محافظة الأنبار في المزيج المتفجر من التهميش والإحباط

محافظة الأنبار في المزيج المتفجر من التهميش والإحباط

رغم أنها من أكبر محافظات العراق وأكثرها موارد طبيعية إلا أن الأنبار تعاني من التهميش، ومردّه كونها تضم أكبر عدد من السنّة، كما أنها في موقع جغرافي يجعلها غير مستقرة أمنيا ما يهدد بانفجار أهالي المحافظة في وجه التهميش المتعمد والذي تفرضه الحكومات المتوالية ذات التمثيل الشيعي الأكبر.

بغداد – ما من محافظة تجتمع فيها كل مشاكل العراق بمقدار ما تجتمع في الأنبار، من الفساد إلى الإرهاب، ومن المهجرين إلى البطالة، ومن الصراعات العشائرية إلى “سلطة الاستبداد” التي يمارسها “الحزب الحاكم”، ومن الفقر المدقع إلى تعطيل المصانع، ومن تعديات الميليشيات إلى غياب الأمن، ومن الجفاف وصولا إلى موجات الغبار.

تجتمع هذه المظاهر مع إهمال رسمي ينظر إلى المحافظة بوصفها مركزا لكل الشرور، ما يجعلها بؤرة تختزن ما يكفي من أسباب الانفجار التي يمكن أن تنفجر في أي اتجاه، سياسي أو عشائري. وقد يخدم أغراضا متعارضة أيضا.

هذه المحافظة هي من بين أكبر المحافظات السنية في العراق. وهذا سبب كاف بحد ذاته لسلطة المركز التي تهيمن عليها الأحزاب والميليشيات الشيعية، لكي تجعل منها محافظة خاضعة لعقاب جماعي، طائفي وسياسي وأمني في آن واحد.

وتحتل محافظة الأنبار، بمفردها، نحو ثلث مساحة العراق. وترتبط حدودها بسوريا والأردن والسعودية. وتتميز تضاريسها بالتنوع، برغم غلبة الصحراء على معظم مساحتها. ويمر عبرها نهر الفرات، وتضم عددا من المدن التي اكتسبت خلال سنوات ما بعد غزو واحتلال العراق في العام 2003 شهرة فائقة مثل الفلوجة، والرطبة، وحديثة والقائم وغيرها. وتختزن الأنبار ثروات ضخمة من الغاز تبلغ أكثر من 5 تريليونات قدم مكعب، وتضم واحدا من أكبر حقول النفط في العراق (عكاس) في الصحراء الغربية جنوب مدينة القائم.

الصراع على النفوذ في المحافظة سبب إضافي للتهميش، فالأنبار تعاني من تراجع الخدمات وقلة التخصيصات المالية لها

وتقول الاكتشافات الحديثة إن صحراء الأنبار تحتوي على نحو 300 مليار برميل من النفط الخام. وذلك بالإضافة إلى العديد من الثروات المعدنية مثل الفوسفات والحديد واليورانيوم والكبريت. ويبلغ عدد سكانها نحو ثلاثة ملايين نسمة. وتعد الدليم وجميلة وزوبع من أبرز عشائرها.

وخلال سنوات الاحتلال الأميركي المباشر خاضت مدن الأنبار مجموعة من أشرس المعارك ضد القوات الأميركية، وارتكبت فيها العديد من المجازر والفظائع، لاسيما في مدينة الفلوجة التي تعرضت في العام 2005 للقصف بأسلحة فسفورية قبل القضاء على مجموعات المقاومة فيها، لتتعرض الفلوجة وعدد من البلدات الأخرى، في ما بعد ذلك مباشرة، إلى حملات تدمير وتهجير منهجية نفذتها الميليشيات التابعة للأحزاب الحاكمة في بغداد.

ومثلما عرفت المحافظة انتشار مقاومة مدنية وعسكرية مسلحة، أخلت مكانها لاحقا لتنظيم القاعدة، ثم لتنظيم داعش على التوالي، فقد عرفت انتشار “الصحوات” التي جندها الاحتلال الأميركي لأجل التغلب على المقاومة أولا، ثم وظفها لمطاردة فلول القاعدة وداعش. ومن هذه الصحوات التي سعت للفوز ببعض مغانم النظام الجديد، نشأت الأحزاب السنية التي انخرطت في “العملية السياسية”، قبل أن تكتشف الغالبية العظمى من عشائر المحافظة أنها بقيت معزولة، وخاضعة لسلطة “حزب حاكم” جديد، هو تحالف “تقدم” الذي يقوده رئيس البرلمان محمد الحلبوسي. وأن المغانم اقتصرت على مراكز النفوذ والوظائف العليا التي يهيمن عليها تحالف الحلبوسي. وهو الأمر الذي بات يثير التذمر بين مختلف الأوساط العشائرية التي تقول زعاماتها إنها أصبحت تعيش على الهامش.

ويقول الكاتب حامد شهاب “إن واحدة من المرارات التي راح رموز الأنبار يفصحون عنها في مجالسهم الخاصة، هي أنه ليس من المنطقي أن يبقوا هم على الحافة أو على قارعة الطريق، وكأنهم هم الغرباء، ومن استقووا بالغير على أبناء جلدتهم من المغمورين يفرضون هيمنتهم على مقدرات المحافظة”.

ودفع واقع التهميش وسلطة “الحزب الواحد” عددا من الشخصيات السياسية والعشائرية في أواخر أغسطس الماضي إلى عقد “لقاء تشاوري” لبناء “مشروع سياسي” ينافس “تحالف تقدم” حضره جمال الكربولي زعيم “حزب الحل”، وجمال الضاري رئيس “المشروع الوطني”، ونوري الدليمي القيادي في الحزب الإسلامي، وقاسم الفهداوي القيادي في تحالف “العزم”، ووزير التخطيط السابق سلمان الجميلي، ومحافظ الأنبار السابق صهيب الراوي، وآخرون. وأصدر المجتمعون بيانا طالبوا فيه “برسم خارطة طريق لاستكمال الاستحقاقات الدستورية والبدء بالإصلاحات”.

وقال الكربولي على موقع تويتر حينها إن “الاجتماع الذي عقدته نخب من سياسيي الأنبار الأوفياء لمحافظتهم ويحترمون تاريخهم وكلمتهم، وضع الخطوط العامة لمشروع سياسي يحترم كرامة الإنسان ويمنع الاستغلال السياسي للمناصب العامة أو يكمم الأفواه أو يصادر الحريات”.

فيما قال جمال الضاري إن “اللقاء في الأنبار جاء بسبب الاحتقان الحاصل ونتيجة استعلاء طرف على الأطراف الأخرى واستحواذه على المال والمناصب، وأصبح يقسم ذلك على هواه، وكأن الأنبار أصبحت ضيعة لديه، وهذا هو الوضع أيضا في باقي المحافظات السنية”.

وقال الباحث في الشأن السياسي العراقي رائد المحمدي لموقع “عربي21” إن “المشروع السياسي السني الجديد هدفه الأساس التخلص من هيمنة رئيس البرلمان محمد الحلبوسي وحزبه ‘تقدم’ على مقدرات المحافظات السنية، والقرار السني في البلد”.

ولكن الحلبوسي نفسه واجه تهديدا من “الإطار التنسيقي” عندما تحالف مع “التيار الصدري”، وذلك بعودة علي حاتم السليمان أحد كبار شيوخ الدليم إلى العراق بعد إسقاط تهم الإرهاب عنه، واستعادة مقره في بغداد، وكذلك الأنبار. الأمر الذي أجبر الحلبوسي في النهاية على التخلي عن “التيار الصدري” والالتحاق بالإطار وحكومته.

وكان الصراع على النفوذ في المحافظة سببا إضافيا للتهميش. فالمحافظة تعاني من تراجع الخدمات وقلة التخصيصات المالية لها من الميزانية الاتحادية، الأمر الذي يعطل مشاريع إعادة الإعمار فيها. وهو ما منع أيضا من تسديد التعويضات للمتضررين من عمليات الهدم والتهجير. كما أبقى المهجرين للسنة التاسعة على التوالي يعيشون في خيام. وهنالك المئات من العوائل التي لم تتمكن من العودة إلى مناطقها بسبب عدم صرف التعويضات بينما لا تملك المال لرفع أنقاض منازلها.

وقالت منظمة الهجرة الدولية في تقرير صدر في سبتمبر الماضي، إن هناك أكثر من 400 موقع غير رسمي للنازحين في العراق تضم أكثر من 14 ألف عائلة، غالبيتها تمتلك بيوتا في مناطق سكنها الأصلية، لكن عوائق تحول دون عودتها متمثلة بتعرض بيوتها لأضرار أو عدم وجود ظروف معيشية ملائمة في مناطقها الأصلية.

ونزح هؤلاء المواطنون عام 2014 عندما داهم تنظيم داعش مناطقهم السكنية، وكذلك الفصائل الشيعية المسلحة. وذلك إلى جانب نازحين من مدن جرف الصخر بمحافظة بابل، والعوجة في محافظة صلاح الدين، وقرى محافظة ديالى، مثل المقدادية والسعدية وحوض الوقف وغيرها.

وتسبب النزاع مع تنظيم داعش بنزوح 6 ملايين شخص داخل العراق وفق بيانات منظمة الهجرة الدولية.

وتقول منظمة “إحصاء الجثث في العراق” البريطانية، إنه عندما سقطت الأنبار في أيدي داعش في عام 2014، فقد قتل من أبنائها بين عامي 2003 و2017 أكثر من 20 ألف شخص.

ولا تساعد الأوضاع الأمنية الراهنة في الأنبار على توفير الاستقرار لأبناء المحافظة التي يشكل موقعها على الحدود مع ثلاث دول عربية منفذا لطرفين يتصارعان على السيطرة على الحدود، هما تنظيم داعش من ناحية، وميليشيات حزب الله (العراقي) من ناحية أخرى التي تسيطر على طرق تهريب المخدرات عبر حدود هذه الدول.

وكانت كتائب حزب الله قد أثارت استنكارا عاما في المحافظة منذ أن نشرت قواتها على أطراف المحافظة في منتصف فبراير الماضي، وأدخلت معها أرتالاً عسكرية بحجة استبدال قطعها المتواجدة في المحافظة، وذلك بأوامر رسمية من الحشد الشعبي.

والحلبوسي الذي بدأ نجمه يصعد منذ أن كان محافظا للأنبار بين عامي 2017 و2018، يمتلك ما يبدو أنها سلطة مطلقة في المحافظة، وصلت إلى درجة أن أنصاره يراقبون حتى المنتقدين على صفحات التواصل الاجتماعي لاعتقالهم بتهم أمنية. وهو أمر غالبا ما يثير احتجاجات عشائرية. ومن لا يجد عشيرة تحميه، أو تطالب بالثأر له، فإنه يمضي إلى غياهب النسيان.

هذه الأوضاع التي كانت بمثابة مزيج متفجر، أدت إلى سقوط المحافظة ضحية لكل وجه من وجوه الصراعات المسلحة التي عرفها العراق. وهي ما تزال متفجرة إلى الآن، ولكن لم يتضح بعد ما هو الإطار الذي سوف يشكل الوجه الجديد لصراع مسلح آخر.

العرب