أعاد الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا في 6 فبراير الجاري (2023) وما زالت توابعه تتوالى حتى الآن، تشكيل أولويات القوى المنخرطة عسكرياً على الساحة السورية للتعامل مع التداعيات المدمرة لهذا الزلزال. وبالتبعية، سيعيد تشكيل الأولويات السياسية في المستقبل، حيث ستتصدرها أولوية إعادة الإعمار للمناطق المنكوبة في كلا البلدين. وعلى الأرجح، ستلعب الأطراف المانحة لتمويل عملية إعادة الإعمار دوراً في إعادة تشكيل خريطة الأزمة السورية، على خلاف الترتيبات السياسية والأمنية التي كانت قيد التشكل قبل وقوع الزلزال، ومنها التقارب ما بين تركيا والنظام السوري، وإعادة الانتشار العسكري لمختلف القوى المنخرطة على الساحة السورية. بصيغة أخرى، يمكن القول إن الزلزال يعد بمثابة نقطة تحول فاصلة بين ما قبلها وما بعدها في ملف الأزمة السورية.
نقطة تحول
دفعت الحرب الروسية-الأوكرانية التي اندلعت قبل عام في فبراير 2022 موسكو إلى تخفيف تواجدها العسكري في سوريا، وقبيل وقوع الزلزال الحالي سعت موسكو إلى إحداث تقارب بين أنقرة والنظام السوري، وقامت تركيا بإعادة انتشار لقواتها على خطوط الانتشار الروسي مع النظام وحلفائه الآخرين كنوع من الضغط لتنفيذ مشروع إعادة توطين أكثر من مليوني ونصف المليون لاجىء سوري في تركيا، في إطار واحدة من أكبر عمليات التغيير الديمغرافي في سوريا، ولتشكيل حزام بشري عازل عن مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية “قسد” في الاتجاه الشمالي الغربي، يوازي المنطقة العازلة بعمق 30 كلم التي تسعى تركيا إلى استقطاعها في مناطق الحدود الشمالية المشتركة بين البلدين.
بالإضافة إلى ما سبق، أعادت تركيا دمج قواتها العسكرية المنتشرة في مناطق الحدود الغربية السورية، وقد أدى هذا الدمج إلى تقليص الانتشار بحدود 45% تقريباً، حيث تم دمجها في 64 نقطة رئيسية بعد أن كانت نحو 113 نقطة، بواقع أكثر من 10 آلاف عنصر عسكري، وفقاً للمرصد السوري لحقوق الإنسان. وفي المقابل، يشترط النظام السوري في إنهاء التواجد العسكري التركي في البلاد لتطبيع العلاقات مع أنقرة، في حين تعتبر الأخيرة أن تواجدها العسكري هو ما يضمن لها تحقيق خطتها.
ودخلت إيران على الخط ذاته لإعادة ترتيب خريطة الانتشار والنفوذ في مناطق السيطرة، وأكدت تركيا أن دور إيران مهم في هذا السياق، ولا يعتقد أن الهدف من ذلك هو التنسيق، لكن قواعد اللعبة تتطلب وجود كافة الأطراف في الملعب، حيث تدرك أنقرة أن طهران سوف تسعى لاستغلال ظروف إعادة الانتشار والتقارب التركي-السوري في ملء الفراغ الذي يمكن أن تنسحب منه القوات التركية، إلا أن تركيا تستغل ذلك كورقة ضغط على النظام وروسيا والولايات المتحدة، حيث يتفق الجميع على أن إحلال الوجود الإيراني بالتركي لن يكون في صالح الجميع. وتسعى طهران إلى التوسع في حلب التي افتتحت فيها قنصلية قبل أعوام، وبالتالي أصبحت تشكل طوقاً على مناطق نفوذ النظام نفسه، في دائرة تمتد من حلب إلى سواحل اللاذقية، وهو فيما يبدو ترتيب للانتقال إلى الضفة الشرقية من نهر الفرات حيث مناطق نفوذ “قسد” والعشائر العربية، باتجاه دير الزور والبوكمال، وتهدف من وراء هذا التموضع الجديد إلى بناء موازين القوى في مواجهة إسرائيل التي تحذر بدورها إيران من مغبة الإقدام على هذه الخطوة.
وعلى التوازي، قامت الولايات المتحدة بتعزيز تواجدها في مناطق الشمال السوري، تحت عنوان دعم حليفتها “قسد”، وفي إطار التأكيد على استمرار مهمة التحالف الدولي للحرب على داعش، الذي تتولى فيه الولايات المتحدة عملية القيادة، في حين أنها أيضاً جزء من قواعد اللعبة لبناء التوازنات في مواجهة الوجود الروسي والإيراني.
وتشير خريطة الانتشار والنفوذ العسكري على الساحة السورية قبيل وقوع الزلزال، إلى ثبات أغلب مناطق السيطرة والنفوذ على مدار العامين 2021-2022 وحتى مطلع العام 2023 بواقع سيطرة النظام السوري على قرابة 63% من مساحة البلاد، فيما تسيطر قوات سوريا الديمقراطية على نحو 25% منها، بينما تسيطر المعارضة السورية على نحو 11% تقريباً. لكن خلف خريطة السيطرة والنفوذ المحلية هناك خريطة أكثر تعقيداً للقوى الخارجية التي تلعب دور القيادة وتعتبر هي المحرك الفعلى لإدارة ديناميكيات الأزمة، على نحو ما سلفت الإشارة.
أوضاع الانتشار والتحركات في ظل الزلزال
بشكلٍ عام، تجمدت التحركات العسكرية نسبياً، مع تأكيد الأطراف على إظهار القوة في تثبيت مناطق النفوذ والسيطرة لعدم استغلال الوضع الراهن في إحداث تغيير، لكن تعكس عمليات السيطرة على المعابر لإدخال المساعدات إلى المناطق المنكوبة طبيعة الوضع الميداني في سوريا، ومعادلات موازين القوى ومقاربات العلاقات ما بين كافة الأطراف، والتي تشير إلى عدم مرونة اللاعبين المحليين في التعاطي مع الأزمة بالقدر الكافي من جهة، بينما يمكن أن يكون دور القيادة للفاعلين من الخارج أكثر مرونة في ممارسة ضغوط للاستجابة للأزمة.
بالنسبة للموقف التركي، مع الانكفاء على جهود التداعيات الكارثية التي تسبب فيها الزلزال، والتي دفعت بتركيا إلى استدعاء نحو 25 ألف عنصر من الجيش للمساعدة في تلك الجهود، إلا أنها تحافظ على طبيعة الانتشار العسكري وفق الترتيبات السابقة. وطبيعياً، أرجأ الزلزال أي احتمالات كانت متوقعة لشن القوات التركية عملية عسكرية برية في مناطق “قسد” كانت تهدد بها أنقرة حتى منتصف يناير الفائت، إلا أنها كانت مؤجلة لاختبار مسار التقارب مع النظام. بالإضافة إلى ذلك، أعلن الجيش الأمريكي عن الدفع بمجموعة من العناصر لتقديم الدعم لتركيا، ما قد ينعكس على طبيعة إدارة الطرفين للوضع في سوريا في المستقبل.
أما بالنسبة للمعارضة، فقد فاقم انكفاء تركيا على أزمتها بشكل رئيسي من إضعاف وضعها، حيث لا تمتلك تركيا فائض دعم للإغاثة والمساعدة في المناطق المنكوبة في إدلب تحديداً. وعلى الجانب الآخر، استغل النظام الأزمة من خلال التحكم في وصول المساعدات عبر نقاط السيطرة المشتركة، ولم يتم فتحها إلا في الأسبوع الثاني من وقوع الكارثة، ويعتقد أن المرونة المحدودة التي أبداها النظام مؤخراً جاءت تحت ضغط الأمم المتحدة، ووفق تسريبات أشارت إلى ضغوط أمريكية في إطار تعليق قانون “قيصر”. كذلك تتبادل قوات المعارضة و”قسد” تشديد السيطرة على نقاط التماس، ولا يعتقد أن هناك انفراجة ممكنة بين الطرفين رغم حدة الأزمة.
وعلى التوازي، بدا أن هناك رسائل تحذيزية متبادلة ما بين القوات التركية و”قسد”، فمع تجميد العمليات العسكرية، تؤكد “قسد” نجاحها في الانتهاء من عمليات مكافحة “داعش” في الرقة، وبالتالى جمدت هذه الورقة هي الأخرى، والتي غالباً ما توظف على التوازي مع التصعيد مع تركيا، كنوع من تنشيط الدعم الأمريكي لـ”قسد”. وباستثناء عملية واحدة جرى فيها تبادل إطلاق النار على الحدود ما بين القوات التركية و”قسد” ربما يمكن اعتبارها عملية تحذيرية متبادلة للحفاظ على الثبات في نقاط الانتشار على وضعها الحالي، وكانت “قسد” أعلنت عن عملية أخرى (12فبراير) بإطلاق طائرة من دون طيار استهدفت أحد مقاتليها لكنها تراجعت بعد ساعات وأعلنت أنه توفى إثر أزمة قلبية.
على الجانب الآخر، أظهرت إيران تواجدها في حلب بدعوى تقديم المساعدة للمتضررين من الزلزال، وبرز ذلك في الزيارة التي قام بها اسماعيل قاآني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري، ليكون أبرز مسئول أجنبي يتوجه إلى تلك المناطق، في حين يعتقد أن إيران تسعى لاستغلال أزمة الزلزال لإعادة التأكيد على نفوذها ودور القيادة الذي يمكن أن تلعبه في المرحلة المقبلة وفق خطة توسيع الانتشار التي تعمل عليها.
السيناريو التالي : إعادة هيكلة متوقعة
ستشكل العوامل السياسية نقطة الانطلاق لإعادة هيكلة الأزمة السورية، انطلاقاً من متغير الموقف التركي، حتى وإن لم تتغير الحسابات التركية على الساحة السورية سريعاً، لكن من المؤكد أن فاتورة الأزمة ستدفع أنقرة إلى تغيير هندسة الانتشار على الساحة السورية، فعلى نحو ما سلفت الإشارة كانت خطة تركيا تهدف إلى إعادة توطين ملايين اللاجئين السوريين، لأسباب أمنية تتعلق بإزاحة الأكراد عن مناطق التماس مع الحدود التركية، وربما أيضاً كجزء من عملية الدعاية الانتخابية للائتلاف التركي الحاكم لتخفيف الأعباء في هذا الملف.
ربما يتم إرجاء الانتخابات التركية، كأحد الاحتمالات، ومع ذلك سيظل تعامل الحكومة مع الزلزال هو النقطة التي ستحدد مستقبل هذه الحكومة، وبالتالي تغيرت أوراق الدعاية الانتخابية التي كان يتصدرها ملفا الأكراد واللاجئين السوريين، لكن مع إعلان أوروبا عن إقامة مؤتمر لإعادة الإعمار في سوريا وتركيا، من المتوقع أن ملف اللاجئين سيكون مجالاً للتداول على طاولة النقاش، ومن المتوقع أن أنقرة ستسعى قدر الإمكان إلى هندسة هذا الملف وفق خطتها السابقة. لكن الأمر سيتعلق بالفاعلين الآخرين وأجندتهم الخاصة بهذا السياق.
على ضوء ذلك، سيكون ملف إعادة الإعمار، والانتخابات التركية، والمتغيرات الخاصة بالسياسة الخارجية لكل من النظام وحلفائه، والموقفين الأمريكي والروسي من تلك التفاعلات في مباريات مجلس الأمن وعلى الساحة السورية، هي عوامل ستشكل مستقبل خريطة الأزمة سياسياً وعسكرياً. لكن مع ذلك، يؤخذ في الاعتبار أن النظام كمستفيد رئيسي من التطورات الراهنة، يراهن على انفتاح نسبي على واشنطن، مع ظهور بعض المصالح المشتركة للجانبين، على نحو قد يدفع بالجانبين إلى التفكير في معادلة الاستقطاب الروسي، لكن لا يعتقد أن النظام سيضحي بعلاقته في هذا الاطار.
لكن من المرجح أن نقطة الالتقاء الأهم تتعلق بالتواجد الإيراني، ومنظور طهران كمستفيد أكبر من النظام، سواء مع انشغال روسيا في الحرب في أوكرانيا، وحالياً انشغال تركيا هي الأخرى في مواجهة تداعيات الزلزال، وقد يكون من مصلحة النظام الفكاك من الطوق الإيراني الذي يقوضه، خاصة وأن الوجود الإيراني يضعف النظام بسبب تنامي الضربات الإسرائيلية، وبل واحتمالات مضاعفتها في المستقبل مع توجه إيران للانتقال إلى شرق الفرات في ظل الرسائل التحذيرية الإسرائيلية.
بالإضافة إلى ما سبق، قد يستفيد النظام أكثر بخطوات التقارب مع محيطه العربي، وقد تكون فرصة أيضاً لإعادة تقييم المواقف العربية تجاه سوريا، فقد رفعت تونس من مستوى التمثيل الدبلوماسي، وأجرى وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد زيارة إلى دمشق، بينما أجرى الرئيس عبد الفتاح السيسي اتصالاً هو الأول من نوعه مع الرئيس بشار الأسد، كما تضامنت الجزائر مع النظام السوري من خلال تقديم مساعدة مادية، ولكن لا يزال من المبكر أن تنعكس آثار خطوات التقارب تلك على الأوضاع المعقدة أمنياً وميدانياً في ظل موازين القوى الحالية، ومع ذلك لا يمكن التقليل من تلك الخطوات السياسية على المديين المتوسط والطويل.
إجمالاً، من المتصور أن ساعة الصفر لانطلاق عملية عسكرية جديدة في سوريا كانت ستغير بدورها نسبياً من موازين القوى وخرائط السيطرة والنفوذ، تأجلت إلى أجل غير مسمى، وحل محلها الزلزال وتوابعه التى ستلقي ارتداداتها السياسية بظلالها على خريطة الأزمة سياسياً وعسكرياً، ليس باتجاه حل الأزمة وإنما باتجاه انفراجة في جانب، وتشكل تعقيدات جديدة في جانب آخر.
مركز الاهرام للدراسات