بينما كان الاتحاد السوفييتي يتفكك وينهار، باعتباره القطب العالمي الثاني إلى جوار الولايات المتحدة الأميركية، تحت وطأة سباق التسلح المضني الذي تم استدراجه إليه على مدى سنوات، وانتهى الأمر بإنزال علم الاتحاد السوفييتي، ذي المطرقة والمنجل، من على مبنى الكرملين، يوم 25 ديسمبر/كانون الأول عام 1991، ورفع علم روسيا الاتحادية بالألوان الثلاثة، الأبيض والأزرق والأحمر ، بينما كان ذلك يحدث في مشهد صامت في موسكو، كانت الولايات المتحدة، والعالم الغربي، يحتفلان بليلة عيد الميلاد، وليس فقط بانتهاء عام وميلاد عام جديد، ولكن، بانتهاء نظام عالمي، كان يقوم على توازن القوى بين قطبين ومعسكرين، وميلاد نظام عالمي، يرتكز على هيمنة قوة عظمى واحدة، وتوازن المصالح بين باقي القوى.
لم تكن أميركا بعيدة عن ذلك المشهد. كانت تُعدّ له منذ سنوات، وطرحت مبكراً سؤالاً مهماً: ماذا بعد انتهاء الحرب الباردة؟ ماذا عن الصراع على مناطق النفوذ، والأهم اختفاء العدو الرئيسي الذي استمر قرابة نصف قرن؟ وعكف خبراء الاستراتيجية والدفاع والأمن القومي، مبكراً، على دراسة وتحليل العدائيات، التي قد تهدد أميركا في ظل نظام عالمي جديد. ولعل من أهم الدراسات، تلك التي أعدها وليم بيري، الذي شغل منصب وزير الدفاع في رئاسة بيل كلينتون الأولى، وصدرت في عام 1998 بعنوان “الدفاع الوقائي – استراتيجية جديدة للأمن القومي”، وشاركه في الدراسة، نائبه السابق، آشتون كارتر، وزير الدفاع الأميركي الحالي. أعاد الاثنان تقييم المخاطر التي يمكن أن تتعرض لها أميركا في القرن 21، وعليها أن تستعد لمواجهتها بجدية، ووضع الاستراتيجيات المناسبة للتعامل المسبق معها، بردعها باستخدام القوة المسلحة، بشكل جاد ومتصاعد، وبحيث تكون الآلة العسكرية الأميركية قادرة على إنزال هزيمة حاسمة وسريعة بالعدو المحتمل، وهو ما أفرز نظرية الضربات الاستباقية. وتم وضع تلك المخاطر في ثلاث قوائم: الأولى، تهدد الكيان الأميركي نفسه، والتي كانت تضم الاتحاد السوفييتي السابق، وبعد انهياره أصبحت تهديدات غامضة وغير ملموسة. الثانية، تهديدات تتعرض لها المصالح الأميركية مباشرة، وتتركز في منطقة الشرق الأوسط والخليج. الثالثة، تهديدات تؤثر على أمن أميركا بشكل غير مباشر، ومن أمثلتها المشكلات الإقليمية في مناطق عديدة من العالم، مثل المشكلة الفلسطينية ومشكلة كشمير، وهي لا تتطلب تدخلاً أميركياً مباشراً.
وكان لا بد لتطبيق تلك الاستراتيجيات، الخاصة بالدفاع الوقائي والضربات الاستباقية، أن تمتلك
أميركا منظومة عسكرية متكاملة، وآلة حربية فائقة القوة والقدرة، لا قِبَلَ لأحد بها. وانتهت الدراسات إلى وضع دليل السياسات الدفاعية الأميركية، والذي كان يمثل أحد عناصر البرنامج الانتخابي للرئيس، جورج دبليو بوش، وكان أيضا وراء اختيار بوش، بعد فوزه بالرئاسة، دونالد رامسفيلد وزيرا للدفاع. وقد أعلن عن سبب الاختيار في كلمة ألقاها في البيت الأبيض، في حفل أداء رامسفيلد اليمين، يوم 26 يناير/كانون الثاني 2001، عندما قال: دونالد وأنا حددنا ثلاثة أهداف، لتوجيه السياسة الدفاعية الأميركية: تعزيز العلاقة بين الشعب الأميركي والشعوب التي تعمل تحت راية أمتنا. سنسعى إلى الدفاع عن شعبنا وحلفائنا ضد التهديدات المتزايدة للقرن 21 . سنبدأ بإنشاء جيش المستقبل، مستفيدين كثيراً من الثورة التكنولوجية، عبر إعادة تحديد الوسائل والأساليب التي تخاض بها حروب القرن 21، ولعل ذلك الهدف أهمها على الإطلاق.
وبدأ رامسفيلد على الفور في أكبر عملية مراجعة وتطوير وإعادة هيكلة للقوات المسلحة، كانت قد بدأت منذ نحو 20 عاماً، وهي العملية التي أطلق عليها “الثورة في الشؤون العسكرية”، وتم زيادة ميزانية الدفاع إلى ثلاثة أضعافها، حيث بلغت في 2002/2001 أكثر من 400 مليار دولار، عدا المطالب العاجلة لمواجهة الطوارئ.
ركز المشروع على إحداث طفرة تكنولوجية هائلة في مجالات حروب الفضاء وأسلحة الجو، ومنظومات الصواريخ والمقذوفات دقيقة التوجيه، والحرب المعلوماتية، ومنظومات الليزر، وأسلحة التكنولوجيا الحيوية والنانو تكنولوجي، ووسائل النقل البحرية والجوية، وتطوير القوات الخاصة متعددة المهام في البر والبحر والجو.
ومضت أميركا في طريقها نحو بناء منظومتها العسكرية، بينما كانت روسيا الاتحادية تلملم جراحها وتلتقط أنفاسها، ويسعى حلفاء أميركا إلى توطيد علاقتهم بها، في محاولة للاقتراب من ثورتها في الشؤون العسكرية، وباقي القوى في العالم ترقب باهتمام تشكيل النظام العالمي الجديد في قلق. وفي وسط كل تلك الأجواء، وفي مفاجأة مدوية، وقعت عملية 11 سبتمبر/أيلول 2001 الإرهابية، لتزلزل الشعب الأميركي والإدارة الأميركية، وتهز العالم كله.
يهمنا هنا أن أميركا، والتي وجدت نفسها في بداية الألفية الثالثة وقد امتلكت فائضاً هائلاً من القوة العسكرية، بينما كانت تفتقد العدو الحقيقي الذي يجعل من إنفاقها الخرافي على استمرار الثورة في الشؤون العسكرية أمراً مبرراً لدى مواطنيها، وهو أمر شديد الأهمية في المجتمعات الديموقراطية. وبعد تقدير سريع للموقف، أعلن الرئيس الأميركي أن العدو قد أصبح موجوداً، وبادر إلى توجيه الاتهام إلى تنظيم القاعدة الذي كان يتخذ مقرّاً له في أفغانستان، والتي كانت حركة طالبان قد سيطرت عليها، وأعلنتها إمارة إسلامية، وقبل أن يمضي شهر على تلك الضربات الإرهابية، كانت أميركا قد أعلنت حربها العالمية ضد ذلك العدو، وهو الإرهاب، وبدأتها بالفعل بضرب أفغانستان، وكان ذلك أول استخدام لفائض القوة الأميركية على نطاق واسع، حيث حشدت فيه مستويات متعددة من تلك القوة جوياً وبحرياً وأيضاً برياً.
وفي ثاني تطبيق لاستراتيجيات الدفاع الوقائي، والضربات الاستباقية، قامت أميركا، في مارس/آذار 2003، بغزو العراق، تحت الشعار نفسه، الحرب العالمية على الإرهاب، واستخدمت، مرة أخرى، فائض قوتها العسكرية الهائلة، في استعراض مبهر لكل منظومات الصواريخ والمقذوفات الموجهة، وأسلحة البر والبحر والجو، كل ذلك معروضاً على شاشات الفضائيات ليراه العالم. واعتقدت أميركا وحلفاؤها أنه تم كسر شوكة الإرهاب، المتمثل في تنظيم القاعدة وأذرعه وخلاياه المنتشرة في منطقة الشرق الأوسط، وأن عليهم المضيّ في تنفيذ مشروعهم الخاص بالشرق الأوسط الجديد، الديموقراطي الخالي من النظم الاستبدادية المنتجة للإرهاب.
وما كادت نسائم التغيير تهب على المنطقة، والتي رحبت بها أميركا وحلفاؤها في البداية، حتى اكتشف الغرب أن تلك الرياح قد تدفع تيارات الإسلام السياسي إلى سدة الحكم، وهو ما قد يتعارض مع مصلحتها ومصلحة إسرائيل، باعتبارها محور ارتكازهم في المنطقة. وهكذا عادوا إلى نظرياتهم القديمة بدعم نظم حكمٍ، تعتمد على القبضة الحديدية بدعوى الاستقرار، في مقابل الحرية والديموقراطية. وحضرت مخاطر الإرهاب، الذي عاد بكل شروره، وفي صورة جديدة، حيث أفرزت القاعدة تنظيماً أشد عنفاً وشراسة هو داعش، أو تنظيم الدولة، وامتدت أذرعه، ليس فقط داخل المنطقة، ولكن خارجها أيضاً، في شكل خلايا محلية، نابعة من المجتمعات نفسها، لكنها تحمل كل مشاعر الإحباط واليأس، وترفع شعارات الجهاد والتضحية بالنفس.
وبالعودة إلى البداية، يتجه الغرب إلى توظيف فائض القوة في الحرب على الإرهاب، ويصر على مكافحة العرض، بدلاً من استئصال المرض، الذي هو الاستبداد، والذي حتما سيولد أجيالاً جديدة من الإرهاب.
عادل سليمان
صحيفة العربي الجديد