قبل 50 عاما، عندما بدأت فورة الفوائض المالية العربية عام 1973 اتجهت النسبة الأعظم منها، ما يعادل حوالي 81.5 في المئة، إلى خزائن البنوك في الولايات المتحدة والدول الصناعية الغربية، توزعت بين ودائع مصرفية، بنسبة 50 في المئة تقريبا، ومحافظ وصناديق استثمارية بنسبة 21 في المئة، وفي أوراق مالية حكومية، على رأسها أذون وسندات الحكومة الفيدرالية الأمريكية بنسبة 12 في المئة. كما قدمت الدول الخليجية قروضا إلى الدول النامية تعادل 14 في المئة من قيمة الفوائض الدولارية النفطية، التي أطلق عليها خبراء الاقتصاد إسم «البترودولارات» كما استفاد صندوق النقد والبنك الدولي، بالحصول على قروض تعادل 4.6 في المئة منها. هذا التوزيع للفوائض النفطية الخليجية كان يعكس قصور اقتصادات الدول المصدرة للنفط، وضيق طاقتها الاستيعابية عن امتصاص هذه الفوائض، وتحويلها من مجرد ودائع إلى استثمارات.
الفوائض محركا للتنمية
لكن مياها كثيرة جرت في بحر الفوائض البترودولارية الخليجية خلال العقود الخمسة الأخيرة، تعلمت فيها قيادات دول الخليج كيف تستثمر ثروتها المالية لصالح شعوبها وشعوب الدول المجاورة والعالم، فتحولت الفوائض من مجرد ودائع مصرفية لدى البنوك الأجنبية، إلى استثمارات ضخمة محلية وعالمية، باتت تمثل علامة من علامات الاقتصاد العالمي، تسهم في تعزيز دور الدول النفطية الخليجية في بناء نظام اقتصادي عالمي جديد، يتسم بالمزيد من الحرية، والسوق التجارية المفتوحة، وانتقال العمل ورؤوس الأموال، وفتح مجالات استثمارية جديدة، محلية وإقليمية، في قطاعات التكنولوجيا والخدمات المالية والطاقة الجديدة والمتجددة، والرعاية الصحية والتعليم. هذا العام 2023 بعد 50 عاما من فورة الفوائض النفطية، يسجل حقيقة ساطعة، تبرهن على أن الدول الخليجية، السعودية والكويت وقطر والإمارات وسلطنة عمان والبحرين، لم تعد مجرد مصدر ضخم للفوائض الدولارية، التي تتدفق منها في صورة ودائع أو استثمارات مالية إلى العالم، وإنما هي الآن تمثل واحدا من أهم محركات النمو والمحافظة على الاستقرار الاقتصادي، وأنها أصبحت شريكا له صوت ونفوذ في النظام المالي العالمي. على سبيل المثال، فإن جهاز الاستثمار القطري يملك استثمارات مباشرة ضخمة في 60 دولة حول العالم، تشمل علامات تجارية ومالية مميزة، مثل شركات «فولكس واغن» و «بورش» للسيارات، وروس نفط الروسية للطاقة، ومتجر هارودز الشهير في لندن، والبنك الزراعي الصيني، وبنك باركليز البريطاني، إلى علامات رياضية شهيرة مثل نادي باريس سان جيرمان الفرنسي.
ومن الملاحظ أن الحكومات الخليجية في إدارتها لحركة رؤوس الأموال، لا تترك هذه الحركة للمصادفة أو العشوائية، وإنما تعمل على تنظيمها طبقا لمعايير، أهمها التوافق مع استراتيجيات التنمية في البلد الأصلي لرأس المال، وتنظيم تدفق الاستثمارات عبر قنوات مؤسسية مستقرة، بما يسهم في تحقيق الاستقرار والنمو الاقتصادي للبلد المضيف، إضافة إلى الالتزام بمعايير عالمية في الإدارة والتشغيل، لضمان أعلى مستويات الإنتاجية والتنافسية والربحية، لمصلحة الطرفين، صاحب الاستثمار، والبلد المستثمر فيه. على سبيل المثال أنشأ صندوق الاستثمارات العامة السعودي، شركات للاستثمار، بهدف تنفيذ استثمارات بمليارات الدولارات في مصر وسلطنة عمان والبحرين والعراق والأردن والسودان. وتتمثل إحدى النتائج المهمة لهذا التوجه الإقليمي للاستثمارات الخليجية في خلق سلاسل إمدادات إقليمية، لا تساعد فقط على تسريع وتيرة التكامل الاقتصادي، وإنما تقود أيضا إلى ترشيد عملية تخصيص الموارد الإقليمية، وتوسيع نطاق وفورات الإنتاج الكبير، ومن ثم تحقيق درجة أعلى من الترابط الاقتصادي، والجيوستراتيجي الإقليمي.
ويتوقع صندوق النقد الدولي زيادة إيرادات دول الشرق الأوسط من صادرات النفط والغاز بقيمة 1.3 تريليون دولار إضافية خلال السنوات الأربع حتى عام 2026. هذه الثروة الإضافية ستجنيها الدول المصدرة للنفط في الشرق الأوسط، في الوقت الذي تعاني فيه الدول الصناعية الغربية من أزمات الركود والتضخم، وغلاء المعيشة، وعدم الاستقرار المصرفي، مما سيطلق محركات النمو لتحقيق معدلات أعلى سريعة، بينما تعاني الدول الصناعية من ظاهرة «الركود التضخمي». ونستطيع من تحليل عملية الانتقال التاريخية للفوائض النفطية خلال السنوات الخمسين الأخيرة من مجرد ودائع مصرفية إلى محركات استثمارية محلية وإقليمية وعالمية، التوصل إلى خمسة استنتاجات كبرى:
الاستنتاج الأول: هو حيوية دور الفوائض في بناء اقتصاد حديث متقدم ومتنوع استعدادا لمرحلة ما بعد النفط، من خلال تحويل الفوائض إلى محرك استثماري جبار، لبناء وتوسيع الطاقات الاستيعابية المحلية وبناء اقتصاد حديث ومتنوع عالي الكفاءة بشريا وماديا. وقد أظهر تقرير أخير لمجموعة ميتسوبيشي المالية أن صناديق الثروة السيادية في الشرق الأوسط ضاعفت استثماراتها من 22 مليار دولار في 2021 إلى 52 مليار دولار في 2022. وشملت قائمة الصناديق العشرة الأنشط استثماريا على مستوى العالم 5 صناديق خليجية. ومن المعروف أن أربعة صناديق سيادية خليجية تأتي ضمن أكبر عشرة صناديق سيادية في العالم من حيث قيمة الأصول التي تديرها. هذه الصناديق هي جهاز أبو ظبي للاستثمار، الذي يأتي في المركز الثالث، بأصول قيمتها 790 مليار دولار، ثم مكتب الاستثمار الكويتي في المركز الرابع، بقيمة 750 مليار دولار، يليه في المركز السادس صندوق الاستثمارات العامة السعودي بقيمة 607 مليارات دولار، وتخطط السعودية لمضاعفة هذه الأصول ثلاث مرات من الآن وحتى عام 2030. ويأتي جهاز الاستثمار القطري في المركز التاسع باستثمارات قيمتها 475 مليار دولار. وتتصدر مؤسسة الصين للاستثمار قائمة أكبر عشرة صناديق سيادية في العالم، بأصول قيمتها 1.35 تريليون دولار، يليها صندوق النرويج الحكومي للمعاشات (المركز الثاني) بأصول قيمتها 1.13 تريليون دولار.
الاستنتاج الثاني: هو أن جزءا مهما من الفوائض، أسهم في إقامة نظام مصرفي حديث ومتطور، وهو ما أدى إلى خلق جهاز مرن لا يقتصر دوره على استثمار الفوائض فقط، بل يسهم في تعظيم قوتها وتوسيع نطاق دورها، من خلال تعبئة المدخرات المحلية للقطاع الخاص والعائلي. هذا التطور يستهدف حاليا رفع نسبة مساهمة الاستثمار في الناتج المحلي الإجمالي، في السعودية على سبيل المثال، من 22 في المئة عام 2019 إلى 30 في المئة عام 2030 طبقا لاستراتيجية التنمية السعودية التي تستهدف تعبئة موارد استثمارية بقيمة 7.1 تريليون دولار خلال تلك الفترة.
الدور الذي لعبته الفوائض في إنشاء وتوسيع نطاق الجهاز المصرفي، الذي أدى بالتبعية إلى تعزيز قوة الجهاز في تعبئة المدخرات المحلية، وأصبحت البنوك معنية بتكوين محافظ استثمار نشطة، وهو ما شجع على زيادة وانتعاش دور القطاع الخاص، وذلك على العكس مما حدث في دول أخرى مصدرة للنفط مثل روسيا أو كازاخستان أو فنزويلا، حيث بقيت إيرادات الثروة النفطية تحت سيطرة أجهزة الدولة. ومن ثم فقد شهدنا نموا سريعا ومتنوعا لدور القطاع الخاص، خصوصا في السعودية. ونستطيع أن نشير بالبنان إلى شركة «أكوا باور» كواحدة من العلامات البارزة في انطلاق القطاع الخاص السعودي، إلى واحد من أهم مجالات الريادة الاقتصادية في العالم، وهو مجال الطاقة الجديدة والمتجددة. بفضل الدور الذي لعبه الجهاز المصرفي المحلي، وهو ما أدى إلى دخول صندوق الاستثمارات العامة السعودي شريكا في الشركة، مع بقاء مؤسسيها على رأس الإدارة.
الاستنتاج الثالث: الذي نخلص إليه من دراسة عملية الانتقال التاريخي للفوائض النفطية من مجرد ودائع إلى استثمارات فعالة، هو تعزيز قوة الاندماج الاقتصادي الإقليمي. وعلى الرغم من أن الدول العربية الخليجية كانت صاحبة مبادرة في إقامة شبكة من صناديق التنمية الإقليمية، إلا أننا نعتبر أن التطورات في السنوات الأخيرة، قد سجلت تطورا مهما جدا، يتمثل في زيادة تدفقات الاستثمارات المباشرة من دول الخليج النفطية إلى الدول العربية المستوردة لرأس المال، خصوصا تلك التي تتمتع بأسواق كبيرة وموارد ضخمة مثل مصر والسودان والمغرب. كذلك فإن عوامل عدم الاستقرار الاقتصادي العالمي في السنوات الثلاث الأخيرة، لعبت دورا مغذيا للنشاط الإقليمي في مجالات الاستثمار المباشر بقيادة صناديق الثروة السيادية. ويعتبر الدور الذي تقوم به تلك الصناديق السعودية والإماراتية والقطرية في مصر، منذ ربيع العام الماضي حتى الآن، مثالا حيا على الدور الجديد، المنظم والمؤسسي في تغيير طبيعة مشروع الاندماج الاقتصادي العربي، وتحويله من مجرد مشروع للتجارة المشتركة، إلى مشروع لبناء جهاز إنتاجي مشترك مترابط عضويا، وهو ما يعتبر تغييرا جوهريا في مسيرة مشروع الاندماج الاقتصادي العربي.
الاستنتاج الرابع: يتعلق باستخدام جزء من الفوائض البترولية في استثمارات عالمية نشطة، من خلال امتلاك حصص مهمة أو قابضة في قطاعات التمويل والشركات الصناعية والتكنولوجية. وقد شهدنا في الأشهر الأخيرة الدور المصرفي العالمي لبنوك مثل البنك الأهلي السعودي «SNB» الذي يحوز 9.9 في المئة من أسهم مجموعة كريدي سويس المصرفية المنهارة. بينما تبلغ حصة الصناديق السيادية ومستثمري القطاع الخليجيين حوالي 25 في المئة من رأسمال المجموعة. وجدير بالذكر أن صندوق الاستثمارات العامة السعودي هو أكبر حملة الأسهم في البنك الأهلي السعودي. كذلك تملك صناديق الثروة السيادية الخليجية، أكبر حصة في رأس مال مجموعة باركليز المصرفية بقيمة تبلغ حوالي 1.71 مليار دولار، وفي مقدمتها جهاز قطر للاستثمار بنسبة 5.9 في المئة. ولا شك أن الأزمة المصرفية الحالية تعلم المصارف الخليجية درسا كبيرا في مخاطر الاستثمار المصرفي في الدول الصناعية الغربية.
الاستنتاج الخامس: الانتقال من دور «المستثمر» إلى دور «المستثمر الرائد» من خلال الريادة في مجالات معالجة الانبعاثات الكربونية والتخلص منها عن طريق ابتكار أنظمة تكنولوجية جديدة. والاستثمار في مجال تطوير وإنتاج محركات جديدة لوسائل النقل والآلات، عديمة الانبعاثات الكربونية والغازات السامة الملوثة للهواء والبيئة، وهو مشروع ضخم تشارك فيه شركة أرامكو السعودية مع عدد من شركات إنتاج السيارات وتكنولوجيا الاتصالات في العالم. الاستثمار في القطاعات التكنولوجية المتطورة ومنها السيارات الكهربائية، مثل حصة صندوق الاستثمارات العامة السعودي في شركة «لوسيد» والسيارات ذاتية القيادة والأنظمة المتصلة بها، مثل صناعة البطاريات الكهربائية، وأنظمة إدارة المرور في المدن الذكية، والاستثمار في الطاقة الجديدة والمتجددة، والاستثمار في أنظمة الخدمات المالية التكنولوجية الأكثر تطورا على المستوى العالمي، والاستثمار في مشروعات البنية الأساسية اللازمة لتعزيز التواصل والاتصال على مستوى العالم.
القدس العربي