من يراقب الساحة العربية على مدار السنوات القليلة الماضية يدرك بوضوح خطأ المقولة التي خرج بها علينا عالم السياسة الأميركي الشهير فرنسيس فوكوياما، في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي وتفككه وانتهاء الحقبة الشيوعية في العديد من بلدان شرق ووسط أوروبا في نهاية عقد الثمانينات ومطلع عقد التسعينات من القرن العشرين، حيث بشَّر فوكوياما العالم بأسره آنذاك بانتهاء زمن «الأيديولوجيات» في تاريخ الإنسانية، معتبراً أن انتهاء الحرب الباردة في أوروبا هو بمثابة مؤشر إلى أنه لم تعد هناك حاجة للأيديولوجيات، حيث إن البشرية قد «اهتدت» أخيراً إلى أنه لا يوجد سوى نموذج واحد صالح لها، يتمثل على الصعيدين السياسي والاجتماعي في الديموقراطية الليبرالية على النسق الغربي، كما يتمثل على الصعيد الاقتصادي في نظام السوق المفتوح، من دون وجود أي منافسة جدية من أي نوع آخر من الأيديولوجيات أو من أي نسق بديل.
والصحيح أن فوكوياما تراجع عن مقولته تلك بعد ذلك بسنوات، وأقر شفاهة وكتابة بأوجه قصور في مقولته الأولى، وفي ضوء ما رآه من أحداث، ولكن لم يكن هذا التراجع آنذاك بدافع من أحداث السنوات الأخيرة في منطقتنا، بل بفعل تطورات عالمية، دارت في مختلف المناطق، ووشت كلها بدحض طرح فوكوياما. كما أن الصحيح، حتى لا نتجنى على الرجل، أن فوكوياما لم يكن أول من بشَّر بنهاية زمن الأيديولوجيات، وفي الأغلب أنه لن يكون الأخير، فقد سبقه كثيرون، وتقريباً كان يأتي ظهور كل منهم متزامناً مع انتهاء كل مرحلة مفصلية في تاريخ المجتمعات الإنسانية، ولكن ثبت بالنسبة اليهم جميعاً أن توقعاتهم بنيت في المقام الأول على افتراضات غير صحيحة، وبالتالي خلصت إلى استنتاجات افتقدت الدقة والصدقية والتماسك المنهجي والانسجام بين مكوناتها الذاتية.
فمنذ انتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة، والشرقي الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفياتي السابق، جرت تحولات جذرية وحدثت تطورات ذات دلالة في مختلف مناطق العالم لتؤكد أن الأيديولوجيات لا تزال تتمتع بالحيوية وأنها بعيدة كل البعد عن أن تغيب عن عالمنا في المستقبل المنظور. بل إن بعض تلك الأحداث دلل على أن دور الأيديولوجيات ربما تعاظم، وذلك بعكس توقع تراجع تأثيرها وقرب أفول نجمها. ومرة أخرة، يسري هذا القول على مختلف دول العالم على مدار العقدين ونصف العقد الأخيرين بلا استثناء، وليس فقط على العالمين العربي والإسلامي.
فعلى مدار هذه الفترة شاهدنا، على سبيل المثال لا الحصر، انتصار حرب تحرير شعبية مسلحة ذات أيديولوجية ماوية أطاحت الملكية وأقامت الجمهورية في النيبال في جنوب آسيا، كما شاهدنا تصاعداً غير مسبوق في شعبية اليسار، على تنوع فصائله، بين الثورية والديموقراطية والدينية، في غالبية بلدان أميركا اللاتينية، لنجد أنه بحلول نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة وصلت أحزاب اليسار إلى السلطة في معظم دول القارة عبر عملية انتخابية ديموقراطية، إضافة إلى تمسك بلدان في آسيا وأميركا اللاتينية بالأيديولوجية الشيوعية، مع تنويعات في تطبيقاتها، بخاصة على الصعيد الاقتصادي. وفي الفترة ذاتها، شاهدنا صعوداً تدريجياً أحياناً ومفاجئاً أحياناً ثانية وبطيئاً أحياناً ثالثة، في شعبية وتأثير قوى اليمين المتشدد، دينياً أو قومياً أو ثقافياً واجتماعياً، في العديد من مجتمعات الدول الغربية في شكل عام، ومجتمعات القارة الأوروبية على وجه الخصوص، شرقاً وغرباً وفي منطقة البلقان، بكل ما حمله ذلك من انعكاسات محلية وإقليمية ودولية.
أما على صعيد العالمين العربي والإسلامي، وفي صفوف الجاليات العربية والإسلامية في بلدان المهجر، فقد تصاعدت أيضاً خلال تلك الفترة ذاتها قوة تيارات تتبنى أيديولوجيات ذات مرجعية دينية، على تنوع واختلاف تلك التيارات وتعدد تفسيراتها للنصوص الدينية، كما تباينت في ما بينها في الإستراتيجيات التي اتبعتها، بناءً على توصيف علاقاتها بالسلطات الحاكمة في بلدانها وتصورها لأنماط علاقاتها مع العالم الخارجي، وبالتالي اختلفت في مدى تبنيها للعنف من عدمه، وفي درجة هذا العنف في حالة وجوده. ولكن، وربما بالدرجة ذاتها، برزت بقوة خلال تلك الفترة أيديولوجيات ذات طابع قومي، أو عرقي أو لغوي/ ثقافي، أو ديني أو مذهبي، لجماعات عاشت في السابق، ومنذ قرون، في كنف الدولة الإسلامية وتعايشت معها وكونت نسيجاً واحداً لا ينفصم مكوناً جزءاً أصيلاً من شعوبها، وساهمت في نهضتها الحضارية في عصور وأزمنة متتالية، حيث تبنى بعضها مطالب ثقافية أو اجتماعية أو إعلامية أو تعليمية، بينما تبنت غالبيتها مطالب ذات طابع سياسي في جوهرها.
والواقع أن عدم اختفاء الأيديولوجيات أو ضمور دورها لا يعود إلى وجود أيديولوجية بذاتها أو تحقيقها الانتصار في دولة أو منطقة أو حتى في العالم بأسره، بل إنه مرتبط بالطبيعة الإنسانية، أو بمعنى أدق بتلبيتها لاحتياج إنساني، خصوصاً لدى الأشخاص المسيّسين أو المعنيّين بالشأن العام، حيث يميلون بالطبيعة والتكوين والحاجة إلى بلورة أفكارهم ومطالبهم وأحلامهم وآمالهم في سياق طرح أيديولوجي في هذا الاتجاه أو ذاك.
وأبرز دليل على ما تقدم هو أنه داخل الأيديولوجية الواحدة تكوّن العداوات والمشاحنات في أحيان كثيرة بحيث تكون أشد وأقسى من التناحر بين أبناء الأيديولوجيات التي تبدو متعارضة في مآربها ومتناقضة في مبادئها. وحتى نقترب أكثر من هذه الحقيقة دعونا نسترجع من الذاكرة حجم العداء التاريخي داخل الأيديولوجية الماركسية مثلاً بين اللينينيين والستالينيين والماويين والتروتسكيين والتيتويين وغيرهم، والتي وصلت في مرات كثيرة إلى الاقتتال والمواجهات المسلحة المحدودة أو الممتدة لدول أو جماعات تنتمي الى هذه المظلة الأيديولوجية الواحدة، ثم تعالوا لنرَ سلاح التكفير ينتشر كالنار في الهشيم بين أتباع الأيديولوجيات ذات المرجعيات الدينية، ومرة أخرى يقترن ذلك باقتتال جماعات وتصفيات جسدية لقادة ورموز، وتسري الملاحظة ذاتها على تبادل التخوين بين أبناء الأيديولوجيات القومية وداخل صفوف فصائلها المختلفة، وهو ما يؤدي إلى إيجاد حالات احتقان وانقسام تكرّس حالة تفتّت وتشرذم، وتمثل مقدمة لصراعات بين كل المكونات المنتمية إلى هذه الأيديولوجية أو تلك.
ولا تثير هذه الظاهرة الدهشة لدى كل من يدرسها بقدر من التعمق والتتبع التاريخي والتحليل الموضوعي والتقييم الممنهج، حيث إنه داخل الأيديولوجية الواحدة وبالنسبة الى النصوص ذات القدسية أو المكانة أو الهيبة لدى أصحاب وأتباع وأنصار تلك الأيديولوجية تختلف التفسيرات وفق اعتبارات كثيرة، بعضها موضوعي وبعضها ذاتي، وقد تصل تلك الاختلافات إلى درجة التضاد في بعض الأحيان، وذلك بسبب التنافس بين أتباع التفسيرات المختلفة داخل الأيديولوجية ذاتها حول أي تفسير هو الأكثر شرعية وصدقية وتعبيراً عن النصوص الأصلية لهذه الأيديولوجية أو تلك.
وبالتالي، فإن المتوقع أن وجود الأيديولوجيات سوف يستمر طالما استمر الاحتياج لها من جانب البشر، ومن جانب جماعات وفرق داخل المجتمعات الإنسانية، وذلك بهدف إيجاد الوعاء والإطار الذي يبلور أفكاراً ومعتقدات، أو يعبر عن معاناة من جهة ومطالب من جهة أخرى لدى هؤلاء أو أولئك. ولا يعني ما تقدم أن الأيديولوجيات منقطعة الصلة بالواقع، بل المفترض أن تقرأ الواقع، ولكن وفقاً للمنطق الفكري والنظري الخاص بها والمفردات المتداولة بين أتباع كل أيديولوجية وأنصارها، كما عليها واجب صياغة طريقة معالجة أي واقع من جهة ما يعتريه من أوجه قصور أو خلل أو نقص أو من مظاهر فشل أو من أوجه عجز عن تلبية تطلعات الشعوب، بل إن الأيديولوجيات تستمد جزءاً مهماً من مشروعيتها في حقيقة الأمر كلما زاد الواقع المعاش تدهوراً وكلما بدت مقترحاتها للتعامل مع هذا الواقع أكثر جذباً لقناعات المواطنين العاديين، الذين ليسوا منتمين إلى أي أيديولوجية، حيث يبقى الارتباط بالأيديولوجيات مقصوراً في الأحوال العادية، وبعيداً من فترات التأزم التاريخي لأي شعب، بالكوادر البشرية ذات الوعي السياسي والاجتماعي الأكثر تقدماً داخل كل مجتمع، سواء كان في سياق دولة نامية أو متقدمة، حيث إن تلك الكوادر تكون عادة الأكثر تسييساً، ومن ثم الأكثر قابلية للتأثر بأي أيديولوجية، وذلك على أرضية أنها الأكثر التصاقاً بالشأن العام والهموم المرتبطة به من جهة، والأكثر قدرة على التأثير في المواطنين العاديين من جهة أخرى.
وليد محمود عبدالناصر
صحيفة الحياة اللندنية