المنازلة المبكرة بين «القيصر» بوتين و «السلطان» أردوغان

المنازلة المبكرة بين «القيصر» بوتين و «السلطان» أردوغان

images

«إنها مرحلة ازدحام التساؤلات الكبرى التي تحتاج إلى العثور على إجابات واضحة ومحددة، والمثال: من مع من؟ ومن ضد من؟ ومن يحارب من؟ في هذا «الزمن الروسي» في المنطقة؟» («الحياة» السبت 11/14/ 2015). وجاء حادث إسقاط تركيا طائرة سوخوي 24 الروسية لتضيف توتراً إلى توتر. فما الذي حدث قبل المنازلة الجوية بين تركيا وروسيا؟لعل في العودة إلى بعض الوقائع محاولة للتفسير.

إنها مواجهة بين من يسعى جاهداً لبعث بطش الإمبراطورية العثمانية في العصر الحديث رجب طيب أردوغان، و «القيصر الجديد» فلاديمير بوتين. فخلال انعقاد «قمة العشرين» في أنطاليا التركية بدا الرئيس التركي مزهواً كالطاووس وهو يستضيف قادة الدول الأغنى في العالم. واعتلى بوتين منبر الخطابة وعرض مجموعة صور التقطتها الأقمار الصناعية وتظهر الكثير من الحراك على حدود تركيا وسورية، وأضاف: هذا بعض ما يجري على الحدود… وواحدة من نقاط قوة «داعش» أن بعض داعميها يجلسون في هذه القاعة! وساد الصمت لثوان. ويقول بعض الذين شاركوا أن الامتعاض بدا على وجه أردوغان لكنه فضل عدم التعقيب.

وبعد ذلك، زار بوتين طهران على هامش انعقاد مؤتمر الدول المصدرة للغاز، لكن الحدث المهم تمثل بلقائه المطول مع المرشد الأعلى السيد علي خامنئي، حيث رشح «استعراضاً دقيقاً» للوضع في سورية، وتفاهم على الخطوط العريضة للتدخل العسكري الروسي سواء في ملاحقة «داعش» أو التعامل مع نظام الأسد. ووقع حادث إسقاط تركيا الطائرة الروسية بعد هذه التطورات مباشرة. وبقطع النظر عن تفاصيل تقنية حول إسقاط الطائرة وما إذا كانت فعلاً دخلت الأجواء التركية كما تزعم أنقرة، أو ما قالته موسكو من أنها لم تدخلها إلا لـ17 ثانية فقط، فهذا الحادث طرح علامات استفهام كثيرة حول العلاقات المستقبلية بين من كانا يعتبران نفسيهما شريكين في التحالف!

واقتصر الأمر على حملات إعلامية متبادلة ليتحول عرضاً للعضلات في سورية، إضافة لبدء تطبيق بعض التدابير الاقتصادية من موسكو تجاه أنقرة، ومن ذلك إعلان وزير الخارجية سيرغي لافروف إلغاء زيارته المقررة للاجتماع بوزير خارجية تركيا، ودعوة المواطنين الروس للتوقف عن زيارة تركيا للسياحة.

ومع أن الطرفين حاولا التصعيد الإعلامي فإنهما لم يبلغا نقطة اللاعودة. فما تجب الإشارة إليه أن حجم التبادل التجاري بين روسيا وتركيا يقارب 40 بليون دولار أميركي سنوياً، ما يجعل التوتر عبئاً مالياً على الجانبين. على أن «الجرح المعنوي» اتخذ أبعاداً متعددة، فاعتبرت موسكو أن إسقاط «سوخوي -24» فشل عسكري لواحدة من مقاتلاتها التي دخلت الخدمة في 1974، وترابط 12 طائرة كهذه في قاعدتها بمدينة اللاذقية.

من وجه الصفعة إلى التميز العسكري الروسي؟ الجواب واضح: تركيا، التي استخدمت واحدة من أفضل المقاتلات الأميركية «F-16» لإسقاط «السوخوي».

وإضافة إلى «الكبرياء القتالي» لا تزال الحرب الإعلامية قائمة، حيث طلب بوتين من أردوغان الاعتذار فرد الرئيس التركي بأن على روسيا أن تعتذر لأنها خرقت الأجواء، وردت موسكو على الرد بأن ما حدث «طعنة في الظهر».

ستتابع روسيا القيام بالرحلات المعتادة لتعقب مقاتلي «داعش»، وهو الهدف الأساسي المعلن لتدخلها في سورية. كذلك أعلنت موسكو أنها عززت قواتها المرابطة في قواعدها في سورية بمنظومة صواريخ متطورة من نوع «اس 400»، ما أثار حفيظة الأميركيين الذين دخلوا على خط التهدئة. وأثار الوزير سيرغي لافروف بعض هواجس بلاده من التصرف التركي عندما حذر أنقرة من أنها تسعى إلى تحقيق حلم قديم ويتمثل بإنشاء منطقة عازلة بين تركيا وسورية، وتزعم أنقرة أنها لأسباب إنسانية فيما الاتهام الروسي يركز على استخدام هذه المنطقة لأغراض استراتيجية وعسكرية حيال الأحداث السورية.

وماذا عن «داعش»؟ لقد لوحظ في الأيام الأخيرة تركيز الإدارة الأميركية على تمويله، وأكدت معلومات لوزارتي الخارجية والخزانة أن الأموال التي حصل عليها ببيع النفط وفرض الضرائب ونهب المصارف وغيرها من مصادر، وتُقدر بأكثر من بليون دولار، تجعل هذا التنظيم الأكثر ثراء بين مختلف التنظيمات الإرهابية.

وفي سياق متصل، أشاد المتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض بالجهود السعودية «في قطع خطوط تمويل داعش في العراق وبلاد الشام». ويقول الناطق جوش ارنست: «رأينا جهوداً دولية كبيرة للقضاء على خطوط تمويل «داعش» وهي تجري بقيادة المسؤولين السعوديين، ونقدر مساهمتهم في ذلك».

وفي معلومات أميركية، إن هناك 20 دولة تقدم مساهمة عسكرية لـ «داعش»، و15 دولة دربت القوات المحلية في العراق وسورية، و34 دولة اتخذت خطوات لاعتقال الأفراد الذين يسعون للسفر إلى العراق وسورية لحمل السلاح جنباً إلى جنب مع «داعش». ويضيف الناطق باسم البيت الأبيض في سياق متصل «لا يجب أن نغفل الجهد الإنساني لتلبية احتياجات الملايين من العراقيين والسوريين الذي يفرون من العنف في بلادهم»، وأشاد بجهود دولة الإمارات العربية المتحدة في مواجهة رسائل «داعش» عبر «الانترنت» ومركز الاتصالات الذي أنشأته الإمارات لمواجهة نشاطات «داعش»، داعياً إلى إنشاء مراكز مشابهة في أنحاء العالم.

وفي غمرة الأحداث المتسارعة، بخاصة بعد تفجيرات باريس واستنهاض الجهود لتوجيه المزيد من الضربات ضد «داعش»، يجري التساؤل عن حقيقة موقف الولايات المتحدة. وطرح هذا السؤال يعود إلى حصيلة الضربات التي يوجهها تحالف تقوده واشنطن بعد مضي أكثر من سنة على قيامه؟

ويسعى بوتين إلى توظيف هذا الفشل للقول أن الطيران الروسي يركز هجماته الجوية على مقاتلي التنظيم وأنه تمكن من إلحاق ضرر كبير به كتدمير أكثر من مئة شاحنة تنقل النفط الذي يدر الأموال الطائلة عليه.

وبمعزل عن تداعيات الصدام التركي- الروسي، فنظرة بانورامية لأوضاع المنطقة تسمح بالاستنتاج التالي: إن مستقبل سورية هو الذي سيقرر مصير عدد قليل من دول المنطقة، وإذا أسقطنا لعبة الشعارات واعتمدنا التحليل الواقعي وجب أن نلاحظ الوضع السوري وما ستؤول إليه المواجهات هناك براً وجواً؟

ويقول مصدر أن الشأن المصيري في دول الاقليم لا يمكن اختزاله بتقرير مستقبل الرئيس الأسد. ويشير أكثر من موقع أميركي مقرب من أوباما إلى أن الحل في سورية لم تتضح ملامحه النهائية بعد وأن التجاذبات القائمة حول شخص الأسد تعكس عدة حروب بالوكالة تشهدها المنطقة.

ويشير الأميركيون المطلعون على الشأن السوري إلى معلومات يكشف عنها للمرة الأولى تفيد بأن الأسد أصبح رمزاً لمعارك «أكثر دقة وتعقيداً مما توحي به العمليات العسكرية». ويلفت هؤلاء النظر إلى عبارات وردت في «صيغة فيينا» أخيراً، تشدد على النقاط التسع التي تم التفاهم عليها، حيث يركز البندان الأول والثاني على «وحدة سورية وضرورة قيام دولة علمانية». وتعابير كهذه تدخل ضمن عنوان عريض هو «الغموض البناء»، بمعنى أن التشديد على الوحدة رد على بعض المشاريع التقسيمية التي تعصف بالمنطقة. وهذه لن تكون بالضرورة الخيارات الفضلى لواقع سورية، والكلام لأحد الموفدين الأميركيين- السيد جونز، هو عن فترة انتقالية وتشكيل حكومة ائتلافية من كافة الأطياف الموالية والمعارضة. وهو يضيف: إن الصراع مع الأسد لم يعد يقتصر على شخصه، بل على طائفته ومختلف الأجهزة الأمنية والعسكرية التي ربطت مصيرها به، وبالتالي فهذه القوى، بخاصة الجيش، لن تبايع أي طرف داخلي غير الأسد.

فالأسد إن لم يعد يتمكن من استعادة السيطرة على كامل الأراضي السورية فهو سينكفئ إلى جيوب جغرافية يحكم السيطرة عليها حالياً، وهذه صيغة لن تبرز الآن كطرح محدد، بل ستكون الخيار الأخير عندما يتم استحضار تعبير «تقسيم سورية». هذا الطرح قد يبدو صعباً الآن لكن النظرة العميقة تؤكد استحالة عدم استعادة وحدة الدولة السورية.

وبعد…

أولاً: هل ما حدث بين تركيا وروسيا يعني عملياً تغيير قواعد الاشتباك في المنطقة؟

وعلى صعيد صفوف «المعارضة السورية»، حدث تطور لافت ورد على لسان رئيس «الائتلاف السوري» خالد خوجه حيث وجه نداء لـ «الأخوة في جبهة النصرة» للانسحاب من تنظيم «القاعدة»، استعداداً لمراحل آتية على سورية.

واللافت أن «جبهة النصرة» ضللت كثيرين من المتابعين حول هويتها الحقيقية، حيث قيل العديد من الآراء، ومنها أنها ليست مجموعة إرهابية بل تضم وجوهاً سورية معارضة، حتى أن رئيس اللقاء الديموقراطي وليد جنبلاط رفع عن الجبهة صفة الإرهاب.

لكن رئيس الائتلاف السوري بتوجيهه هذا النداء، طرح علامات استفهام كثيرة وظهر وكأنه يعد للمرحلة الآتية كما نصت على ذلك مقررات فيينا الأخيرة.

ويتزامن هذا الكلام مع سعي أكثر من طرف عربي وفي الطليعة المملكة العربية السعودية للعمل على توحيد المعارضات السورية، وهذه مهمة لن تكون سهلة نظراً لتشتت هذه «المعارضات».

ثانياً: هل فعلاً إن العالم كله في جانب وتنظيم «داعش» في جانب آخر؟ وهل يعقل التصديق أن العالم كله المستنفر الآن لا يمكن أن يلحق «الضربات القاضية» به، وإذا ما صح هذا فالمعنى وجود أكثر من علامة استفهام، حول من يستفيد من نضالات «داعش» في المنطقة والعالم.

ثالثاً: في غمرة الأحداث المتفجرة، يُطرح سؤال من ضمن أسئلة كثيرة: أين النتائج التي كانت مقررة ومقترحة للتوصل إلى تفاهمات بين مجموعة الدول الكبرى زائداً ألمانيا والجمهورية الإسلامية الإيرانية؟ أين هي النتائج المباشرة لهذا «التفاهم النووي»؟

ومع استعادة إيران أموالها في الولايات المتحدة وفي دول غربية والتي تقدر ببلايين الدولارات، لاحظنا هرولة العديد من مسؤولي العالم إلى طهران لعقد صفقات معها بعد مرحلة استرداد الأموال المجمدة. والآن طغت على هذا الواقع أحداث أخرى.

على أن لغة التخاطب لم تتغير من الجانبين، إذا استمرت مفردات المرشد الأعلى نفسها ضد رمز الاستكبار العالمي أميركا. وكذلك ردود أوباما الذي تعرض لانتقادات لتوصله لهذا الاتفاق، لكن الجواب كان ولا يزال بأن «إيران تشجع الإرهاب وتدعم عملياته، لكنْ من الأفضل أن تكون جزءاً من الحل وليس فقط جزءاً من المشكلة».

وأخيراً: وعلى رغم التحركات والتموجات في أزمات المنطقة، لا شيء يوحي بأن النهاية ستكون وشيكة بل الأمر قد يتطور إلى «مراحل جديدة في سياق المراحل المتعددة المقررة لهذه المنطقة». وما دام أهل هذه المنطقة على ما هم من فراق وتشتت فلا أمل يرتجى من كل ما يجري.

يبقى أخيراً سؤال المرحلة: هل مصير المنطقة يتوقف فعلاً على تقرير مصير «داعش» وعلى مصير الأسد، والاختيار بينهما؟ ألم نقل عبر هذا المنبر: سيظهر التاريخ أن الرئيس بشار الأسد هو الأكثر تكلفة؟ وأن مصير سورية والمنطقة وحتى العالم في الميزان، وسوف تؤكد الأحداث أننا أمام فيلم أميركي – روسي طويل طويل.

   عادل مالك

صحيفة الحياة اللندنية