عندما يتجه النظام العالمي لصوغ أسس وقواعد جديدة بفعل الدينامية المفرطة للمتغيرات الدولية، وصعود قوى منافسة للهيمنة الغربية تحاول إعادة التوازن للساحة السياسية الدولية، فإن السؤال المشروع هو: متى ستستفيد الدول العربية من هذه المتغيرات، وترتقي إلى مستوى دولة وطنية جامعة تقبل الاختلاف والتعدد لتشكل في مرحلة لاحقة عنصرا إيجابيا في التكامل العربي.
العطب الداخلي معلوم، والنظم الحاكمة مسؤولة، ولكن من ناحية أخرى لا يمكن أن نتغافل عن الأدوار الخارجية في تعطيل مسارات نهضوية وإمكانيات تنموية. فالمنطقة بأسرها تدفع إلى الآن ثمنا باهظا نتيجة معاهدة سايكس بيكو، وما تبعها من مشاريع تخريب ومحاولات إعادة رسم الحدود وتغيير النسيج الاجتماعي. وجميعها أجندات قسمت الوطن العربي، وخلقت حدودا مصطنعة بين الدول. فنشأت الخلافات الحدودية المتواصلة حتى الآن، ناهيك من موجات العنف والصراعات الدموية، تحت عناوين دينية وعرقية وطائفية. الوصفة الغربية للديمقراطية، خاصة على الطريقة الأمريكية، في بداية هذه الألفية، صانت الاستبداد بامتياز، وخربت أوطانا ودمرت نسيجها الاجتماعي. ولم يبق منها ما يدل على وجود دولة. ويكفي أن نرى حال العراق وليبيا وسوريا وغيرها كأمثلة واضحة على ذلك.
عطلوا مسارا كاملا من إمكانيات التقدم في حُكم معلن بالإفلاس البنيوي والهيكلي. وتركوا معظم بلدان المنطقة تعاني مشكلة الهوية ومعضلة التعددية السياسية، ولم تستطع أن تخلق تجانسا وطنيا وتستوعب الاختلاف. والصراع والتنافر الأيديولوجي حل محل الوحدة والتعاون واستراتيجيات الاندماج والتكامل الاقتصادي المنشود على مستوى الوعي الجمعي الجماهيري على الأقل. وإلى الآن لا يعجبهم أي تقارب يحدث بين دول المنطقة، والأفضل بالنسبة لهم أن تبقى الدولة العربية تغالب نفسها، وتعاني مشاكلها الداخلية المتفاقمة. الرئيس الأمريكي، جو بايدن، حث خلال زيارته إلى المملكة العربية السعودية في يوليو 2022 مجلس التعاون الخليجي، على الانضمام إلى جهود إسرائيل لاحتواء إيران. ولكن الرياض توجهت بدلا عن ذلك إلى الصين. وإيران لن تخاطر بتعريض علاقاتها مع بكين للخطر من خلال انتهاك مثل هذه الصفقة، التي يعتقد السعوديون في ما يبدو أن إشراك الصين هو الضمان الأكيد بأنها ستستمر، على اعتبار أن الرئيس الصيني قادر على العمل كوسيط موثوق به بينهما. الصراع بين القوتين الإقليميتين يلحق بهما ضررا أكثر مما ينفعهما، والتكاليف الاقتصادية والسياسية والبشرية كبيرة. وبالتالي الخطوة التي حدثت هي في المسار الصحيح من ناحية استراتيجية وجيوسياسية. وهي بالتأكيد صفعة لإسرائيل وللولايات المتحدة. وبالقدر نفسه ربما كان وقع مؤشرات عودة العلاقات بين المملكة العربية السعودية وسوريا، بالاتفاق على إعادة فتح سفارتيهما بعد قطع العلاقات الدبلوماسية قبل أكثر من عقد. يحدث ذلك بعد نحو أسبوعين من قرار الرياض وطهران استئناف العلاقات في ما بينهما، وإعادة فتح سفارتيهما في كلا البلدين، بعد 7 سنوات أيضا من التوترات الثنائية. العالم يتغير فعلا والصراع يشتد، والمخاض عسير. فالقرن الماضي بدأ متعدد الأقطاب، ولكن بعد حربين عالميتين وعدد من النزاعات، أصبح ثنائي القطبية. ومع انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي، دخل النظام العالمي مرحلة الأحادية القطبية الأمريكية. أما الآن، فالنفوذ العالمي موزع ومشتـت، الأمر الذي يشكـل بداية المرحلة اللاقطبية حقيقة. وواقع اليوم متعدد الأقطاب سمح لبعض الدول، أن تتحرر نسبيا في خياراتها السياسية والاقتصادية. والأمر لا يقف عند بعض دول الخليج، وما يحدث من تقارب إيراني سعودي عبر الوساطة الصينية، بل سيتعداها إلى دول الساحل وجنوب الصحراء، وكيانات افريقية ما زال الاستعمار الفرنسي والبريطاني ينهب ثرواتها ويُفقر شعوبها، ويدفع بأبنائها نحو قوارب الموت والهجرة غير النظامية، ضمن مشاريع توطين مشبوهة ومحاولة لخلق الفوضى في دول أخرى. وهذا التغير في موازين القوى على مستوى عالمي جيد، من ناحية أنه ينهي مرحلة التفرد الأحادي الأمريكي بالعالم، الذي جعل هذه الدولة تفعل ما تريد لما يناهز عقدين من الزمن، باستخدام كل أشكال العنف العسكري والضغط الاقتصادي، جنبا إلى جنب مع دول أوروبية متذيلة في مقدمتها بريطانيا.
الوصفة الغربية للديمقراطية، خاصة على الطريقة الأمريكية، في بداية هذه الألفية، صانت الاستبداد بامتياز، وخربت أوطانا ودمرت نسيجها الاجتماعي
والذكرى العشرون لاحتلال العراق وتدميره من قبل جورج بوش وتوني بلير بتعلات كاذبة، هي وصمة عار لن تُمحى، وهؤلاء هم بالفعل مجرمو الحرب من الذين تتجاهلهم محكمة العدل الدولية في لاهاي، ولا تصدر مذكرات اعتقال بحقهم، إلى جانب قادة الحكومات الصهيونية الاستيطانية التي قتلت الفلسطينيين، وما زالت تنكل بالأطفال والشيوخ والنساء وتهدم البيوت، وتقنص الصحافيين وآخرهم الشهيدة البطلة شيرين أبو عاقلة، التي استثناها تقرير حقوق الإنسان السنوي لوزارة الخارجية الأمريكية. وفي إعلان مخجل حقا عن التقرير، خلال مؤتمر صحافي، قال وزير الخارجية أنتوني بلينكن: «نحن لا نوجه لكماتنا إلى أي شخص، نحن نسمي الأشياء كما نراها». هو فعلا يسمي الأشياء ليس كما يراها، بل بالاعتماد على رواية حكومة كيان الاحتلال الإسرائيلي. والمسألة لا تقف عند جريمة اغتيال الصحافية الفلسطينية، أو غيرها من ضحايا الكيان العنصري الاستيطاني الذي يحظى بدعمهم وحمايتهم. أيديولوجية الليبرالية المفرطة التي تعامل بها الغرب مع المنطقة، ضمن النظام الدولي القائم على قواعد، حيث ازدواجية المعايير ولبوس الأقنعة والكيل بمكيالين، ساهمت في تعثر الإنسانية أمام مآسٍ متواصلة، لعل أهمها الاحتلال الكولونيالي والاستيطاني المباشر والأخير لفلسطين، في عالم تواصل فيه دول تدعي الوساطة والبحث عن السلام إدارة الأزمات، من دون العمل على حلها. وهو شكل لا يسمح بإقامة حوار حضاري أو سياسي، لأن ذلك لا يتم إلا في ظل التوازن والندية والتكافل، ومن دونه تكون العلاقات، علاقات تبعية تسمح للأقوياء باستغلال الضعفاء. ولديهم من المؤسسات المالية التابعة ما يضمن أن تتكفل بالتضييق على الاقتصادات الوطنية، وبالتالي مصادرة قرارها السياسي والاقتصادي، ولا يزال وكلاء النفوذ الغربيون يسيطرون على البنوك المركزية في معظم البلدان، ما يجبر هذه الدول المغلوبة على أمرها على تطبيق سياسات انتحارية يحددها صندوق النقد الدولي، ومثل هذه السياسات تتعارض بشكل واضح مع المصالح الوطنية، ومن الطبيعي أن يتزايد قلق الحكومات بشأن الأمن المالي والوضع الاقتصادي وتداعياته الاجتماعية.
العدالة والمساواة والحرية بما هي أفكار أخلاقية، يجب أن تُطبق ضمن قوانين سياسية تحكُم العلاقات الإنسانية داخل المجتمع الواحد، حتى لا يتم تغييب شروط الحكم التي تسمو في المقصد. والديمقراطية والعدالة الاجتماعية توجد فقط عندما تأتي القيم والمثل بها إلى الحياة، خلاف ذلك هي مخدرات إدراكية وتعطيل لقدرات الناس التحليلية، وضحك على الذقون وبيع للأوهام. تكفينا الديمقراطية التي أتوا بها إلى العراق وغيرها على ظهور الدبابات، الشعوب العربية تنشد تغيير شروط حياتها المادية والاجتماعية والسياسية. وهي تستحق ذلك.
القدس العربي