سوف يكون سجل الرئيس «أوباما» محملا بإشراك الولايات المتحدة في حرب في الشرق الأوسط. ولكن هذا لا ينبغي أن يكون سببا للاطمئنان على الذات بين ساعديه. الجميع يعلم أن رفض الرئيس الانخراط في الأزمة الإقليمية في وقت سابق سوف يترك فواتير باهظة لتتحملها الإدارة القادمة. والطريقة الوحيدة لدفع هذه الفواتير ستكون هي الانخراط بشكل كبير في وقت ما في المستقبل. سياسة الرئيس لتجنب الحوار الجدي اليوم سوف تؤدي إلى تورط أكثر خطورة في الغد. حينما تنقع منزلا في البنزين، لا يمكن أن يدعي أنك لم تقم بإشعال الحريق حتى لو لم تقم بنفسك بقدح عود الثقاب الذي أشعلها. لم يقم الرئيس «أوباما» بنقع المنزل في البنزين، ولكنه على النقيض لم يمنع الآخرين من ذلك عندما كان يستطيع أن يفعل. لم يفعل «أوباما» شيئا في النهاية، وقد كان خياره هو كف اليد.
ساعد الرئيس ببساطة في تشكيل كافة مكونات الحرب في ذات الوقت الذي كان يسعى خلاله لتجنبها. «أوباما» يمكن أن سعيدا بالإرث الذي سيتركه لأنه في النهاية لم يشعل الثقاب. لكن من ذا الذي لا يؤمن حقا أن سياسات الرئيس «أوباما» بعدم التدخل لم تدفع المنطقة إلى أزمة غير قابلة للحل تقريبا. والواقع أنها غير قابلة للحل الآن إلا من خلال مواجهة عسكرية طويلة المدى والتي سوف تشمل الولايات المتحدة (يبدو أنها بدأت في ذلك بالفعل) ضمن نطاق أوسع غدا. كما يتجلى على أرض الواقع، لم تترك سياسات الرئيس الأمريكي أي خيار آخر. ما لم تنجح جهود وزير الخارجية «جون كيري»، فإن السيناريو الأكثر احتمالا وفقا للديناميكيات القائمة حاليا على أرض الواقع هو استمرار المواجهة العسكرية مع مستويات مختلفة الشدة مع زيادة عدد البلدان التي تدخل إلى الحلبة. يمكن للمرء أن يفعل الكثير من خلال عدم القيام بأي شيء، وغالبا ما يكون الطريق إلى الحرب يبدأ من القول بصوت عال إن أحدا غير مستعد للقتال.
ومع كل التقدير للرحلة الشاقة لوزير الخارجية، فإن فرصه في النجاح قد بدأت في التضاؤل سريعا.
دعونا نتفحص هذه الديناميكيات القائمة على الأرض.
السيد «بوتين»، الذي انتقل بنفسه من كونه غير ذا صلة إلى فاعل أساسي بفضل السيد «أوباما الذي انتقل بنفسه من فاعل أساسي إلى شخص غير صلة تقريبا. وقد غير «بوتين» رأيه بعد دخوله سوريا بصحبة قوة صغيرة. يريد السيد «بوتين الفاتح» للأسد أن يبقى دائما، في حين أنه كان قد ألمح في وقت سابق إلى العديد من المحاورين أنه على استعداد«لإعادة التفكير في مستقبل الأسد» إذا كان هناك اتفاق سياسي يحافظ على الدولة السورية.
لماذا وكيف غير السيد «بوتين» رأيه؟
حدث كل ذلك خلال زيارته لمستشار السياسة الخارجية لطهران في 23 نوفمبر/ تشرين الثاني. وصف «علي أكبر ولايتي»، مستشار «خامنئي» للسياسة الخارجية، زيارة «بوتين» بأنها «الأكثر أهمية في تاريخ الجمهورية الإسلامية الإيرانية». وأكد أن «الرئيس بوتين قد شدد أنه لا يوجد اتفاق حول سوريا يمكن أن يحدث دون التنسيق مع إيران». في 7 ديسمبر/ كانون الأول، كان «ولايتي» أكثر وضحا حيث اعتبر أن «الرئيس الأسد خط أحمر بالنسبة لجمهورية إيران الإسلامية. إنه شخص منتخب من شعبه».
لماذا يترك «بوتين» قراره بشأن «الأسد» إلى طهران؟ يرجع ذلك بالأساس إلى سببين: أولها أن التحالف بين البلدين هو أوسع بكثير من سوريا فقط وقد أصبح عنصرا رئيسيا في سياسات روسيا في غرب ووسط آسيا وسياسات الغاز الطبيعي. أما ثانيهما فهو أن «بوتين» لا يؤيد تماما فكرة رحيل «الأسد». الآن، مع تواجد قواته بالفعل في سوريا، فإنه يعتقد أنه موقفه قد تحسن إلى ما هو أبعد من فكرة التضحية بـ«الأسد».
من جانبهما، تعتقد إيران أن بقاء «الأسد» هو أمر مفيد للغاية. لأول وهلة، فإنه يعطي التدخل الأجنبي الشرعية المطلوبة لإجهاض أي طعن قانوني على أساس الأعراف والقوانين الدولية. ثانيا: فإن «الأسد» هو ضعيف جدا لمنع الإيرانيين من نشر سيطرتهم داخل بنية الدولة السورية حتى لو كان غير راض تماما عن ذلك.
ما بدأ كوعد موثوق للتفاوض على مصير «الأسد» عند نقطة ما من طريق الوصول إلى حل دبلوماسي تحول إلى «لا» صريحة. بل ومطالبة «بوتين» بأن «الأسد له الحق في الترشح إلى الرئاسة في الانتخابات بعد الفترة الانتقالية المقترحة». حسنا، نصف السوريين الآن هو لاجئين في مكان ما. من الذين سيصوتون؟ وكيف سيتم عقد التصويت في المناطق دون حتى الحد الأدنى من متطلبات الحكم؟ ومنذ متى يسمح للمجرمين بالترشح من أجل حكم ضحاياهم لفترة أطول؟ هذه هي النقطة بالضبط. أولئك الذين يعيشون في سوريا «الأسد» فقط هم الذين سيصوتون. والنتيجة معروفة تحت شعار يرفع في دمشق الآن منذ سنوات: «الأسد إلى الأبد»، كما يغني له الموالون.
وقد قال «بوتين» للرئيس الفرنسي إن «الأسد» لن يرحل. وقال أيضا الرئيس «أوباما» في قمة المناخ أن «الأسد» سيبقى. يأتي كل هذا في أعقاب الضغوط التي وضعها كيري على العرب والأتراك من أجل القبول ببدء التفاوض حول مرحلة انتقالية في وجود «الأسد» في السلطة. أصر الأتراك والعرب على رحيل «الأسد» قبل الحديث عن أي انتقال.
وفي الوقت الذي أبدى فيه العرب والأتراك مرونة بالتخلي عن شرطهم بالرحيل المسبق للأسد في مقابل التزام واضح أنه سيرحل مع نهاية الفترة الانتقالية، وعلى الرغم من كون ذلك جزءا من تفهمات «كيري – لافروف» للوصول إلى حل، فإن الرئيس «بوتين» يتنكر لكل هذا.
وقد أقر «كيري» بأن مستقبل «الأسد» هو المشكلة التي تواجه الجهود الدبلوماسية الحالية. وقال أيضا أن القضاء على «الدولة الإسلامية» يمكن أن يتم في غضون بضعة أشهر من نجاح العملية الانتقالية. الآن، فإن الرئيس الروسي و«خامنئي» يقولون إنهم يريدون هزيمة «الدولة الإسلامية»، وفي ذات التوقيت، فإنهم في الواقع لا يردون قبول الخطوات المنطقية التي يمكن أن تؤدي إلى ذلك وهي مرحلة انتقالية تنتهي مع سوريا جديدة بدون «الأسد». هل يمكن لشيء أن يفسر ذلك؟
بالنسبة إلى إيران، يمكن للمرء أن يفهم. شجع الإيرانيون المالكي من أجل خلق البيئة التي خلقت «الدولة الإسلامية» حتى لو جاء ذلك على حاسب المتطلبات اللازمة للحفاظ على وحدة العراق. وهم يفعلون الشيء نفسه في سوريا. «الأسد» هو ذاته «المالكي»، لكن ماذا عن السبب بالنسبة إلى «بوتين»؟
وقال الرئيس الإيراني «حسن روحاني» في 5 ديسمبر/ كانون الأول إن بلاده مستعدة للعب دور أكبر في توريد الغاز الطبيعي إلى روسيا، في حين أعرب «خامنئي» عن امتنانه العميق لروسيا لصداقتها. في هذا الحال، يمكن لروسيا أن تتجاوز أي منتج رئيسي للطاقة في محيطها وتعزز قدرتها (مع دمج القدرات الإيرانية) على مواصلة الإمدادات إلى الغرب.
وقد أكد الرئيس الروسي أثناء وجوده في طهران الشهر الماضي أن روسيا سوف تزيد من صادراتها من الغاز الطبيعي إلى الشرق. كما أشار إلى أن التعاون مع الصين والهند هو قيمة كبرى. «نحن نخطط لزيادة صادرات الغاز في الاتجاه الآسيوي من ستة إلى 30 في المائة، أي بما يعادل 128 مليار متر مكعب». وبهذا سيكون حقل جنوب بارس مهما جدا من الناحية الاستراتيجية.
حصل «بوتين» على ما يريد. وعرض الإيرانيون ما أرادوا. أين يمكن أن يذهب «كيري» ونهجه الدبلوماسي في هذا السياق؟ لا شيء بكل تأكيد.
هزيمة «الدولة الإسلامية»
يدرك الرئيس الروسي، بقدر «كيري»، أو أي شخص عقلاني آخر، أنه لا يمكن هزيمة «الدولة الإسلامية» في ظل بقاء «الأسد» في السلطة، وهذا هو القول مع عدم وجود حل دبلوماسي في سوريا.
«خامنئي» يفهم جيدا أيضا، مثل أي طالب في المرحلة الثانوية، أن هزيمة «الدولة الإسلامية» في العراق يتطلب حكومة شاملة، ومع ذلك فقد دفع «المالكي» إلى فعل عكس ذلك تماما. نفس المقاربة التي استخدمت العراق هي التي يتم استخدامها الآن في سوريا، ويقف الرئيس الروسي الآن جنبا إلى جنب مع هذه الخطة التي تبدو غير منطقية بشكل واضح.
على كل حال، فإن المنطق في هاتين الحالتين يتم تعريفه وفقا للهدف الاستراتيجي المطلوب. إذا كان الهدف الاستراتيجي لإيران في العراق هو حقا هزيمة «الدولة الإسلامية» فإنها لم تكن لتفعل ما فعلته في العراق أو ما تقوم به الآن في سوريا. إذا كانت روسيا تريد حقا هزيمة «الدولة الإسلامية» ، فإنها لن تصر على منع السبيل الوحيد لبناء قوة جماعية من الجيش السوري والمعارضة والمجتمع الدولي يمكنها «القضاء على المنظمة الإرهابية في غضون أشهر». والسبيل الوحيد إلى ذلك هو رحيل «الأسد».
المقاربة الفارسية مختلفة تماما. يرى الإيرانيون أنهم يتقدمون ببطء وهم يعولون على ديناميات الحياة المتغيرة من أجل دفعهم أكثر إلى الأمام. ولكن في أي لحظة فإنهم ربما يسعون للاحتفاظ بمواقعهم إذا عجزوا عن دفع أنفسهم أكثر. المراهنة على رياح المستقبل هو جوهر استراتيجيتهم الصبورة طويلة الأمد. لقد رأينا ذلك في القضية النووية. لقد رأينا ذلك في العراق. والآن نراه في سوريا.
ولكن هل يستحق «الأسد» كل هذا العناء؟
لا، فهو في النهاية شخص واحد. وقد تمت مناقشة كل البدائل الممكنة بين «كيري» و«لافروف». فمن الممكن للحفاظ على الدولة وتغيير رئيسها في سياق المصالحة الوطنية.
لماذا إذا يتم رفض جميع العروض؟ لأنه في واقع الأمر ليس «الأسد» هو ما يهم هنا. ما يهم هو جوهر أي حل سياسي. إيران تريد سوريا كلها. إذا لم يكن ذلك ممكنا اليوم فإنها تأمل أن يكون ذلك ممكنا غدا إذا نجحت في إبعاد الغرب عن سوريا اليوم. نأخذ حالة العراق مرة أخرى، كان من الممكن أن يعطي رئيس الوزراء «حيدر العبادي» فرصة لتوحيد بلاده معا، ولكن إيران قد اختارت بدلا من ذلك دعم قوات الحشد الشعبي بهدف الحفاظ على ارتباط حاسم بين جنوب العراق وبين المدار الإيراني. دفعت طهران إلى تمكين هذه القوة من السيطرة على وسط العراق. قاومت الولايات المتحدة والقبائل السنية الأمر. مارست إيران الصبر في حين تحاول إزاحة الولايات المتحدة من العراق.
طهران لا تريد حكومة شاملة في بغداد. لم تكن ترغب في ذلك أبدا. إنها تريد كل العراق، ولكن ليس تحت إدارة «العبادي»، ولكن في ظل وكلائها الخاصين. هذا هو السبب في أنها تحافظ على تهييج الشعب ضد أي وجود الولايات المتحدة هناك. لا تشارك إيران الولايات المتحدة أهدافها، والآن نعلم أن السيد «بوتين» لا يفعل للأسف أيضا.
القضية ليست قضية «الأسد». «الأسد» هو العصا التي يمكن أن توقف عجلة ما يحاول «كيري» القيام به وهو توحيد سوريا من جديد من أجل أن تكون قادرة على محاربة «الدولة الإسلامية». ولكن يبدو أن «كيري» يبحث في اتجاه مختلف عن ذلك الذي تسير فيه موسكو وطهران.
إلى أين يمكن أن يأخذنا كل ذلك؟
الاختلافات في جداول أعمال كل من إيران وروسيا من جهة، وباقي العالم بما في ذلك العرب والأتراك من جهة أخرى، لا يمكن التوفيق بينها. لقد تحول ما كان سابقا شيئا ضمنيا إلى صورة أكثر صراحة: هناك صراع استراتيجي عالمي.
سوف تكون هذه حربا طويلة، ويبدو أن سوريا تتجه إلى المزيد من الألم. لكنه أصبح لا مفر منه على نحو متزايد. نحن نصلي من أجل أن ينجح «كيري»، لأن البديل هو الكثير من الدم والدمار.
ترجمة وتحرير فتحي التريكي
الخليج الجديد