الدولارات لإعادة توجيه صادراتها من الطاقة ومن المرجح أن تجد أنه لا يمكنها التحرك إلا وفقا لشروط بكين المالية. ومن المرجح أن ينتقل اعتماد قطاع الطاقة على الصين إلى الجغرافيا السياسية الأوسع، وهي شراكة تجد فيها روسيا نفسها تلعب دورا أصغر بشكل متزايد. ويشير اعتراف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الخامس عشر من سبتمبر بأن لنظيره الصيني شي جين بينغ “أسئلة ومخاوف” بشأن الحرب في أوكرانيا إلى فارق القوة الموجود بالفعل بين بكين وموسكو.

عالم جديد

أزمة الأمن الغذائي باتت مطروحة بشدة 

من غير المرجح أن تستمر أزمة الطاقة في أوروبا. ويؤدي الطلب على الوقود الأحفوري بالفعل إلى ارتفاع الأسعار في جميع أنحاء العالم وخاصة في آسيا، حيث يفوق الأوروبيون العملاء الآخرين على الوقود من مصادر غير روسية. وستكون العواقب قاسية بشكل خاص على مستوردي الطاقة من ذوي الدخل المنخفض في أفريقيا وجنوب شرق آسيا وأميركا اللاتينية.

يمكن أن يشكل نقص الغذاء وارتفاع أسعار المواد المتاحة مشكلة في هذه المناطق أكثر من مشكلة الطاقة. وقد أفسدت الحرب في أوكرانيا المحاصيل وطرق النقل لكميات هائلة من القمح والحبوب الأخرى. وأصبح لدى كبار مستوردي المواد الغذائية مثل مصر سبب للقلق بشأن الاضطرابات السياسية التي غالبا ما تصاحب ارتفاع أسعار المواد الغذائية.

◙ خلاصة السياسة العالمية هو أننا نتجه نحو عالم حيث أن الصين والولايات المتحدة هما القوتان العالميتان الرئيسيتان

وخلاصة السياسة العالمية هو أننا نتجه نحو عالم حيث أن الصين والولايات المتحدة هما القوتان العالميتان الرئيسيتان. وسيضر تهميش أوروبا عن الشؤون العالمية بمصالح الولايات المتحدة. حيث جل دول أوروبا ديمقراطية ورأسمالية وملتزمة بحقوق الإنسان والنظام الدولي القائم على ثوابت. كما قاد الاتحاد الأوروبي العالم في اللوائح المتعلقة بالسلامة وخصوصية البيانات والبيئة، مما أجبر الشركات متعددة الجنسيات على ترقية سلوكها في جميع أنحاء العالم لمطابقة معاييره. وقد يبدو تهميش روسيا أكثر إيجابية بالنسبة إلى مصالح الولايات المتحدة، لكنه يحمل في طياته خطر رد فعل بوتين، أو خليفته، على فقدان الدولة لمكانتها من خلال التحرك بطرق مدمرة وربما حتى كارثية.

وبينما تكافح أوروبا لتحقيق الاستقرار في اقتصادها، يجب على الولايات المتحدة دعمها أينما يكون ذلك ممكنا، بما في ذلك عن طريق تصدير بعض مواردها من الطاقة، مثل الغاز الطبيعي المسال. وقد يكون قول هذا أسهل من فعله، حيث لم يستيقظ الأميركيون بالكامل بعد لمواجهة تكاليف الطاقة المتزايدة بالنسبة إليهم. وتضاعفت أسعار الغاز الطبيعي في الولايات المتحدة ثلاث مرات هذا العام ويمكن أن ترتفع حيث تحاول الشركات الأميركية الوصول إلى أسواق تصدير الغاز الطبيعي المسال المربحة في أوروبا وآسيا. وسيتعرض السياسيون الأميركيون لضغوط لتقييد الصادرات للحفاظ على قدرة البلاد على تحمل تكاليف الطاقة إذا ارتفعت أكثر.

وفي مواجهة ضعف أوروبا، سيرغب صانعو السياسة في الولايات المتحدة في تكوين دائرة أوسع من الحلفاء الاقتصاديين المتشابهين في التفكير مع المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي. وقد يعني هذا تقرّبا أكبر للقوى المتوسطة مثل الهند والبرازيل وإندونيسيا. ومع ذلك، يبدو استبدال أوروبا صعبا. حيث استفادت الولايات المتحدة لعقود من المصالح الاقتصادية المشتركة والتفاهمات مع التكتل الأوروبي. وستواجه الولايات المتحدة مقاومة أشد لرؤيتها لنظام دولي مؤيد للديمقراطية على نطاق واسع.

صحيفح العرب