إيران… وضغط فكرة الإمبراطورية

إيران… وضغط فكرة الإمبراطورية

غالبا ما تمتع الفرس بوضع إمبراطوري في التاريخ، وهو ما يدفعهم دوما نحو استعادة هذا الوضع من خلال طموحات الدول والأسر التي حكمت الهضبة الإيرانية. البعض منها قد نجح في مساره نحو الإمبراطورية، والبعض الآخر فشل، بل تسبب في تفكك حتى الممتلكات والمقومات الأساسية لقيام دولة مستقلة.
تتصرف إيران الحالية وفق سلوك يبدو إمبراطوريا، وهي التي لم تخرج حتى اللحظة من جو الثورة، التي ما زالت لم تستقر على نموذج ديني واجتماعي وسياسي يستوعب أجيالها الحالية. لكن السلوك الإمبراطوري يطرح على الإيرانيين في المدى البعيد سؤال مدى القدرة على الحفاظ على الأساس الجمهوري أو تقويضه؟ إن الإيرانيين أكثر حاجة من أي وقت مضى للحفاظ على جمهورية لم تنضج بعد. فبالأمس سقط الاتحاد السوفيتتي وبقيت الجمهورية الروسية، التي تعيد استئناف الصعود مرة أخرى. أما الترسانة النووية فلم تحفظ الاتحاد السوفييتي، لكنها أبقت على روسيا، وهو ما ينبغي أن يفهمه الإيرانيون.

النموذج الذي يسعى إلى التمدد ينبغي أن يحوز درجة مقدرة من الإعجاب

يصل القادة والثوار إلى سدة الحكم حاملين أيديولوجيات ووعودا، لكن استمراريتهم تحددها قدرتهم على التغلب على المفاجآت والاحتمالات التي لا تعدهم بها الأيديولوجيا، وقدرتهم على تقليل درجة عدم قابلية التوقع، بتعبير جورج فريدمان. الثوار الإيرانيون القدامى، أو من تبقى منهم نسوا أن الجمهورية هي الأساس، وأن الإمبراطورية حدث عرضي في التاريخ وليس أصيلا. إن متطلبات الصعود الإيراني تفوق مقدرة نموذجها الثقافي، غير المستقر، على الاستجابة على المدى البعيد، كما يظهر من التفاصيل. وتكشف حادثة سكوت فريق كرة القدم الإيراني عن ترديد شعار الدولة في كأس العالم في قطر، بسبب الأوضاع الحالية، مشكلة الخلط بين مجرد موقف سياسي من الأحداث الجارية ومفهوم الانتماء إلى الوطن، الذي يفرض عليك التحمس في ترديد نشيده الوطني في كل الظروف. الربط بين الجمهورية وحالة التمدد الإمبراطوري في حاجة إلى شخصية سياسية رمزية تقوم بهذا الأمر. وفي حالة إيران تبدو الخيوط متشابكة وغامضة، فالرئيس الحالي لا يمتلك الصلاحيات ولا المقدرة على ذلك، بسبب تمركز السلطات حول المرشد الأعلى، الذي يبدو أقل كاريزمية وكثافة في الحضور والتواصل مع المنطقة والأجيال الجديدة، مقارنة بمن سبقه. وإذا كانت إيران قد عرفت رجل ثورة مثل الخميني، فإنها حتى اللحظة لم تعرف رجل تحول إمبراطوري. إن مقومات الجمهورية لم تكتمل لدى الإيرانيين حتى اللحظة، ويكفي في إثبات هذا الحكم اضطراب النموذج الديمقراطي والتعددي. الإيرانيون من خلال سلوكهم يشكلون أنفسهم على أنهم خطر يصعب التنبؤ به بالنسبة للغرب والمنطقة المجاورة. صورة عدم القدرة على التنبؤ التي يصدرها الإيرانيون للخارج سوف يرثها رؤساء الغرب والقادة العرب القادمون في تعاملهم مع طهران. ولهذا السبب سيكون على الإيرانيين مستقبلا أن يتعاملوا مع اتجاه العالم العربي إلى البحث عن بطل في مواجهة إيران، الذي سيكون هو تركيا تحديدا.

تعريف الأمن القومي

لم تكن إيران قوة بحرية في يوم من الأيام ولن تكون، وخياراتها محدودة من هذه الناحية. ومن غير شك فإن القوة الصاعدة مستقبلا لا بد أن تكون موجودة في البحر المتوسط. وبالنسبة لتركيا فإن هذا القرن هو للإعداد فقط. إن تعريف الأمن القومي الإيراني، إذا تعلق الأمر بالجمهورية، مختلف عن تعريفه بالنسبة للطموح الإمبراطوري. وتفادي التناقض أمر بالغ الصعوبة، فكلما ازداد التمدد الخارجي أصبح تحديد مفهوم الأمن القومي أكثر تعقيدا، بخلاف الدول الصغيرة، فإنها لا تجد صعوبة في تعريف المصلحة القومية، المحصورة في الأمان ودرجة من الرفاهية، ولم تطور إيران الطامحة للتمدد رؤية أخلاقية لاستراتيجيتها في المنطقة، فهي لا تبشر بأي نموذج ديمقراطي أو منفتح أو مستوعب للآخر المختلف، حيث يقدم الإيرانيون رؤية ضيقة جدا لنموذج قيمي، يستعصي قبوله على الأجيال الحالية المتطلعة إلى الحريات. إن المذهب الشيعي روح مضادة للإمبراطورية ذات خاصية الاستيعاب. النموذج الذي يسعى إلى التمدد ينبغي أن يحوز درجة مقدرة من الإعجاب، وهو ما لا تمتلكه إيران، إن حالة الإعجاب بالشيوعية زمن الاتحاد السوفييتي والليبرالية الأمريكية كان أمرا أساسيا في مسار صعود تلك القوى. وإذا كان الأتراك يحوزون درجة من الإعجاب في المنطقة، فإن الإيرانيين فشلوا في هذا الأمر. المعجبون بالنموذج السياسي والثقافي والديني والاقتصادي الإيراني في المنطقة قليلون للغاية. باستطاعة أي واحد منا أن ينتمي يوما إلى الحلم الأمريكي بالهجرة والمواطنة، لكن لا أحد منا يستطيع أن ينتمي إلى الحلم الإيراني مثلا، فهو غير موجود. العملية معقدة بسبب انغلاق النموذج الإيراني رغم طموحه الإمبراطوري. أما في حالة تركيا فإن عملية صعودها إذا لم ترافقها درجة من الانفتاح ما فوق قومي، فإنها سوف تواجه خطر الانغلاق. وقد أدرك العثمانيون من قبل كيفية إدارة المكونات المختلفة في المنطقة والجوار، إن تركيا في حاجة إلى بناء نموذج الإجماع الإسلامي في المنطقة. هناك فرق بين أن ترى العالم من الناحية الجيوبوليتيكية، أو أن تراه من الناحية الأيديولوجية، وهي الجانب الأضعف في العملية. والإيرانيون لم ينجحوا حتى هذه اللحظة في أن يخلقوا في المنطقة حالة من «ضرورة الاعتماد عليهم»، مثل تلك الحالة التي صنعها بوتين باستخدام ورقة الطاقة مع الأوروبيين، وخلق حالة من الاعتماد الأوروبي على الطاقة الروسية. وبالعودة إلى مسألة الإعجاب في التاريخ، نجد أن نموذج الدولة الفاطمية الشيعية التي حكمت جغرافيا سنية واسعة، قد حازت إعجاب الكثيرين حتى اللحظة، وامتلكت قدرا من الانفتاح يفوق ما عليه الإيرانيون الآن. كان الفاطميون يخوضون حروب دول، ويمارسون دعوتهم الإسماعيلية، لكنهم لم يكونوا يمارسون عنف الدعوة.

مشكلة النضج

إيران حاليا دولة جمهورية برئيس وحكومة وبرلمان وقائد روحي مباشر، لكنه ليس شخصا إمبراطوريا في خصائصه. في المقابل فإن سلوك إيران في المنطقة والعالم يحاول أن يرتقي إلى مستوى السلوك الإمبراطوري ولو على المستوى الشعوري، رغم أن قادتها والمؤمنين بمشروعها يتجرعون إهانة الحصار والعقوبات والحظر المفروض عليهم، والذي لا يتلاءم مع وضع دولة ذات طموح إمبراطوري. إن الناس لا يهتمون كثيرا في المنطقة بالانتخابات الإيرانية، لأنها لا تعني تغير الرؤى والسياسات الخارجية، فالامبراطوريات تنشأ ببطء في الغالب، لكن إيران تمضي بسرعة سوف تعجل باختلال توازنها، خاصة بفعل تضارب البنية الجمهورية للدولة، مع السلوك والطموح الإمبراطوري، وضعف الأدوات الثقافية والاجتماعية، واتساع الحواجز بين المجتمع والسلطة، وارتفاع حدة الخلاف حول النموذج الديني والاجتماعي والسياسي. وإيران ليست حذرة بما فيه الكفاية في مسار التحول الذي تسعى إليه، والحقيقة أن الجمهورية الإسلامية لا تمتلك شخصا مؤسسا إمبراطوريا، على غرار ما يحدث في التاريخ، بل إن الخدوش التي تعرضت لها القيادة الروحية للجمهورية في الأحداث الأخيرة أصبح واقعا اجتماعيا تسهل ملاحظته. نعم إن الإمبراطوريات الناشئة في التاريخ كانت تتعرض لدورات من الحروب الأهلية المتكررة مثل الرومان، وكذلك كانت بريطانيا قد فقدت أغلب مستوطناتها في أمريكا الشمالية، حتى قبل أن تبلغ إمبراطوريتها أوجها، لكنها في كل الأحوال لم تتعرض طيلة مسيرتها لاهتزاز النموذج الثقافي والاجتماعي مثل إيران، التي مازال طموحها طفلا وليدا، لكنه كثير الصراخ معلنا عن نفسه.
لقد بدأت سيرورة تآكل محتوى الفكرة الامبراطورية منذ فترة، من الناحية الاجتماعية والثقافية والدينية. ويقوم السلوك الامبراطوري على استيعاب المكونات المختلفة، وهذا مركز الفشل الأساسي بالنسبة للإيرانيين، فهم يتحركون وفق نموذج العداوة أكثر من تحركهم وفق نموذج الاستيعاب والانفتاح. لا تنشأ الإمبراطوريات دائما من خلال فعل مخطط له ومتعمد. وفي غالب الأحوال تنمو الإمبراطوريات وتتخذ شكلها وحجمها النهائي عبر مسار غير ملحوظ، حتى تفاجأ العالم في لحظة معينة، من خلال تدخلها لإعادة رسم الأوضاع والخرائط. لا أحد كان يعرف الولايات المتحدة حتى تدخلت في حربين عالميتين بشكل مباشر. إن عنوان الصعود نحو الإمبراطورية في الواقع يتجسد حينما تبتكر دولة قوية برنامجا إلكترونيا، فيستيقظ العالم في اليوم الموالي ليوائم حاجاته وفق الاختراع الجديد. إن الأمر هنا يختلف عندما تستيقظ الدول على الحاجة إلى طائرات بيرقدار التركية، وعدم استيقاظها لحاجة إلى أي تكنولوجيا إيرانية.

القدس العربي