لقيت كلمة هيلاري كلينتون في الأسبوع قبل الماضي عن الدولة الإسلامية “داعش” أمام مجلس العلاقات الخارجية المزيد من الإطراء بدلاً من الدحض والرفض، مستفيدة من التناقض مع هوس الخوف الشائن الذي يشيعه المرشحون الرئاسيون الجمهوريون. لكن تقييم رؤيتها بأنها أفضل من تنافر النغمات الذي يخرج من سفينة الحمقى في الحزب الجمهوري يظل منخفضاً. وفي السؤال حول ما إذا كانت استراتيجيتها تبدو معقولة، فإن كلمتها تعتبر فشلاً ذريعاً.
قدمت كلينتون خطابها كاستراتجية أكثر صقورية من استراتيجية أوباما، داعية إلى “مرحلة جديدة” من شأنها “أن تكثف وتوسع جهودنا لتحطيم الخلافة المستقبلية” –أي المزيد من الطائرات والمزيد من الضربات والمزيد من الأهداف والمزيد من الدعم للأكراد. والمزيد من حث حلفائنا على الانضمام للقضية. والصلاة من أجل قيام صحوة سنية جديدة.
في الواقع، يشكل الكثير من استراتيجيتها استمراراً لإستراتيجية الرئيس. وهي منذورة للفشل، مثل سياسة أوباما، لأنها تتجاهل محدوديات الائتلاف الضيق بالقيادة الأميركية التي جمعتها واشنطن. وكلما أمعنت في الفشل، فإن الضغوط من أجل إضافة المزيد من القوات الأميركية ستزداد. وقد أعلنت كلينتون عن معارضتها لإعادة “100.000 من القوات الأميركية للقتال في الشرق الأوسط”، لكنها أشارت إلى أنها منفتحة أمام اقتراح إضافة المزيد إلى القوات الحالية إذا لزم الأمر.
كانت دعوة كلينتون لتحديد منطقة حظر طيران فوق سورية هي الافتراق الوحيد الواضح عن استراتيجية أوباما. وكان اقتراح مناطق حظر الطيران موضع سخرية من جانب الرئيس السابق لأركان الجيوش الأميركية، مارتن ديمبسي، باعتبار أنها “كابوس مكلف”، و”عمل من أعمال الحرب”، وليس لها علاقة بإلحاق الهزيمة بمجموعة “داعش” أو “القاعدة” في سورية واللتين لا تتوافران على قوة جوية. وهي تستهدف في الأساس إضعاف القوات السورية (الأمر الذي قد ينطوي على مفارقة تتمثل في تقوية الدولة الإسلامية). وبما أن روسيا تقوم الآن بإكمال القوة الجوية السورية، تكون فكرة تحديد منطقة حظر للطيران أكثر خطورة ومجازفة. وتتفهم كلينتون أنه سيكون ضرباً من الحماقة أن تقوم الولايات المتحدة بالتهديد بخوض حرب جوية مع روسيا بسبب سورية. ولذلك تقترح هيلاري أن موسكو سوف تقبل بطريقة ما تبني مفهوم مصمم لإضعاف حليفها السوري.
تستطيع حملة جوية موسعة للائتلاف الاستمرار في إضعاف قدرات قوات “الدولة الإسلامية”، لكنها لا تستطيع -كما تقر كلينتون- إلحاق الهزيمة النهائية بها. ويتطلب ذلك قوات برية على الأرض -لاستعادة الأراضي من “داعش” والاحتفاظ بها على حد سواء، وللمساعدة في إعادة بناء مؤسسات حكومية قابلة للعمل. وتعني هزيمة “الدولة الإسلامية” الشيء القليل إذا كانت النتيجة انتشار الفوضى العارمة.
مثل أوباما، تستبعد كلينتون بشكل عقلاني توسيعاً رئيسياً للقوات الأميركية أو قوات الناتو في سورية. وإذن، من أين ستأتي القوات؟ إن تركيا تشعر بقلق متزايد من الأكراد. وتركز العربية السعودية، في الأثناء، على خوض الحرب في اليمن، وتبدي قلقاً من إيران أكثر مما تبديه من “الدولة الإسلامية”. ويبدو كلا البلدين أكثر ميلاً نحو الاستمرار في تحويل الأموال والأسلحة إلى مجموعات مرتبطة مع “جبهة النصرة” ومع “الدولة الإسلامية” من أجل إضعاف الحكومة السورية، بينما تتظاهران بأنهما جزء من الائتلاف الأميركي. ويعتبر الأكراد فعالين في الدفاع عن أراضيهم الخاصة، لكنهم يهتمون أكثر بنحت منطقة حكم ذاتي أكثر من اهتمامهم بتحرير الرقة أو شرقي حلب. وهكذا، من غير المرجح بدرجة عالية أن تنجح استراتيجية كلينتون.
ربما يكون الائتلاف الأكثر فعالية ضد “الدولة الإسلامية” -وفي الحقيقة، الائتلاف الوحيد القادر على هزيمتها وتأسيس حكومة فعالة- هو ذلك الذي لا يضم الولايات المتحدة وحلفاءها والعراق وحسب، بل أيضاًَ روسيا وإيران. وكما أشارت كلينتون في ملاحظاتها، فإن تركيز إدارة أوباما في سورية انصب حتى وقت متأخر على التخلص من الرئيس السوري بشار الأسد. ولتحقيق تلك الغاية، فإنها ما تزال تعمل مع حلفاء واشنطن السنة لتقديم مساعدات سرية وعلنية لمختلف مجموعات الثوار، والكثير من هذه المساعدات ذهب في نهاية المطاف إلى أيدي “جبهة النصرة” و”الدولة الإسلامية”، مما سعّر من أوار الصراع العسكري وأفرز من اللاجئين أكثر من ذي قبل. وسيكون البديل الواضح هو رفع ذلك الجهد راهناً على الرف، وبناء ائتلاف موحد لإلحاق الهزيمة بمجموعة “الدولة الإسلامية”، مصحوباً بجهد دبلوماسي وسياسي مكثف لصنع حالات وقف محلي لإطلاق النار بين الحكومة السورية وبين مجموعات معارضة محلية، لإعادة تأسيس وتوطيد الأمن في تلك المناطق. وقد يفضي هذا إلى تسوية سياسية تقود في نهاية المطاف إلى انتخابات جديدة وحكومة سورية (من دون الأسد).
كثيراً ما تستحضر كلينتون فكرة “القوة الذكية” والحاجة إلى انخراط كل عناصر القوة الأميركية في الحرب ضد “الدولة الإسلامية” والإرهاب. لكن تركيزها ينصب على التكتيكات العسكرية وليس على الإستراتيجية السياسية، وقد حذفت كلينتون من كلمتها أي بحث في الكيفية التي علقت بها الولايات المتحدة في مستنقع هذه الحرب الأهلية الطائفية الوحشية، وكيف ساهمت السياسة الأميركية -في العراق وبعده في ليبيا- في خلق الفوضى العارمة التي تعاني منها المنطقة. وكما شاهدنا مرة تلو الأخرى، فإن المؤسسات الشرعية والفعالة التابعة للدولة هي البلسم الشافي طويل الأمد والوحيد ضد مرض الإرهاب. ولن يستعاد النظام لسورية بعمل القوى الغازية التي تترك الفوضى العارمة وراءها -وخاصة من الغرب. إن النظام يمكن أن يكون نتاجاً لتسوية سياسية بين مجموعات مهتمة بالحفاظ على سورية كمجتمع متعدد الملل والأعراق. ومع ضرب إرهاب “الدولة الإسلامية” الأخير في باريس وبيروت وطائرة الركاب الروسية في غضون أيام، فإن فكرة هذا التحالف تصبح أكثر عقلانية –وإنما ليس بالنسبة للسيدة كلينتون.
في حديث أدلى به في نفس اليوم في جامعة جورج تاون، قدم السناتور بيرني ساندرز (ولاية إلينوي) وجهة نظر أكثر توازناً. فقد حذر ضد انتهاج “مغامرات متهورة في الخارج”، داعياً بدلاً من ذلك إلى بناء قوة أميركا في الوطن، كما أوضح أن إلحاق الهزيمة بمجموعة “الدولة الإسلامية” يتطلب ائتلافاً كبيراً يضم روسيا وإيران. وامتدح ساندرز الجهود الرامية إلى التوصل إلى اتفاق على عملية تنهي الحرب الأهلية السورية، وترتيب الانتقال بعيداً عن دكتاتورية الأسد الوحشية، لكنه أصر على أن “سياستنا يجب أن تنصب على هزيمة الدولة الإسلامية”.
إن تردد ساندرز والرئيس أوباما إزاء مزيد من الانخراط الأميركي في هذه النزاعات الدموية محق تماماً. وبينما يجب علينا بالتأكيد أن نسعى إلى بناء تحالفات لوضع حد للحرب الأهلية السورية وتهدئة النزاعات الطائفية المنتشرة في عموم المنطقة، فإن التورط العسكري الأميركي المتزايد يكون مصيدة على الدوام. وحتى بينما تدعو إلى المزيد من هذا الانخراط، تعترف كلينتون بأن الدول والشعوب في المنطقة فقط هي التي تستطيع تسوية النزاع. ويشير ذلك إلى أنها ستكون أكثر حكمة إذا هي أعادت دراسة المسألة بمزيد من العمق.
ترجمة: عبدالرحمن الحسيني
صحيفة الغد الأردنية