أستانة – تسعى كازاخستان للحفاظ على تحالفها الحالي مع روسيا رغم تزايد التوترات الثنائية. لكن افتقار موسكو لإمكانيات عكس نفوذها الاقتصادي والسياسي المتراجع على أستانة قد يدفعها في النهاية إلى التهديد باستخدام الإكراه (أو حتى التحرك العسكري) ضد البلاد.
وفي الأشهر التي تلت الغزو الروسي لأوكرانيا، أشارت العديد من الأحداث إلى تدهور في العلاقات الثنائية بين روسيا وكازاخستان.
وشهدت تدفقات النفط الخام في اتحاد خطوط أنابيب بحر قزوين أربع عمليات إغلاق غير متوقعة حتى الآن هذا العام بناء على طلب من مسؤولين روس لأسباب مثيرة للريبة، مما يغذي التكهنات بأن روسيا ربما تحاول أن تثبت لكازاخستان المخاطر المرتبطة عن تبنيها مواقف تتعارض مع موقف موسكو.
وتجتذب كازاخستان الأموال والاستثمارات الموجهة سابقا إلى روسيا، وتأمل البلاد في جذب 300 شركة أجنبية كبيرة تخرج من روسيا. وعُلّق خط أنابيب بحر قازوين مرات عديدة، وهو ما يُنظر إليه في كازاخستان على أنه ذو دوافع سياسية ويتعلق برفض الرئيس قاسم توكاييف تأييد الحرب الروسية.
كازاخستان تجتذب الأموال والاستثمارات الموجهة سابقا إلى روسيا، وتأمل البلاد في جذب 300 شركة أجنبية كبيرة تخرج من روسيا
ويرجح تقرير لمركز التوقعات الإستراتيجية الأميركي “ستراتفور” أن تسعى كازاخستان لتجنب أي صراع مع روسيا أو التقليل منه لحماية العلاقات الاقتصادية الوثيقة بين البلدين وتجنب استفزاز موسكو. ورغم الاحتكاكات الأخيرة، لا يوجد ما يشير إلى أن كازاخستان ستنكر رسميا أو تقلص علنا تحالفها السياسي والاقتصادي مع روسيا التي لا تزال واحدة من أكبر شركائها التجاريين. كما ستظل كازاخستان أيضا عضوا في الكتلة الدفاعية الروسية ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي والاتحاد الجمركي الروسي والاتحاد الاقتصادي الأوراسي. ويرجع ذلك إلى أن ترك هذه المنظمات سيؤدي على الفور إلى زعزعة استقرار الاقتصاد الكازاخي وخلق مسافة من روسيا من المرجح أن ترد عليها موسكو بالقسر والإكراه في المستقبل.
ومن المتوقع أن تفرض كازاخستان بشكل انتقائي العقوبات الغربية على روسيا لتجنب الوقوع تحت عقوبات ثانوية مع البقاء وسيلة للنشاط الاقتصادي بهدف التهرب من العقوبات الغربية على روسيا.
ورغم إصلاحات توكاييف المحدودة والخطاب المؤيد للديمقراطية فمن المرجح أن تظل كازاخستان دولة استبدادية ذات سجل ضعيف في مجال حقوق الإنسان، حيث ستظل السلطة السياسية في يد الحزب الحاكم في المستقبل المنظور مما يطمئن موسكو بأن توكاييف أو أي قوة سياسية أخرى لن ينخرطا في عمل مفاجئ قد يعرض نفوذها على الحكومة الكازاخية للخطر.
ومن المرجح أن تنفذ موسكو عمليات دعائية لإضعاف معارضة توكاييف والسماح للقيادة الكازاخية بإظهار نفسها على أنها قومية بما يكفي مقابل الحفاظ على العلاقات الاقتصادية والسياسية الوثيقة بين البلدين. وتجمع مكالمات هاتفية واجتماعات شخصية منتظمة بين توكاييف وفلاديمير بوتين.
ويرى تقرير “ستراتفور” أنه من المؤكد أن توكاييف سيضمن فترة ولاية جديدة مدتها سبع سنوات في الانتخابات المبكرة في كازاخستان في العشرين من نوفمبر، ومن المحتمل أن تكون بمثابة طمأنة بوتين الرئيسية على القوة المستقبلية لعلاقات موسكو مع أستانة.
ومع ذلك، تشير علاقات كازاخستان العميقة مع القوى الإقليمية إلى تراجع نسبي في النفوذ الاقتصادي والسياسي الروسي على أستانة. ورغم علاقات كازاخستان الوثيقة مع روسيا، طالما كانت سياستها الخارجية “متعددة الاتجاهات” تهدف إلى بناء علاقات مع القوى الإقليمية والعالمية الأخرى.
ويجدر التذكير بأن أردوغان شدد على أن لأمن أراضي كازاخستان وسلامتها أهمية خاصة بالنسبة إلى تركيا. كما شدد الرئيس الصيني شي جين بينغ في كازاخستان على أن بلاده تخطط لـ”حماية استقلال كازاخستان وسيادتها وسلامة أراضيها”.
وتنمو كازاخستان كطريق عبور بديل للشحن بين الصين والاتحاد الأوروبي يسمى ممر عبر قزوين. ويعكس تسهيل التجارة مباشرة بين الصين وأوروبا تنامي استقلال كازاخستان الاقتصادي عن روسيا.
وتساعد الصين في تطوير البنية التحتية وطرق النقل في كازاخستان، بما في ذلك الممر العابر لبحر قزوين. ولا تزال كازاخستان وجهة رئيسية لاستثمارات بكين ضمن مبادرة الحزام والطريق. وفي الآن نفسه، تراجعت الاستثمارات الجديدة لمبادرة الحزام والطريق في روسيا منذ الغزو الأوكراني، مما يؤكد اهتمام الصين المتزايد بآسيا الوسطى كممر عبور بديل إلى أوروبا. كما تعمل الشركات الصينية على توسيع موطئ قدمها بسرعة في قطاعات أخرى من الاقتصاد الكازاخي، على حساب حصة الشركات الروسية في سوق كازاخستان.
كازاخستان تسعى إلى لتجنب أي صراع مع روسيا أو التقليل منه لحماية العلاقات الاقتصادية الوثيقة بين البلدين وتجنب استفزاز موسكو
كما تساعد تركيا كازاخستان على تعزيز قدراتها الدفاعية، الأمر الذي من شأنه أن يعقد العمل العسكري الروسي ضد البلاد. وفي حين أن التأثير الأولي لإصلاحات توكاييف المحلية سيكون محدودا، فإنها ستؤدي أيضا إلى توترات مع موسكو.
ويشير خطاب توكاييف وأفعاله إلى أنه يحاول زيادة المشاركة الشعبية في العملية السياسية، في محاولة لتجنب تكرار الاضطرابات الاجتماعية واسعة النطاق التي هزت البلاد في يناير. وكان توكاييف يدفع أيضا لإبعاد كازاخستان عن الثقافة والهوية الروسية. وسيجعل تبني الرئيس الكازاخي للأفكار الغربية الليبرالية (مثل الديمقراطية وفصل السلطات) روسيا تشعر بالقلق من أن تصبح البلاد أكثر عرضة للتغيير السياسي. وعلى المدى الطويل، من المرجح أن يؤدي نظام سياسي أكثر ديمقراطية إلى ظهور حكومات قومية وشعبية بشكل متزايد من المرجح أن ترى في علاقات كازاخستان الوثيقة مع روسيا حاجزا أمام استقلال البلاد وتطورها في المستقبل.
وأشارت موسكو إلى موافقتها على التغييرات الداخلية لتوكاييف خلال محادثة هاتفية مطلع سبتمبر بين توكاييف وبوتين. ويشير هذا إلى أن الكرملين لا يعتقد أن الإصلاحات الوشيكة تشكل تهديدا مباشرا للعلاقات الثنائية. لكن علاقة بوتين الوثيقة مع توكاييف لن توفر وحدها أساسا قويا بما يكفي لروسيا للحفاظ على نفوذها في بلد يُنظر فيه بشكل متزايد إلى قيم ومصالح الناس على أنها تتعارض مع قيم ومصالح موسكو، ويمكن أن تأتي بنتائج عكسية في النهاية إذا بدأ الكازاخيون يعتبرون رئيسهم خاضعا بشكل مفرط لروسيا.
وتعتقد روسيا أن الحفاظ على علاقات وثيقة مع كازاخستان أمر لا غنى عنه لنجاح مشاريع الكرملين للتكامل في منطقة ما بعد الاتحاد السوفيتي. كما تريد روسيا تجنب تكرار الاضطرابات الجماهيرية التي عصفت بكازاخستان في بداية العام (والتي دفعت موسكو إلى التدخل لاستعادة النظام)، حيث أن تدخلا آخر لوقف انتفاضة مناهضة للمؤسسة لن يؤدي إلا إلى زيادة تأجيج المشاعر المعادية لروسيا بين الكازاخيين. ولكن في التخفيف من هذا التهديد، ستكون موسكو متشككة في إدخال إصلاحات سياسية في كازاخستان خوفا من أن مثل هذه التغييرات ستخرج في النهاية عن سيطرة توكاييف وسيطرة النخب وتأخذ البلاد من خلال أحداث مماثلة لثورة الميدان الأوروبي في أوكرانيا في 2014.
روسيا تعتقد أن الحفاظ على علاقات وثيقة مع كازاخستان أمر لا غنى عنه لنجاح مشاريع الكرملين للتكامل في منطقة ما بعد الاتحاد السوفيتي
ومن شأن الترتيبات البديلة لنظام توكاييف أن تخاطر بأن تصبح كازاخستان مستقلة للغاية في نظر موسكو ولن تترك إلا بيلاروسيا من بين الدول الكبرى التي لا تزال في المدار السياسي والاقتصادي لروسيا. وستعني “خسارة” كازاخستان على غرار أوكرانيا خسارة بقية آسيا الوسطى ويمكن القول إنها كارثية على الكرملين. لذلك، فإن الحفاظ على الاستقرار الداخلي في كازاخستان هو الأولوية الأولى لموسكو. وقد يكمن هدف الكرملين النهائي لعلاقته المستقبلية المثالية مع كازاخستان في محاكاة الشراكة الوثيقة بين روسيا وبيلاروسيا، مما يدفع كازاخستان إلى تكامل أعمق وربما من خلال دولة الاتحاد. ومع ذلك، من المحتمل أن يكون تحقيق هذه الرؤية بعيد المنال في المستقبل المنظور.
نتيجة لذلك، قد يدفع تباعد كازاخستان البطيء عن روسيا موسكو إلى استخدام التهديدات والإكراه بشكل متزايد، وربما القوة العسكرية، لإخضاع أستانة. ويمكن لطموحات موسكو أن تقودها إلى استنتاج أن أستانة في طريقها لتصبح بعيدة جدا عنها، وأنه يجب أن تتجنب فشلها السابق في أوكرانيا بالتصرف في الوقت المناسب واتخاذ إجراء عسكري استباقي لعكس مسار ابتعاد كازاخستان المتزايد.
ولن تتراجع أستانة رسميا عن الاتفاقات والوثائق السابقة التي تحكم علاقاتها مع موسكو. لكن في المستقبل، يمكن لروسيا أن تتّخذ من الإصلاحات السياسية الداخلية في كازاخستان وعلاقاتها مع الدول الأخرى مبرّرا للغزو، باستخدام أسس مشابهة جدا لتلك التي استخدمتها لتبرير إرسال قوات إلى أوكرانيا في فبراير. ولا يزال خطر غزو روسيا لكازاخستان بعيدا. لكن احتمال حدوث هذا السيناريو سيزداد إذا استمرت أستانة في تقليص علاقاتها السياسية والاقتصادية مع موسكو، وخاصة إذا انتهت الحرب في أوكرانيا بشروط مواتية نسبيا لروسيا. وقد تتصرف روسيا عاجلا وليس آجلا على أساس فكرة أن الحكومة الكازاخية والجيش لن يقاوما، وهو ما قد لا يبقى قائما على المدى الطويل.
وتشير الإجراءات الأخيرة التي اتخذها المسؤولون والحكومة الكازاخية إلى أن الدولة تأخذ الاحتمال النظري للتدخل العسكري الروسي على محمل الجد.
وفي سبتمبر وقع توكاييف مرسوما سينفق بموجبه 441 مليار تنغ (939.5 مليون دولار) إضافية لدعم قطاع الدفاع في البلاد، أي ما يقرب من 1.5 ضعفا لميزانية العام الماضي البالغة 1.7 مليار دولار. وقال رئيس بلدية ألماتي في الخامس والعشرين من أغسطس إن جميع ملاجئ القنابل التي تعود إلى الحقبة السوفيتية ستعاد تهيئتها، وهي خطوة يحتمل أن تكون مدفوعة بأزمة الملاجئ في أوكرانيا وسط الضربات الجوية الروسية الشاملة على البنية التحتية المدنية في المناطق الحضرية. وذكرت تقارير إعلامية في كازاخستان بناء حوالي 300 ملجإ في ألماتي خلال الحقبة السوفيتية، لكن حوالي 100 فقط مازالت صالحة للاستخدام.
العرب