مصر تلتفت إلى الأمن القومي النفسي مع تزايد الضغوط المجتمعية

مصر تلتفت إلى الأمن القومي النفسي مع تزايد الضغوط المجتمعية

الضغوط الاقتصادية ترتب آثارا نفسية على مستوى المجتمع بشكل عام، وخاصة في أوساط الفئات الأكثر تضررا والمعرضة بشكل أكبر إلى خسارة مصادر دخلها، أو اللجوء إلى الاقتراض للوفاء بحاجياتها، وهذا ما جعل مصر تهتم بما يسمى “الأمن القومي النفسي”.

القاهرة – تستعد الرئاسة المصرية لإطلاق مبادرة صحية جديدة لدعم الصحة النفسية مع مطلع العام الجديد، في محاولة للتعامل مع تأثيرات الضغوط الاجتماعية والاقتصادية التي يتعرض لها المواطنون بما تسبب في زيادة معدلات الجريمة وخروجها عن المألوف في مرات عديدة، ما أضحى يشكل تهديدا أمنيا ومجتمعيا.

وانتشرت بعض الظواهر الاجتماعية الغريبة في مصر الفترة الماضية، وشملت حوادث غير مألوفة في المجتمع، أدى تسليط الأضواء عليها من قبل وسائل التواصل الاجتماعي إلى تضخيمها بصورة كبيرة، الأمر الذي أزعج مراكز البحوث المعنية بالتطورات التي يمر بها المجتمع، وبدأ الاهتمام يتزايد بإخضاعها للتحليل.

خارطة الأمراض النفسية
ناقش وزير الصحة والسكان المصري خالد عبدالغفار أخيرا آليات تنفيذ الإستراتيجية الجديدة التي تستهدف تيسير حصول المواطنين على كافة خدمات الدعم النفسي وتوسيع المدارك المجتمعية والعمل على نشر ثقافة الصحة النفسية وتأكيد أهميتها، وتغيير الصورة الذهنية للمجتمع التي تنظر إلى المريض النفسي على أنه “وصمة”.

وأوضح عبدالغفار أن هذا التوجه يتضمن إجراء دراسات ميدانية لرصد خارطة الأمراض النفسية والوقوف على المؤثرات المسببة للقلق والاكتئاب، ووضع خطة محددة من شأنها التخفيف من حدة أعراض الأمراض النفسية والمجتمعية، مشيرا إلى أنه جرى وضع آليات لإجراء الدراسات الميدانية بالتعاون مع عدد من الجامعات المصرية والمؤسسات العلمية المختلفة.

ويأتي الالتفات المصري إلى الأمراض النفسية في وقت يعاني فيه المجتمع من حالات اكتئاب عامة تسببها الوضعية الاقتصادية الضاغطة، ما يؤدي إلى انتشار تعاطي المواد المخدرة بكل ما ينطوي عليه من أبعاد خطيرة على مستوى التماسك المجتمعي والأمني، في وقت تتزايد فيه معدلات الإصابة بالاضطرابات النفسية لدى أشخاص عاديين قد يقتربون في يوم ما إلى النقطة الحرجة لانفجار سلوكيات العنف داخلهم.

وتفسر تلك العوامل زيادة ظاهرة العنف المفرط، وارتفاع معدل شحنات العنف في الجرائم المرتكبة والتي تظهر فيها عوامل الانتقام بما يتجاوز الحدث المسبب لارتكاب الجريمة، وقد لا يكون الأمر مرتبطا بالأوضاع الاقتصادية في تلك الحالة لكن عدم قدرة السيطرة على السلوكيات المتزنة واختلاف أشكال الضغوط التي يعاني منها المضطربون نفسيا قادتهم لتعاطي مواد مخدرة تُغيبهم عن وعيهم.

ويتردد مصطلح “الأمن القومي النفسي” على ألسنة الكثير من الأطباء النفسيين الذين يرون أن ارتكاب الجرائم بأساليب تتجاوز المنطق والعقل ناتج عن اضطرابات نفسية شديدة ما يدفع إلى ضرورة البحث والتحري والتقصي للتعرف على طبيعة الدوافع والأسباب من جانب متخصصين في علمي النفس والاجتماع.

ويشير آخر مسح قومي أجرته إدارة الصحة النفسية التابعة لوزارة الصحة بمصر في عام 2018، إلى أن عدد المصريين الذين يعانون من أعراض الاضطرابات النفسية تصل نسبتهم إلى 25 في المئة، منهم 43.7 في المئة يعانون من الاكتئاب.

وحسب دراسات أكاديمية يعاني ما يقارب من 50 في المئة من البالغين من مرض عقلي في مرحلة ما في حياتهم، وأكثر من نصف هؤلاء تتملكهم بعض الأعراض التي تتراوح بين متوسطة إلى شديدة.

قال استشاري الطب النفسي بالقاهرة جمال فرويز إن تزايد معدلات الجريمة يعد انعكاسا مباشرا لدرجات مختلفة من الاضطراب النفسي التي تحرك دوافع الجناة، والخطر لا يتمثل فقط في هؤلاء الأشخاص، فالمرض النفسي ينتقل كالعدوى بين أقاربه والبيئة المحيطة به ما يجعلنا أمام معدلات لا حصر لها من المرضى النفسيين.

وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن التدخل الحكومي مهم في تلك الفترة التي يعاني فيها المجتمع من مناخ تشاؤمي، بالتالي يكون المواطنون عرضة أكبر للإصابة بالأمراض العضوية أو النفسية، وأن التحرك في اتجاهات عديدة لتوعية المواطنين بالاضطرابات النفسية وكيفية التعامل معها يمنع توريث المرض النفسي باعتباره مرضا جينيا أو وراثيا.

وأكد أن نجاح المبادرة المصرية يرتبط بمدى قدرة القائمين عليها من خبراء ومسؤولين على الوصول إلى أكبر قدر من المرضى النفسيين في توقيت مبكر وإخضاعهم لعلاج منخفض التكاليف أو مجاني بصورة سريعة لتضييق الخناق على مجموعة من الظواهر التي انتشرت مؤخرا وأسهمت في زيادة الطلب على المشعوذين وتشويه صورة الطبيب النفسي والتعامل معه كشخص لديه أساليب علاجية تستقطب المرضى وتُدخلهم في دوامات العلاج المستمر.

ويتفق العديد من الخبراء على أن ارتباط الأمراض النفسية بالمواد المخدرة يشكل الخطر الأكبر على المجتمع، ففي تلك الحالة تتزايد احتمالات ارتكاب الجريمة، كما أن العلاج يكون مضاعفا، وفي الأغلب يتعرض المدمنون والمصابون بأمراض نفسية إلى انتكاسات متكررة يمكن أن تجعلهم يفقدون الأمل في الشفاء.

وتتحصن المبادرة الجديدة بالسمعة الجيدة بمبادرات صحية رئاسية أخرى حققت نجاحا مجتمعيا واستطاعت أن تجذب الملايين من المواطنين إليها، أبرزها “100 مليون صحة” للكشف المبكر عن الإصابة بـ”فايروس سي” التي استجاب لها ما يقرب من 70 مليون مواطن على مستوى محافظات مصر.

خبراء يؤكدون أن المجتمع المصري يعاني من حالات اكتئاب عامة تسببها الوضعية الاقتصادية الضاغطة

وأوضح فرويز لـ”العرب” أن عوامل نجاح المبادرة ترتبط بمدى قدرتها على إقناع المواطنين وتوعيتهم بالمرض النفسي وكيفية التعامل معه بجانب استمراريتها واستعراض نتائجها الإيجابية بشكل متتال ووصول قوافل وزارة الصحة إلى القرى والنجوع المختلفة في مصر، فضلا عن توعية الأطباء أنفسهم في التخصصات المختلفة التي دائما ما توصي بوقف علاجات الاضطراب النفسي لعلاج أمراض عضوية أخرى، وهو ما تكون نتيجته حدوث المزيد من الانتكاسات للمرضى النفسيين.

وتشير بعض تقديرات الصحة النفسية إلى أن نسب الانتكاسة بعد العلاج النفسي تتزايد بالنسبة إلى مرضى الاكتئاب وتصل إلى 80 في المئة، و90 في المئة عند المدمنين.

وتعاني مصر من عدم توافر مصحات العلاج والمستشفيات الحكومية اللازمة، في كثير من الأحيان لا تستوعب كل الحالات التي بحاجة لعلاج، كما أن المصحات الخاصة تكاليف العلاج بها باهظة وتتوافد عليها غالبا فئة الأغنياء من المواطنين.

ويبلغ عدد منشآت الصحة النفسية في مصر، حسب وزارة الصحة، 179 منشأة حكومية وخاصة، وتضم 10 آلاف و146 سريرا، وتتبنى الإستراتيجية الجديدة اتجاها بزيادة الطاقة الاستيعابية لهذه المنشآت والتوسع في تشييد منشآت جديدة.

وأكدت مدرسة الصحة النفسية بجامعة بني سويف (جنوب القاهرة) رشا الجندي أن الإستراتيجية الجديدة يمكنها الاستفادة من دراسات وأبحاث أكاديمية عديدة تتناول تفاصيل المرض النفسي، وعليها أن تكون أكثر اهتماما بعمل دراسات حالة لأشهر جرائم القتل التي تحدث صدمات مجتمعية بين حين وآخر للتعرف على الأسباب التي تقود إليها، علاوة على تدشين محاضرات توعوية للمواطنين في أماكن متفرقة.

وذكرت الجندي في تصريح لـ”العرب” أن الضمانة الأفضل لتحسين صورة الطب النفسي وتوعية المواطنين تتمثل في تبني مناهج دراسية ومقررات للصحة النفسية يتم تدريسها بدءا من مرحلة رياض الأطفال وحتى نهاية التعليم الجامعي، وأن تكون الدراسة لجميع التخصصات وليس لأقسام بعينها، ما يجعل هناك إمكانية للوصول إلى 25 مليون طالب بجانب أسرهم وعائلاتهم الذين يتعرضون لهذا المحتوى الدراسي.

وأوضحت أن الاعتماد على معلمين غير مدربين على توصيل مناهج الصحة النفسية بطريقة سلسة للطلاب قد يأتي بنتائج عكسية ما يتطلب الاعتماد على متخصصين في علم النفس لديهم قدرة على تطويع المنهج العلمي مع المواقف الحياتية التي يتعرض لها هؤلاء.

رفضت الجندي الربط بين الأوضاع الاقتصادية وبين زيادة الضغوط التي يتعرض لها المواطنون في مصر، وهناك مسببات مختلفة للضغوط، وقد يكون هناك شخصان من عائلة واحدة ويتعرضان لنفس الصعوبات الاجتماعية والاقتصادية لكن أحدهما يشق طريقه نحو النجاح والآخر يبقى عرضة للاكتئاب وغيره من الأعراض والأمراض النفسية، وأن نجاح الإستراتيجية يرتبط بمدى الغوص في تفاصيل كل حالة على حدة وعدم التعامل بشكل عام وفقا للمؤثرات المحيطة بالمواطنين.

ووفق تصريحات إعلامية أدلى بها المتحدث الرسمي باسم وزارة الصحة المصرية حسام عبدالغفار، فإن الفترة الحالية تشهد تدريبا وتأهيلا للفرق الطبية للعمل داخل المبادرة ومعرفة كيفية تقديم الدعم النفسي والصحي للمواطن، فالمبادرات الصحية الرئاسية لا يتحمل فيها المواطن أعباء مالية، وتستهدف كل الفئات العمرية.

ويتفق أطباء نفسيون على أن المتغيرات الاجتماعية التي طرأت على المصريين أثرت على خارطة الأمراض النفسية، وهو ما ساهم في انتشار أمراض لم تكن حاضرة بقوة في السابق مثل الاضطرابات السلوكية، وفي معظم الأحوال يكون المريض النفسي ضحية المجتمع الكبير ومجتمعه الصغير المحيط به، مثل العائلة والأصدقاء.

العرب